بداية قبل الدخول في المقال نتطرق إلى لفظتي الدين والعلم، أما الثانية فلا إشكال حولها، وأما الأولى فحولها الإشكالية، لأنّ الدين بمفهومه العام لا يقتصر على الأديان السماوية، كما أنه لا يقتصر على الدين الإسلامي، فهو لغة كما جاء في مختار الصحاح مادة دين: [والدِّينُ أيضا الطاعة، تقول دَانَ له يدين دِيناً أي أطاعه، ومنه الدِّينُ، والجمع الأَدْيَانُ، ويقال دَانَ بكذا دِيَانَةً فهو دَيِّنٌ، وتَدَيَّنَ به فهو مُتَدَيِّنٌ، ودَيَّنَهُ تَدْيِيناً وكله إلى دينه]، فالدين طاعة لفكر يُستلهم من مصادر مختلفة قد تتفق معها أو تختلف يبقى دينا بمعنى الطاعة والانقياد لهذا الفكر.
وهذا قدر مشترك بين المؤرخين ودارسي الأديان والمتكلمين والفلاسفة، جاء مثلا في معجم (لاروس) للقرن العشرين: [إنّ الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية … وإنّ الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية … إنّ هذه الغريزة الدينية لا تختفي بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد].
ولهذا كانت هناك أديان سماوية وأديان وضعية، وهم أكثر أهل الأرض، فهذا بالمعنى الغريزي، وهو ما يقابله بالمعنى اللغوي، ومنها الدين بمعنى الحق أي الموافق للفطرة التي أرادها الله تعالى حيث يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
وهذا لا يمنع أن تسمى الأحزاب والملل الأخرى دينا وإن عبدوا الأوثان، لذا سمى الله ما عليه المشركون وهم كثر أبان البعثة المحمدية دينا حيث قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ولم يكن دينهم على الفطرة، فقد كانوا يعبدون الأوثان من دون الله سبحانه وتعالى.
وعليه حتى التيارات والأحزاب التي تتبرأ ظاهرا من الأديان السماوية هي في ذاتها دين، لأنها تتشكل في في توجه وفلسفة معينة نحو الكون والاجتماع.
وإذا تقربنا قليلا من الدين الإسلامي، فهو وإن سمي دينا في الجملة إلا أنه لغة ينقسم إلى أديان سميت مدارس أو مذاهب، والحد المشترك بين المذاهب الإسلامية هو العقل والقرآن، وبعض العمل في الشعائر التعبدية، مع أن بعض المدارس الأخرى كان لها طقوسها الخاصة كالدروز والنصيرية، إلا أن جملة المدارس الإسلامية تشترك في الطقوس التعبدية وأكثر جوانب الفقه الأسري والمجتمعي والمعاملاتي والجنائي.
هذه المدارس لم تخلو من غزور روائي توراتي، ألصق بالقرآن الكريم تحت مظلة التفسير، وذلك لحبّ معرفة المجهول، حيث أنّ اليهود والنصارى والفلسفات الأخرى تقدموا زمنا في تحليل بعض الشخصيات والأحداث التأريخية إما للمعاصرة، وإما للرواية، وعليه عندما التصق المسلمون الأوائل بهؤلاء، أو من الذين دخل الإسلام منهم ككعب الأحبار ت (34هـ)، وعبد الله بن سلام ت (43هـ) وهما من أصل يهودي.
وهذه الروايات التوراتية لإضفاء الشرعية عليها أضيفت إلى الرسول الأكرم (ص)، ومنها ما أضيفت إلى المتقدمين كالصحابة والتابعين، أو تحت مظلة السلف أو آل البيت.
بيد أننا نجد النص القرآني يحذر من التسليم لثلاثة أمور:
الأمر الأول: موروث أهل الكتاب وانتشار التحريف بينهم، حيث قال سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
الأمر الثاني: التقليد والاستسلام للفكر الموروث حيث قال سبحانه: { أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ، بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}.
الأمر الثالث: عدم التأكد من صحة الخبر، حسب الآلة المتاحة، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وفي المقابل أمر الله سبحانه وتعالى بإعمال العقل والتدبر في مئات الآيات فمثلا عبارة أفلا تعقلون تكررت ثلاث عشرة مرة، وعبارة لعلكم تعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة لا يعقلون تكررت إحدى عشرة مرة، وعبارة لقوم يعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة إن كنتم تعقلون تكررت مرتين، وعبارتي ما عقلوه ونعقل تكررت مرة واحدة، وعبارة يعقلون وتعقلون تكررت مرتين، وهكذا دواليك.
كذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالسير في الأرض، باطنا وفضاء، لكشف أسرارها، وتسخير سننها، حث قال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}.
بجانب أنّه أمر بالتفكر في الكون حيث قال سبحانه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
بل حتى الآيات القرآنية ذاتها مع يسرها وسهولتها أمر الله سبحانه وتعالى بالتدبر فيها، قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
خلاصة ما تقدّم القرآن يدعو إلى التأمل والنظر والتدبر، وكلها ستنصب في النهاية في اليقين في جود الله سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
وعليه المقارنة بين العلم والدين غير متكافأة، لأنه سيظلم أديان بذلك، كما أنه سيظلم أفراد به تلقائيا، والأولى في المجال العلمي تحديد العبارة، لأنه إن قلنا التضاد بين الدين والعلم فهذا فيه وجه من الصحة، لأنّ الكثير من مفرزات الأديان من صنع البشر، أما إن قلنا بين العلم والقرآن، فهذا غير موجود قطعا، بل الله سبحانه وتعالى أمر بالنظر في الكون نفسه، ولو كان التعارض صحيحا لناقض الكتاب رأسا لما أمر، بل اعتبر القرآن حتى إثبات وجود الله تعالى ليس موروثا يلقى، وإنما تأملا وتدبرا في الكون، وجميعه سيقود إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، حيث قال: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}.
والله سبحانه وتعالى في الآيات المكية، وفي الخطاب مع العرب، وهم في بداوة الحياة، وبساطة الفكر، لم يأت وخاطبهم مباشرة بوجوده، بل حرّك قلوبهم وعقولهم للنظر والتدبر، والتأمل والتفكر، وأقسم بجمال الكون في أكثر من آية، لأن إعمال ذلك تلقائيا يقود إلى الإيمان.
ومن العجب أن يجعل من الإلحاد صورة عصرية ضدّ الله، ويقرن بالعلم، فيتصور العلم مناقضا للإيمان، ويلصق بالنظريات المعاصرة، خاصة نظرية التطور والنشوء للعلامة تشارلز داروين ت (1882م) مع أن داروين كان موحدا، ومات مؤمنا بالله تعالى، شأنه كأي يهودي في العالم، ولم يلحد بنظريته أصلا، وإنما ارتبط الإلحاد بنظريته بعده، خاصة عندما التصق بها الماركسيون والشيوعيون.
ولئن حدث تعارض بين جزئية من نظرية داروين مع اليهود والنصارى فهذا يعود إلى الأصل التوراتي البشري في سفر التكوين، والذي دخل علينا نحن المسلمين عن طريق الرواة والمفسرين، بينما الله يطلب منا في القرآن أن ننظر إلى أصل الخلق بما فيه الإنسان حيث قال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ولم يأمرنا أن نأخذ عن أهل الكتاب، فهو قادر بذاته لتفصيله وبيانه، ومع هذا تركه للعقل والنظر، ولو كان مبينا واضحا لتناقض مع أمره سبحانه وتعالى بالنظر والتفكر في نشأة الخلق.
كل ما في الأمر ذكر الله تعالى خلقَ آدم وتشريفه بالخلافة البشرية كان حقيقة أو رمزا أو مجازا على خلاف بين أهل التأويل، ومع هذا الله لم يذكر آدم أول مخلوق، ولكن فهم ذلك العلماء والمفسرون، ويبقى هذا فهما وتفسيرا لا نصا قاطعا، فهو قابل للنظر، وعليه مثلا اختلفوا في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فهناك من فهم بوجود مخلوقات بشرية قبل آدم، والأمر بالسجود كان للخلافة والتشريف الإنساني، وهناك من فهم غير هذا.
وكما أنّ التفسير للنص القرآني قابل للنظر، فكذلك أيضا النظرية الداروينية قابلة للنظر، فكما ينكر على (المتدين) – إن صح التعبير لأن العلماني كما أسلفنا متدين أيضا بعلمانيته – جعل التفسير نصا، أيضا ينكر على المتعصب للنظرية الداروينية من جعلها حقيقة علمية، كيف وبعض العلماء الغربيين لا زالوا يعتبرونها فرضية ولم تصل إلى النظرية، فكيف التعصب لها وجعلها حقيقة، وبالتالي جعلها مضادة للتوحيد، أو بوابة للإلحاد.
التعصب ممقوت في الجانبين، ونظرية داروين في ذاتها إن صحت تقود إلى الإيمان بالخالق العظيم، وقد خلق الناس أطوارا، والكون خلقه أطوارا، وفي النهاية لا يمكن للصدفة أبدا أن تكون هنا، فالتسلسل يدل على الموجد الأول للذرة الأولى، وهو الله سبحانه وتعالى.
والله يخبرنا بذاته لمعرفة خلق الكون والإنسان أن ننظر في خلق الذات البشرية حيث قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، وبين المراحل العمرية للخلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
فهذه النطفة والتي تتشكل منها خلية واحدة، فيحدث الانشطار الخلوي، ثم تتحول إلى علقة تعلق بجدار الرحم، فمضغة غير مخلقة، وبعدها مضغة مخلقة ذات عظام يكسى باللحم، هذه المراحل أنزلها الله تعالى في وقت لا يُعلم عنها بصورة علمية إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، ولو شاء الله تعالى لوضحها توضيحا، ولكنه ترك البيان للعقل البشري لينظر ويتدبر، وفي النهاية سيقوده إلى الإيمان بالخالق سبحانه شاء أم أبى.
والآن نأتي إلى النظرية التي طرحتها الأخت ابتهاج وهي نظرية، والتي قالت عنها: {هي نظرية علمية فيزيائية برزت في 2011، أحدثت جدلا كبيرا (قبولا ورفضا وتعديلا) بين العلماء والمفكرين والمثقفين والأحزاب الدينية والفكرية، وهي بكل اختصار تفترض أن الكون عبارة عن فراغ وقد أخترق هذا الفراغ من قبل جسيم “هيجز”، ووظيفة هذا الجسيم هو أن يعطي الأشياء كتلتها والكون شكله ويحفظ الحياة على الكون، وتكتسب الأشياء شكلها عن طريق احتكاكها وتفاعلها مع الجسيم، فكلما زاد تفاعلها زاد كتلتها، وكلما قل تفاعلها قل كتلتها وتكون أقرب للطاقة مما أن تكون مادة، وبالتالي يعد هذا الجسيم هو منشئ شكل هذا الكون وبدونه سيكون هناك الفراغ والعدم والأشياء تصبح متساوية الكتلة مجرد فوتونات وضوء يهيم في الكون}.
ولا أدري ما علاقة هذا بالإلحاد، فهذه النظرية تثبت في حدّ ذاتها الوجود بأنه لم يكن صدفة هكذا، وقرن الله تعالى بهذه الجسيمة قياس مع الفارق، فهذه في النهاية طاقة أو مادة، والله تعالى بخلاف ذلك، حيث قال: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وعليه لا يجوز المقارنة أبدا، بل إنّ الله سبحانه وتعالى ذاته بين في كتابه وأشار إلى هذا الانفجار: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
القرآن كطبيعته يقرب الصورة لأنه كتاب هداية، ويعطي مساحة واسعة للنظر والتعقل والتأمل والتدبر، والسير لاكتشاف سنن الكون وتسخيرها.
وعليه هذه النظرية أيضا وإن كانت نظرية، والبعض يعتبرها فرضية، هي في ذاتها دالة على الموجد الأول، فمن الذي أوجد هذا الجسيم، فإذا كان الكون بأجمعه لم يك نتاج صدفة لأن هذه النظرية تبطل الصدفة، وتعيدها إلى الجسيم الأول، وعليه اعتبار الجسيم الأولى نشأ صدفة فهذا نوع من المغالطة، فالسببية تثيت أنّ له مسبب في النهاية، وهذا لا يكون إلا الله وحده سبحانه وتعالى، وقد تأتي نظريات تثبت له سابق من المخلوقات، وفي النهاية النتيجة واحدة وهي الإيمان بالموجد الأول سبحانه وتعالى.
مثل هذا كمثل القصر العظيم، فهذا له بداية، ولا يعقل لهذه البداية أن تكون منشأ صدفة، فهناك مهندس وضعه وخططه، وأتقن صنعه، ثم هذا المهندس ليس من ذوات القصر، فهو نوع منفصل، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.
وعليه القرآن أعطى بحبوحة للنظر والتأمل والتدبر، وضمن كل من أعمل عقله ونظر وتدبر سيقوده إلى الإيمان والتوحيد، وكل من وصل وبعدها كابر فهو في الحقيقة مكابر ومعاند، والشك يقود إلى الإيمان، والعلم طريقه، وهما نقطتان يربط بينهما خط السير في الكون، واكتشاف ما فيه، وغايته عمارة الكون تحت العبودية المطلقة لله جلّ جلاله.
فلا يجوز الخلط بين القرآن ونتاج البشر، فإذا كان الثاني يعارض العلم فلأنه صنع بشري، أما كتاب الخالق فهو يدعو إلى العلم، ويعتبر الإيمان عن طريق العلم لا التقليد.
من هنا الإلحاد في الحقيقة لا وجود له في العلم والقرآن معا، والتشبث به تشبث ببيت العنكبوت ينهدم أمام النظريات المعرفية والعلمية وحقائق الوجود، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
مجلّة فضاء الفكر 2012م