أجرى الحوار أحمد الجردانيّ، ملحق رمضانيات (جريدة الوطن) 1439هـ/ 2018م
- في البداية ما هو مفهوم الحريّة بين المنظور الدّينيّ والمنظور الأخلاقيّ؟
مصطلح الحريّة مصطلح قديم، فهو ليس وليد عصر النّهضة في أروبا، ولكنه أقدم من ذلك بكثير جدا؛ لأنّ الحريّة تولد مع الإنسان، وبالتّالي هي ولدت مع بداية الإنسان، وتطورت بتطوره في الحياة، في هذا يقول عمر بن الخطاب [ت 23هـ]: متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
ومن مقولة عمر استخدمت الحريّة في الفقه الإسلاميّ نقيض العبد، وفي هذا يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة/ 178]، إلا أنّها تطورت كمصطلح فقهيّ فتطورت إلى ما وهبه الله تعالى للإنسان من مكنة التصرّف لاستيفاء حقّه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء.
وهكذا في اللّغة تطورت من الخلوص من الشّوائب أو الرّق أو اللُؤْم إلى حالة يكون عليها الكائن الحيّ الّذي لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة، ويتصرّف طبقا لإرادته وطبيعته خلاف عبوديّته.
بيد أنّ الحريّة في القانون الرّومانيّ أقدم تقعيدا منها في الفقه الإسلاميّ، ويرى موقع موضوع في الشّبكة العالميّة نقلا عن بابونج في كتابه: ما هي الحريّة؟ أنّه قد ظهر هذا المصطلح لِلمرّة الأولى بصدور مرسوم من الحاكم ساردس الّذي أقرّ بمنح الحريّة الدينيّة للمسيحيّين، ثمّ ظهر المصطلح مرّة أخرى في قسنطينة مع مرسوم ميلانو عام 313م، وذلك عندما وَرَدَ عن الكنيسة الكاثوليكيّة: إنّ الإنسان خُلِق حُرّاً، لكنّه أساء استخدام الحريّة عندما أكل ثمرة من ثمار شجرة معرفة الخير والشّر.
وأمّا فلسفيّا فظهر مفهوم الحريّة مبكرا جدّا عند الفلاسفة السّفسطائيين، وعند أرسطو [ت 322ق.م]، وصولا إلى كانت [ت 1804م] وسارتر [ت 1980م]، والفلسفة حاولت مبكرا الالتفات إلى هذه القيمة كقضية كبرى متعلّقة بذات الإنسان.
إلا أنّ الاستبداد السّياسيّ والدّينيّ والمجتمعيّ أظهر هذه المفردة بصورة كبيرة في المجتمعات الإنسانيّة، ورفاعة رافع الطّهطاويّ [ت 1873م] بين أنّ مفردة الحريّة عند الغرب تقابل مفردة العدل عند الشّرق والمسلمين، ولهذا رفع المسلمون مبكرا لفظة العدل مقابل الحرية.
والقرآن الكريم قرر مبدأ العدل كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النّحل/ 90]، والجمع بين الاثنين وارد ولازم؛ لأنّ الحريّة تدور وفق العدل إيجابا وسلبا، فإذا ارتفع العدل حلّ محلّه الظّلم، ولا يجتمع الظّلم مع الحريّة بحال من الأحوال.
إلا أنّ المفهوم الحريّة في عصر النّهضة، وبعد الثّورة الفرنسيّة ساد أروبا والغرب ثمّ العالم أجمع، حتى أصبح حالة مقدسة مرتبطة بالقانون والإنسان، وظهرت اتجاهات فلسفيّة وفكريّة وأدبيّة واقتصاديّة وسياسيّة تتبناها كقيمة كبرى بين البشر، مع اختلاف التّعامل مع بعض جزئياتها لاختلاف النّاس وأديانهم وتوجهاتهم، إلا أنّها في الجملة اتّفق الجميع حولها، وضرورة لصقها بذات الإنسان وكرامته.
وأمّا مفهوم الحريّة في المنظور الدّينيّ فالأديان في الجملة لا تعارض الحريّة، وإن لم يرد هذا المصطلح الفلسفيّ فيها لتطور الحراك البشريّ ومصطلحاته، فالإنسان خلق حرّا ويموت حرّا، ويحاسب كفرد حرّ بذاته، إلا أنّ الأديان لم تتقبل فكرة الحريّة أو اللّبراليّة المطلقة، فهناك دوائر ثلاثة يدور حولها الفرد في منظور الأديان:
الدّائرة الأولى: دائرة التّشريع الغيبيّ، فهناك أوامر ونواهي يلزم بها، فيلزم بطقوس مثلا على اختلاف الأديان وبر الوالدين والإحسان إلى الجوار، وينهى عن جوانب سلبيّة كالسّرقة والزّنا والكذب والغيبة، فهنا تتوقف الحريّة عند طاعة الله تعالى، وترى الأديان أنّ طاعة الله حريّة تنقل الإنسان من عبوديّة الذّات والشّهوات إلى عبوديّة الخالق وحده سبحانه، وهذه من الأحديّة الصّمديّة لله وحده لا شريك له.
إلا أنّ الدّائرة هذه ستزيد لأسباب عديدة ليس محلّ الإسهاب فيها هنا، كالاتساع في زيادة نصوص عدا ما ورد في الكتب المقدسة، أو تحول دائرة التّأويل السّلفيّ إلى دائرة مقدسة عند الخلف، فتتسع دائرة الأوامر والنّواهي لتضيق دائرة الحريّة.
الدّائرة الثّانيّة: الدّائرة الفرديّة، فهو حر في ذاته إلا أنه ليس حرّا في جسده من حيث المصاديق الغيبيّة والمجتمعيّة القانونيّة، فليس حرّا أن يقتل ذاته، أو يقطع أطرافه، أو يشوه جسده، ونحو ذلك.
الدّائرة الثّالثة: الدّائرة المجتمعيّة والقانونيّة، فلأي مجتمع قانون وأعراف خلص إليها العقل البشريّ، فهو مرهون بها، وحرية الفرد تدور حولها.
فالحريّة في المنظور الدّينيّ ليست مطلقة، فهي قيمة ذاتيّة، إلا أنّها نسبيّة في مصاديقها الخارجيّة، ولهذا أصبحت حاليا لصيقة بالمنظور الأخلاقيّ؛ فالأديان وإن حسمت هذه القضيّة مبكرا جدا، إلا أنّ الفلسفة الغربيّة راجعت الفلسفة الأخلاقيّة وعلاقتها بالحريّة، وارتباطها بالمثل العليا، وتلازمها مع الأنا البشريّة، ومدى التّداخل والتّناظر مع النّظرة الدّينيّة، وهذا مبحث كبير ارتبط كثيرا بالصّيرورة البشّريّة والتّطور الفلسفيّ، وإن كان – في الحقيقة – الجميع متفقا على ضرورة المصاديق والضّوابط الخارجيّة، إلا أنّ الخلاف في مصادرها الغيبيّة، واتساعها التّفسيريّ، وهنا محلّ الخلاف، وليس في ذات الحريّة، أو في ضرورة الضّوابط والمصاديق الخارجيّة.
ـ – للحرية حدود نحو وميثاق التّعايش السّلميّ وتبادل الثّقافات كيف يكون ذلك؟
مصطلح التّعايش جاء في الفكر الغربيّ متأخرا عن مصطلح التّسامح، فيرجع بعضهم التّسامح إلى القرن السّابع عشر الميلادي في أوربا، وخصوصا بعد حرب الثّلاثين عاما [1618م – 1648م] بين الكاثوليك والبروتستانت في أوربا الوسطى.
وأمّا التّعايش فكما جاء في الموسوعة العالميّة ويكبيديا يتمثل في العلاقات الدّوليّة الّتي دعا إليها خروتشوف [ت 1971م] عقب وفاة ستالين [ت 1953م]، ومعناه انتهاج سياسة تقوم على مبدأ قبول فكرة تعدد المذاهب الإيديولوجيّة والتّفاهم بين المعسكرين الغربيّ والشّرقيّ في القضايا الدّوليّة، مع دعوة الأديان كافّة إلى التّعايش السّلميّ فيما بينها، وتشجيع لغة الحوار والتّفاهم والتّعاون بين الأمم المختلفة.
ومفهوم التّعايش أقرب إلى مصطلح القرآن وهو التّعارف كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات/3]، والتّعارف كما في مقال لي بعنوان: لتعارفوا … القيمة التّشريعيّة القرآنيّة بين البشر، وقد نشرته مجلّة شرق وغرب العمانيّة يحوي بعدين:
البعد الأول: التّعرف على الآخر: أي البحث والسّماع والسّير والكشف، أمّا البحث والسّير والكشف فيكون إمّا بالخلطة وكشف الآخر والسّفر، وإمّا بالقراءة والاطلاع على ثقافات النّاس وأفكارهم وتوجهاتهم.
وأمّا السّماع للآخر فيعني الانصات له، وفتح الحرية ليتحدث عن نفسه، وعدم الحكم على الآخر من خارج الدّائرة، خصوصا إذا كان خصما، فشهادة الخصم غير مقبولة.
والمشكلة الّتي نعانيها أننا لا نقرأ عن الآخر، وإن قرأنا فنقرأ للبحث عن العيوب وتضخيمها، لا لفهم الآخر، والبحث عن المشتركات مع الآخر، وإصلاح الكلمة، والاستفادة من الغير، أيا كان هذا الغير، وأيا كان توجهه وفكره.
البعد الثّاني: الاعتراف بالآخر: بعد التّعرف على الآخر تأتي ضرورة الاعتراف بالآخر من جميع الجوانب، وأولها حقه في الشّراك المدنيّ، فالمجتمع المدنيّ لا يكون على أساس التّوافق في القبيلة أو اللّون أو الدّين أو المذهب أو اللّغة، وإنّما يكون على أساس التّوافق في الذّات كذات، ويدخل فيها ما يسمى الآن بالمواطنة، فيكون جميع المواطنين أكفاء على اعتبار ذات الإنسان أو المواطن في الوطن الواحد، أو في بقعة معينة من الأرض.
ثمّ يأتي حق ممارسة الشّعائر والطّقوس كحق ذاتيّ لا يمكن التّضييق فيه، أو منع الإنسان منه، ولا يصح الإكراه في الدّين أو الشّعائر أو المذهب لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} البقرة/ 256، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الكهف/ 29.
بل جعل الله من غايات التّدافع في الأرض حفظ المعابد من كنائس وصوامع وغيرها، كما في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، واعتبرت هذه الدّور دور أمان لا يجوز إلحاق الضّرر بها بحال من الأحوال.
وبعد حق الشّراك المدنيّ، وحق ممارسة الشّعائر والطّقوس؛ يأتي حق الحريّة الذّاتيّة، لكرامة الإنسان كذات، إلا أنّ هذه الحريّة تكون وفق ضوابط التّقنين المدنيّ الّتي يرتضيها النّاس في مجتمع ما، شريطة أن يكون هذا التقنين حافظا لحريات النّاس كذوات، لا أن يكون حافظا للبعض دون الآخر، وكما أنّه حافظ للذّات يكون في الوقت نفسه حافظا للمجموع والجماعة.
ولهذا لا أرى مشاحة في الاصطلاح، والتّوافق البشريّ على ميثاق معين أمر محمود، وهو ما فعله النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – من خلال ميثاق المدينة.
- ذكرتم في إصداركم الخلقيّة والإنسان: رؤية قرآنيّة الصّادر عن دار سؤال/ لبنان حول الحريّة كقيمة بين البشر، هل لكم مختصر حول ما ذكرتموه في هذا الجانب؟
نعم بينتُ فيه أنّ الله تعالى خلق الإنسان حرّا في تصرفاته وفي وجوده، فالحريّة جزء من كينونته، سَلْبُهَا جريمة بشعة، وهذه من أعظم القيم المتعلقة بقيمة الإنسان الكبرى، وهي من كرامة الإنسان الذّاتيّة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء/ 70]، فلكلّ إنسان حرّيته في عبادته وتوجهه، واختيار المدرسة التي وُلِدَ فيها، أو اقتنع بها، أو الرّأي الذي يراه أقربَ صوابا، وأهدى سبيلا، ولا يجوز لأحد قمعه أو التّضييق عليه، نعم يمكن فتح باب الحوار، والجدال بالّتي هي أحسن.
وما حدث من انحراف عند البعض، ومحاولة فرض الرّأي الواحد، والمدرسة الواحدة، وتصور التّعدديّة أمرا سلبيّا؛ إنّ هذا ناشئ الفهم الخاطئ للرّسالات، ومن التّطبيقات السّلبيّة في التّأريخ.
والأصل في ضوابط الحريّة يقرها الوجود نفسُه، فقطع زهرة جميلة تعطي الوجود جمالا، ولا حاجة لقطعها لعلاج أو صناعة أو نحوه، إنّ قطعها يعتبر عبثا بهذا الكون، بعيدا عن الحريّة بمعناها السّليم، وهدا أمر بديهيّ، كذلك رمي الأذى في الطّريق ليؤذي الآخرين، هذا أمر منكر لا يحتاج لقانون أو شريعة تجرّمه أو تنكره، فهذا مما فُطِرَ الإنسانُ عليه، ولهذا نجد قوانين من صنع البشر، وضعها النّاس لتحقيق مصالحهم الدّنيويّة، ولتضبط حياتهم، وتحفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فليس من الحريّة بمنطق العقل تجاوز هذه القوانين، إذا كانت من قبل العقلاء، ووضعت لتحقيق الشّراكة في المجتمع الواحد.
فشرائع السّماء لم تأتِ أبدا، وفي أيّ حال من الأحوال إلى كبت حريات النّاس، وإنما جاءت لأمرين: الأمر الأول: تحقيق الحريّة الحقيقيّة بالتّرفع عن عبادة الذّات والشّيطان والشّهوات إلى عبادة الخالق سبحانه، والأمر الثّاني: تهذيب الغرائز، لتكون وفق الفطرة الّتي خلق الله عليها الإنسان.
ـ – حرية التّعبير وحق إبداء الرّأي هل لكم من توضيح ذلك؟ وهل هناك نماذج من الإساءة للآخر؟
من المفاهيم المعاصرة مفهوم حرّية التّعبير وإبداء الرّأي، فالقرآن أصلّ القضيّة قولا وعملا، فمن حيث القول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة/ 256]، وقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف/ 29]، ومن حيث العمل قوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء/ 84].
ولسنا هنا بغرض تقرير الجانب الأصوليّ والدّلاليّ في مفردة الرّأي من حيث الخبر ومن خلال الدّلالة، فهذا مبحث آخر، وإنّما نلتفت هنا من خلال الجانبين التّكوينيّ والتّشريعيّ، فكجانب تكوينيّ كما أسلفنا في الثّلاث الآيات السّالفة، فيها تقرير تكوينيّ أنّ الإنسان حرّ في ذاته التّكوينيّة.
أمّا تشريعا فالقرآن شرّع العديد من الأدبيات كقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام/ 108]، واشترط الحوار مع أهل الكتاب أن يكون بالّتي هي أحسن في قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت/ 46]، وإذ اكان الحوار والتّعارف مع أهل الكتاب بالّتي هي أحسن، فإنّ الحوار مع النّاس جميعا والتّعرف عليهم عن طريق هذه الوسيلة يكون بالحسنى كما في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} البقرة/ 83، أي المبالغة في الحسن في الحوار وفهم الآخر، والتّعرف على الأمم والملل.
ولهذا التّشريعات أيضا مفتوح لها سنّ الضّوابط والأدبيات بما يتوافق وفق الزّمان والمكان وتطور الوسيلة، شريطة أن لا تكون هذه الضّوابط قمعا للأصل التّكوينيّ في حرّية التّعبير والرّأي، وإنما ضابطا تنظيميّا وحافظا للكلّ.
وأمّا من حيث صور الإساءة فكثير كالسّب والشّتم والافتراء والبهتان والكذب والإشاعة والصّراخ، وحتى التّهديد والتّصفيّة الجسديّة، أو السّجن والإيذاء النّفسيّ، وهذه جوانب لها تنظيماتها وتأطريها قانونا ومجتمعا.
ـ – هل لوسائل الأعلام المتعددة حدود في حرية التّعبير؟ وكذلك وسائل التّواصل الحديثة؟
الحدّ عند المناطقة هو السّور الواضح والجامع للشّيء ابتداء وانتهاء، وعليه شخصيّا أفضل هنا استخدام مصطلح الضّابط لأنّه أوسع، وقابل للتّطور.
فمثلا في السّابق كانت حرّية الرّأي تكمن في حيز محدود كالكتاب والمجالس والمنابر والشّعر والمقامات والقصة، ثمّ لما تطور الغناء والمسرح تعلّقت بفنون أكبر، ورسائل توصيليّة أبعد، وهكذا حتى ظهرت الصّحافة، ومن ثم الإذاعة والتّلفاز والفضائيات.
وإذا كان تشارلي تشابلن [ت 1977م] ذكر في فلمه الدّكتاتور العظيم أنّ الرّاديو قرّب بين النّاس؛ فإنّ الشّبكة العالميّة من خلال المواقع والمنتديات والمدونات جعلت النّاس تعيش في قرية واحدة، ومع هذا ضبطها كان أقرب؛ إلا أنّ وسائل التّواصل الاجتماعيّ جعلت الإنسان حرّا يملك صحافته وقناته بذاته، ينشر متى شاء، ويتحدث وينشر في أيّ وقت أراد، فلهذا الضّوابط لابدّ أن تساير الواقع والوسيلة، وأن يفتح للنّاس الحريّة بصورة أكبر، وفق القيم الكبرى.
وبطبيعة الحال لا يمكن لمتحدث وكاتب مثلي أن يتحدّث عن الضّوابط، فهذه يسنها مؤسسات تقرأ الواقع بعمق، لتضع القانون والتّنظيم ملائما وتطور الصّيرورة البشريّة.