جريدة عُمان 1444هـ/ 2022م
سبق أن زرت إيران مرتين، وسبق أن كتبتُ عنها في كتابي إضاءة قلم حول التّعايش من خلال الرّحلة القميّة، ولكن تحت خطّ البيت الإسلاميّ – إن صح التّعبير -، وفي رحلتي الأخيرة حاولت التّركيز على الإنسان من خلال اختلاف الدّين من جهة، ومن خلال العرفان الكامن في الوجدان الإنسانيّ من جهة ثانية، لمشروع كتابي أشتغل عليه ضمن سلسلة “إضاءة قلم” ذاته.
الّذي وجدته في إيران، وهي بلاد فارس الموغلة في القدم، والمؤثرة في التّأريخ الإنسانيّ؛ أنّها لا زالت تحمل تلك التّعدديّة والتّناقضات الفكريّة والدّينيّة والمذهبيّة واللّغويّة والتّراثيّة الشّفويّة والماديّة، ولا زالت تلك المعالم الموغلة في القدم ثابتة كشاهد لرحلة الإنسان وتطوّره التّأريخيّ، في زمن كانت إيران الكبرى الممتدة شرقا وغربا، والّتي أطلق عليها لاحقا بلاد فارس، حيث يعود تأريخها إلى سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، لتتواكب عليها دول وحضارات من الميديّة والأخمينيّة، وحتّى السّاسانيّة والعربيّة والقاجاريّة وحتّى اليوم، ولتتعاقب في حكمها الدّيانات من الزّرادشت والأرمن المسيحيين والمسلمين، ومن الأعراق المختلفة.
إنّ الصّراعات السّياسيّة والدّينيّة المذهبيّة قد تحول بين العديد من الباحثين وبين المعرفة، وكشف الآخر، في فترة زمنيّة ما، لكن على الباحث أن يكون مستقلّا بذاته؛ لأنّه يبحث عن المعرفة كمعرفة، بعيدا عن إملاءات السّاسة، وتأثيرات الأيدلوجيا الدّينيّة والمذهبيّة، فالسّاسة يختلفون ثمّ يتصالحون، لكنّ المعرفة لا تتوقف عند نقطة ما، وهي تتضاعف بشكل كبير جدّا، والدّراسات حولها تتقدّم كذلك بشكل كبير.
لقد وجدت من خلال زيارتي لمحافظتي أصفهان ويزد العديد من الباحثين الأوروبيين، من فرنسا وغيرها، يتوافدون لكشف هذا التّأريخ، وكشف هذا الإنسان وحضارته، وتجد المؤسّسات الغربيّة لكونها معرفيّة مستقلّة بذاتها، لا يكاد تترك شبرا في الأرض إلا وأرسلت إليه باحثيها وطلابها، وأمدّتهم بما يحتاجون إليه، حتّى يكون لهم ليس مجرد السّبق؛ بل إنّ كشف ذلك لا غنى عنه والعقل الإنسانيّ اليوم، فهي مايزت بين السّياسة وتقلباتها، وبين المعرفة واستقلاها، فإذا رهنت المعرفة بالسّياسة فسدت، وإذا رهنت بالدّين والمذهب تحجّرت وذابت؛ حيث أنّ المعرفة عابرة للسّياسة والأيدلوجيّا أيّا كانت.
إنّ ما يربط إيران بالمنطقة روابط ومشتركات عديدة، ابتداء من رابط الدّين، فإذا أثرت إيران سابقا في زرادشتيها في المنطقة، عن طريق الامتداد السّياسيّ، أو التّأثير التّجاريّ والثّقافيّ، وقد خلّد القرآن الزّرادشت باسم المجوس كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحجّ: 17]، والمجوس أصلها المكوس، وهي كلمة فارسيّة الأصل، بمعنى الموبد بالزّرادشتيّة أي العالم، كالحبر والكاهن والرّاهب، وليس بمعنى عبدة النّار كما يُشاع، كذلك الكنيسة النّسطورية، حيث بعد الاضطهاد البيزنطيّ وجدوا ملاذهم في بلاد فارس لفترة من الزّمن، حتّى جاء سابور الثّاني [ت 309م] فاضطهدهم ليجدوا ملاذهم في عُمان ابتداء، ثمّ الإحساء والبحرين، وحتّى العراق، ولا يزال وجودهم في العراق حتّى اليوم، كذلك تضمّ إيران أيضا الصّابئة المندائيين واليهود، والمسيحيين الأرمن والآشوريين، الأرثذوكس منهم والكاثوليك والإنجيليون، كذلك تضمّ الياريسيين والهندوس والسّيخ، بجانب الاتّجاهات الجديدة كالبابيّة قديما والبهائيّة حاليا، والمدارس العرفانيّة والغنوصيّة.
فإذا أثرت إيران سابقا في أديانها في المنطقة؛ إلا أنّ الإسلام الّذي جاء من بلاد العرب أثر فيها أيضا، في جميع الجوانب، واستطاع المسلمون من احتواء حضارة فارس لغة وفنّا وإبداعا وثقافة، ليخرجوا من بطنها علماء وفلاسفة وأدباء وعرفانيين ساهموا بشكل كبير في الحضارة الإسلاميّة، لتضمّ إيران اليوم الشّيعة الجعفريّة والأحناف والشّوافع، مع الاتّجاهات الصّوفيّة بطرقها، والعرفانيّة بفلاسفتها وغنوصيّتها.
أيضا اللّغة العربيّة أثرت في اللّغة الفارسيّة، وقد كانت اللّغة البهلويّة هي اللّغة الإيرانيّة القديمة، كما يقول صادق عبّادي [معاصر]: “إنّ تعاليم زرادشت كانت باللّغة البهلويّة، وظلّت باقية إلى عهد الإسلام، وكانت الدّواوين عند العرب تكتب باللّغة الفارسيّة القديمة، وسنّ عمر بن الخطاب [ت 23هـ] هذه الدّواوين، وفي العهد الأمويّ عرّبت من البهلويّة، والدّيوان كلمة فارسيّة بمعنى الدّفتر المكتوب فيه التّقارير المالية، ولمّا حكم العرب فارس كانت لغتهم العربيّة، بينما لغة البلد البهلويّة، ولمّا كان مركز الحكم العربيّ في القرنين الثّاني والثّالث الهجريين بلاد خراسان، وكانت لعتهم الفارسيّة، وهي لغة طاجيكستان اليوم، فتوسعت من خراسان إلى ما بعدها، فأزاحت اللّغة البهلويّة، فولدت لغة فارسيّة معاصرة، فإذا قيل الفارسيّة القديمة أي يقصدون البهلويّة، وإذا قيل الفارسيّة المعاصرة أي لغة بلاد خراسان، وهذه اختلطت بالعربيّة، فمفرداتها من خمسين إلى ستين بالمائة فارسيّة، والباقي مفردات عربيّة، ولكن ليس بالضّرورة أن تكون بذات المعنى العربيّ”.
بجانب التّأثير المتبادل في الدّين والمذهب واللّغة؛ هناك التّأثير في الفنون والموسيقى والعادات والمطعومات والمباني والنّقوش والأفلاج وغيرها، مثلا “اعتبر الفرس أساتذة العرب، فقد نقلوا منهم الآلات والألحان والمصطلحات الموسيقيّة، الّتي ما يزال منها موجودا إلى اليوم، بل حتى النّغمات المكونة للمقام لا زالت كلّها فارسيّة النّطق مثل الدّوكاة” [مقدّمة عبد المجيد دياب لكتاب رسالة في علم الموسيقى للصّفديّ]، ومن هؤلاء ممّن أخذ عنهم العرب مبكرّا “أبو جعفر سائب بن يسار اللّيثيّ بالولاء، فارسيّ الأصل، أخذ عن نشيط الفارسيّ، أحد أئمة الغناء والتّلحين عند العرب، أستاذ معبد، وابن سريج، وعزة الميلاء، وغيرهم، توفي سنة: 63هـ.” [الأعلام للزّركلّيّ]، وممّن أخذ عن نشيط من العرب ابن محرز.
الإشارة المهمّة هنا هي قضيّة التّرجمة من العربيّة إلى الفارسيّة، والعكس أيضا، حيث تراجعت بشكل كبير اليوم بسبب الأوضاع السّياسيّة، والجوانب الأيدلوجيّة، فمع النّتاج الفلسفيّ والمعرفيّ الّذي يكتب بالفارسيّة، ومع كونه قريبا منّا؛ لا زال غائبا عنّا، والعكس صحيح في ضرورة ترجمة النّتاج العربيّ إلى الفارسيّة؛ إلا أنّه توجد في إيران مراكز ومؤسّسات معنية بالتّرجمة وهي نشطة، بيد أننا كعرب بحاجة إلى جهد أكبر، لا يقتصر عند إيران فحسب، بل يمتدّ إلى الاتّجاه المشرقيّ يتجاوز إيران إلى الدّول الشّرقيّة الأخرى.
ثمّ إنني لمّا أتحدّث عن التّرجمة إلى العربيّة لا أتحدّث عن دولة قطريّة ما، بقدر ما نحن بحاجة إلى مركز عربيّ موحد، له مؤسّساته وجامعاته، يعنى بترجمة أهم المعارف الإنسانيّة، بكافّة اللّغات إلى العربيّة، حيث أننا نعاني من الشّتات في ذلك، والمعارف تتضاعف بشكل كبير جدّا، والتّرجمة في الوطن العربيّ ليست بذاك المستوى، كما أنّ أغلبها ذات جهود فرديّة لا تحقّق المراد بشكل شموليّ وسريع، بجانب التّأثير السّياسيّ والأيدلوجيّ الّذي يعوق حريّة التّرجمة، والاطّلاع على المعارف الإنسانيّة المتضاعة يوميّا بشكل كبير.
فإذا نزعنا من العقل الباطنيّ هذا الهاجس المعرفيّ لأسباب سياسيّة أو أيدلوجيّة؛ فنحن – كباحثين – أمام كنوز معرفيّة، قد تكون خيطا مهمّا في أنسنة التّعامل مع الآخر، وفي كشف العديد من الألغاز المعرفيّة، بجانب التّلاقح المعرفيّ، وأهميّته في الدّراسات النّقديّة والثّقافية، عندما تكون المعرفة بذاتها مستقلّة قدر الإمكان، ويكون البحث عنها وتفكيكها ونقدها متاحا للجميع، هذا يعطي قوّة للمعرفة ذاتها، كما يؤثّر إيجابا في الجوانب السّياسيّة والأيدلوجيّة والثّقافيّة الأخرى، لا يقتصر عند إيران فحسب؛ بل يمتدّ إلى جميع دول العالم، عندما تكون المعرفة هي المحرِّك [بكسر الرّاء] لا المحرَّك [بفتحها]، حينها نقترب من الإنسان كإنسان، بتعدّديّته وتأريخه وثقافاته، ليعيش واقعه بإنسانيّته ابتداء، وبانتماءاته لاحقا.