استطاعت وسائل التّواصل اليوم، والقناة اليوتيوبيّة أن تخرق الهيمنة السّياسية في صناعة الرّموز، حسب التّوجه السّياسيّ العام، فقد كانت السّياسة الرّسميّة مسيطرة بشكل كبير على الإعلام، وكان المنفذ الوحيد لها في توجيه العقل الجمعيّ، من خلال رموز تترضاهم هي، وتجعلهم قنطرة بينها وبين الجمهور، ولا يشذ عن ذلك إلا قلائل نتيجة تضحيات أو أسر يتكئون عليها.
وعندما نطلق الرّموز فلا يعني فقط في الجانب الدّينيّ أو السّياسيّ أو الفكريّ؛ بل حتى في جوانب الفن والكرة والإعلام والتّربيّة والاقتصاد، وغيرها من فنون الحياة.
وقد قارن المفكر الشّيعيّ أحمد الكاتب مثلا بين التّيارين الشّيعيّ والسّنيّ في الجانب الدّينيّ مثلا؛ فهو يرى أنّ السّلطة السّياسيّة استطاعت احتواء الرّموز الدّينيّة في المدرسة السّنيّة من خلال امتلاك جميع المتعلقات الماليّة من أوقاف وغيرها، في حين المدرسة الشّيعيّة بسبب أنّ الخمس يكون بيد المراجع ومكاتبهم؛ لا زالت تحتفظ بالهيمنة الاجتماعيّة، وبطبيعة الحال يندرج في الواقع السّنيّ الواقع الإباضيّ والزّيديّ سابقا.
ولا يهمنا هذا كثيرا لأنّ هيمنة الدّولة على ذلك، وعدلها في توزيعه كدولة مدنيّة صمام أمان أمام أيّ تطرف دينيّ وفئويّ.
الّذي يهمنا من السّابق أنّ السّلطة السّياسيّة أصيبت بصدمة كبيرة عندما بدأت الشّبكة المعلوماتيّة، وحاولت صناعة مواقع خاصة لها يشرف عليها رموز هي تختارهم، إلا أنّ بظهور وسائل التّواصل، والقناة اليوتيوبيّة أصيب بصدمة أكبر من الأولى.
فأمام وسائل التّواصل ضعفت الصّحافة والمجلات والمواقع الإلكترونيّة، وأمام القناة اليوتيوبيّة ضعفت الفضائيات الرّسميّة وغيرها.
من هنا ظهرت رموز ليست مرتبطة بالسّلطة السّياسية ولا بالسّلطة الدينيّة والمجتمعيّة، واستطاعت في غرفة صغيرة أن تصور نفسها وتخاطب مئات الجماهير، وتكتب لهم، مقابل اشتراك شهري بسيط وهاتف لا يكلف شيئا.
والدّكتور عدنان إبراهيم استطاع وهو في النّمسا بعيدا عن أيّ دعم مجتمعي أن يخاطب العالم وهو في مسجد صغير لا يكاد يساوي شيئا في بنائه أمام عشرات المساجد الّتي ضخت فيها الأموال، ولا يكاد تشكل من وجودها إلا تحفتها الفنيّة.
ولما منع سلمان العودة العام الماضي في شهر رمضان – حسب علمي – من الظّهور في إحدى الفضائيات، استطاع أن يخاطب المئات من محبيه بشكل شبه يومي من خلال هاتفه في بيته عن طريق البث المباشر في الفيس بوك.
الحاصل إنّ وسائل توصيل المعرفة اليوم أصبحت متاحة، ولغة منع الآخر، أو عدم السّماع له؛ أصبحت لا تجدي شيئا!!!
وما يقدمه عدنان إبراهيم معرفة قابلة للنّقد، وليست وحيا لا ينقد، وهناك العديد من القدرات العقليّة والتّنويريّة في العالم الإسلاميّ الّتي تجاوزت الخطاب المذهبيّ إلى الخطاب الإنسانيّ الّذي يسع الجميع، ومن الخطاب التّقليديّ إلى الخطاب القرآنيّ والعقليّ الّذي يسع الجميع، ومن أمثال هؤلاء مؤخرا مثلا أيضا السّيد كمال الحيدريّ في إيران.
عموما مسألة المنع لا تجدي شيئا في الحقيقة؛ لأننا لو عملنا معادلة بسيطة أنّ عدد الحضور لمحاضرة الدكتور عدنان إبراهيم في مدرج جامعة السّلطان قابوس وصل إلى سبعة آلاف، إلا أنّ هذا العدد بسيط جدا بالنّسبة له لأنّ خطبته الواحدة عن طريق النت يتابعها أضعاف العدد بكثير، ومتابعيه غالبهم ممن يقتنع بفكره، خلاف من حضر بالأمس، فقد يكون قد حضر ليس عن اقتناع، أو ليس عن رغبة، أو لا يهمه هذا الشّأن أصلا.
إلا أنّ تأثير الدّكتور – بلا شك – واسع، فمثلا كنت أسمع حوارا قبل أكثر من سنة مع شيخ سلفيّ كويتيّ، فكان السّائل يقول أنّه لا يكاد يوجد أسرة في الكويت إلا وفرد من العائلة أو الأسرة متأثر بعدنان إبراهيم، وقد يكون السّائل مبالغا إلا أنّ العدد ليس بسيطا في الوقت نفسه.
أتصور أنّ القرب أصبح ضرورة على جميع المستويات، فمثلا كانت نظرة الدّكتور عائض القرنيّ عن عمان سلبيّة، وقد سمعت له محاضرة منذ أكثر من عقد من الزّمان يذم سماحة المفتي، ولما زار عمان تغيرت نظرته.
وأنا شخصيا كنت أنظر إلى المجتمع السّعوديّ والسّلفيّة نظرة سلبيّة، فلما زرت سلفية بريدة والقصيم عموما والبحرين تغيرت نظرتي في الكثير من الجوانب، حيث كنا ننظر إلى السّلفيّة بصورة سوداويّة، ثمّ مع الخلطة يتبين لنا الكثير من المغالطات.
ولا يعني عدم وجود متطرفين، ولكن تجدهم في كلّ مذهب ودين، إلا أنّ الخلطة تضيّق الفجوة بين النّاس، وتقرّب القلوب على بعضها.
وفي الجملة نظام المحاضرات لن يكون بذات القوة؛ لأنّ الملقي سيراعي الأعراف السّياسيّة والمجتمعيّة لكلّ بلد، ولأننا بعد لم نتعود على الحريّة الكاملة في الطّرح، وتقبل طرح الآخر بكل معنى الكلمة، أكثر ممّا نستهوي المديح والثّناء.
عموما ما حدث من نقد لعدنان إبراهيم شيء طبيعيّ، ولا يعني الاعتراض على زيارته؛ لأنّ حضوره في المرة الأولى سيثير التّساؤلات كما حدث عند غيره كزيارة محمد شحرور وزيدان وحسونة؛ بل وحتى عند المغنين والسّياسيين وغيرهم، فحضورهم خاصة في المرة الأولى سيحرك بعض المياه.
وأخيرا حضور الشّخصيات والتّبادل في العالم العربيّ والإسلاميّ والإنسانيّ ضرورة، والسّماع للآخر والحوار معه ضرورة، ليس على المستوى الدّين الإسلاميّ، وليس على مستوى الفكر فحسب؛ بل على مستوى جميع الأديان والتّوجهات والأفكار والتّخصصات، لعل الله يجمع البشر في صناعة الإنسان وفهم الآخر، وبناء الأرض، وعدم إفسادها وخرابها…
فيسبوك 1438هـ/ 2017م