المقالات الإجتماعية

المناهج الدّراسيّة ودورها في تعزيز الهويّة والانتماء الوطنيّ

الذي يربط بين أبناء المجتمع الواحد صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا بعد وحدة الجنس البشري الهوية والانتماء والوطني، فالجنس البشري وحدة كلية عامة كما يقول الفيلسوف سقراط وهو على فراش موته: أنا لست أثنيا ولا يونانيا؛ أنا مواطن عالمي، أي باعتبار أصل الجنس البشري.

فالجنس البشري باختلاف ألوانهم وأجناسهم وتوجهاتهم الدّينية والفكرية أصل جنس واحد، فهم مواطنون باعتبار الذات والأصل.

إلا أنّ الله سبحانه وتعالى كما شاء أن يتعدد الناس في لغاتهم وبشرتهم وخلْقتهم؛ شاء الله سبحانه أن يتباينوا في بيئاتهم وأوطانهم وبلدانهم، وهو من آيات الله تعالى في الكون، { وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}.

ومع تطور الحراك البشري، ظهرت أقاليم ذات حدود معينة، يسكنها مجموعة من البشر، يختلفون في جوانب من الحياة، ويشتركون في جوانب أخرى، فنجد بلدانا تضم شعوبا مختلفة لغة ودينا ولونا وتقاليد وأعراف، ونجد بلدانا أقل اختلافا أو أكثر من ذلك.

من هنا استطاع العقل البشري أن يتجاوز هذه المرحلة وهذه التعددية لتكون في حد ذاتها عنصر بناء للأرض والبلد لا عنصر صراع وشقاق، وذلك تحت ظلّ المواطنة أو الولاء للبلد والشعب الواحد.

وهذا ما فعله النبي –صلى الله عليه وسلّم- عندما هاجر إلى المدينة المنورة فوجد أمة مختلفة لونا فهناك الأبيض والأسود، ومختلفة دينا فهناك المسلم والمشرك واليهودي وبعض النّصارى، بجانب الاختلاف القبلي والاقتصادي.

إلا أنّ النبي –عليه الصّلاة والسّلام- أول عمل قام به هو تأسيس قاعدة الأخوة خاصة بين المهاجرين والأنصار، والأخوة صورة من صور المواطنة.

ثمّ كان دستور المدينة، وهو دستور مدني يحفظ للجميع حقوقهم، ويعطي للكل الحرية الدّينية والفكرية للعيش المشترك وفق المصلحة الواحدة.

فالمواطنة والانتماء الوطني وإن كانت مصطلحا جديدا؛ إلا أنها مبدأ إنساني قديم نصّت عليه شرائع السماء، ورسالات الأنبياء، وهو تحقيق لكرامة الجنس البشري في استعمار الأرض وإصلاحها.

ولا شك أنّ المواطنة مقدمة على المصالح الفردية والقبلية والنسبية، بل وحتى العلمية والمالية، فالناس في أصل الوطن سواسية من حيث أصل الجنس البشري، فالعدالة والقسط بينهم على هذا الأساس، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

وعلى هذا الأساس تقوم الحياة في أي بلد أو مجتمع كان، وعليه يكون مؤسسات العمل المدني والحكم بين الناس، وبه تستقر الأوطان، وتتقدم وترقى البلدان.

وبعد هذه المقدّمة اللطيفة نأتي إلى موضوع الحوار وهو المناهج الدراسية، والأصل أنّ المناهج الدّراسية بشكل طبيعي مناهج عقلية بشرية، تربط الناس ببعضهم بعضا وبمصالحهم ووحدتهم، وبإصلاح الأرض واستعمارها، وعدم الإفساد والإخلال بها.

إلا أنّ ما يعوق تحقيق هذا في المناهج أنّ عنصر التلقي عند الطّالب لم يعد مقصورا على المناهج فحسب، فهناك مناهج تلقي أخرى تزاحم المناهج الدراسية بقوة، وتؤثر في العقليات أكثر مما تؤثر فيه المناهج الدراسية ذاتها.

ومن هذه التلفاز والقنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والشبكة العالمية، كلّ هذا أوجد خللا في الولاء والانتماء الوطني، بجانب الأعراف التقليدية التي علّقت الانتماء على النسب واللون والقبيلة، بجانب الخطاب الديني المذهبي الذي جعل الولاء رهين المذهب أو الملة.

وعليه ستجد من مخرجات الطلاب من يوالي غير تراب وطنه باعتبار المذهب، أو من يقدّم مصلحة القبيلة والنسب على المصلحة العامة من مصالح الوطن.

من هنا ستكون المصالح الفردية والجزئية مقدمة على المصالح العامة في التلقي، وإن تجاوزنا عنصر التلقي وكان الولاء هو الأساس إلا أنّ الطالب هنا ولو بعد حين سيعيش في ازدواجية، فما يتعلمه في مناهجه من وطنية وانتماء وطني شيء، وما يراه في الواقع شيء مغاير تماما.

وعليه لإصلاح هذا الخلل لابد أن يكون العلاج شموليا، ولا يقتصر على المناهج فحسب، إلا أنّ المناهج بلا شك القنطرة الأولى بعد الأسرة في بناء جيل متكامل في ولائه ووطنيته.

وعليه لابد أن تنطلق المناهج في جانبيها التعليمي والتربوي من القيم المؤسسة للولاء والبناء الوطني، وأن يكون العنصر الرابط بين الأخوة هو عنصر الإنسان الذي كرمه الله كأصل في ذات خلقته.

فالناس وإن اختلفوا في قبائلهم وأجناسهم، وتعددوا في توجهاتهم وأفكارهم، وتباعدوا في بيئاتهم وأوطانهم؛ يبقى الإنسان إنسانا، وكرامته مصونة محفوظة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.

والناس جميعا يعودون إلى مصدر واحد، إلى آدم وحواء، فهم أهل بيت واحد، وأخوة في الإنسانية، والأصل أنّ أهل البيت والوطن يعمهم السلام، ويسود بينهم الود والاحترام، ويكونون يدا واحدة في بناء هذا البلد أو الجزء من الأرض.

فلابد بداية من إصلاح قيم المناهج ومنطلقاتها، والارتفاع عن المصالح الفردية والآنية، وعدم ربط الوطن برموز بشرية أو مذهبية، وإنما يربط بذات الإنسان وتكريم الله تعالى له، ومن تكريم الله سبحانه عمارة الوطن وإصلاحه على أساس العدل والقسط والمساواة والحرية والكفاءة بين الجميع.

وتحقيق هذا المبدأ لا يقتصر فحسب على بعض المناهج؛ بل يعم جميع المناهج، كما أنه لا يقتصر على بعض المستويات الدراسية بل يضل منهجا شموليا يعايش الطالب من ولادته وحتى فراق روحه من الحياة.

وإقامة مناهج مساعدة ومعالجة لبعض أخطاء الخطاب الفضائي وفي الوسائل الاجتماعية حسن جميل، لما أسلفنا من مزاحمة هذه المناهج للمناهج الدراسية.

فإذا أصلحنا ذات المناهج لابد أيضا أن نقوم بإصلاح الوسائل؛ لأنّ عنصر التلقي اليوم لم يصبح كبير فائدة بجانب ما تقوم به المناهج الأخرى من استغلال الطفرة التكلنوجية في توصيل أفكارها ومنطلقاتها وتعميق أهدافها.

فلابد من إصلاح الوسائل التعليمية لتساير العصر، وعلى رأسها حرية الرأي والإبداع.

أما حرية الرأي فيفتح المجال للطالب لكي يبحث ويناقش ويعمل عقله نقاشا وكتابة وبحثا، وأن يكون الحوار هو السائد في توصيل المناهج لا الحفظ والتلقين، والذي يتبخر بعد حين.

كذلك لابد من الإبداع خاصة في الوسائل الفنية والتكلنوجية، وأن يكون الطالب مربوطا بهذه الوسائل، ومنها يمرر أفكار المنهج في جو من الإبداع ومسايرة الواقع.

والمناهج الدراسية في الأصل ليست مقتصرة على قناة المدرسة، وعليه لابد من تفعيل القنوات الأخرى من إعلام ومسجد وجامعة وأسرة ومجتمع ككل، بحيث يكون الخطاب متكاملا في هذا الجانب وتحقيق هذه القيم المؤسسة للولاء والانتماء الوطني الحقيقي.

وبعد هذا كله المناهج ليست كلاما يردد لا أثر لها تطبيقا في الواقع، كمثل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.

فلابد أن تكون المناهج صورة حية للواقع في الولاء الوطني القائم على العدل والقسط والمساواة، وحسن توزيع الثروة، لا على أساس الأفراد والقبيلة والمصالح الذاتية والمذهبية، وإلا أنّ الطالب سيعيش في ازدواجية بين القيم التي يتلقاها وبين الواقع البعيد عنها.

فالمناهج في الحقيقة ليست طقوسا لا أثر لها، بل قيما ينزلها الطالب في وطنه، وعليه المناهج أعم من أن تكون كراريس يحملها في حقيبته، بل كتابا مفتوحا يعايشه طيلة حياته.

وعليه لتحقيق الولاء والانتماء الوطني الحقيقي لابد من إصلاح شامل للمجتمع، والمناهج طريق لهذا وليست هي كله، فالمجتمع ككل منهج وإصلاحه لتحقيق هذا الولاء الحقيقي ضرورة ملحة، بما في ذلك جميع القنوات في المجتمع، ووضع حصانة قيمية فكرية ليست تلقينا وحفظا وبل حوارا وإقناعا أمام الغزو والتداخل الفكري المعاصر.

جريدة عمان 1436هـ/ 2015م

السابق
المداراة والتّزلف والسّكوت في الحقوق الخدميّة في المؤسّسات الحكوميّة
التالي
ضرورة النّقد
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً