جريدة عمان 1443هـ/ 2022م
إنّ ما يحدث في أوكرانيا هو الشّيء ذاته الّذي حدث في عوالم عديدة، منها طال زمنه كما في فلسطين وغزّة، ومنها قريبا مع استمرار الوضع كما في اليمن مثلا، إلا أنّ الحرب هي الحرب، طالت أم قصرت.
لا أريد الحديث حول السّياسة والسّاسة، ولكن يهمني هذا الإنسان، فالحرب اليوم ليس كتلك الّتي في الماضي، حينما يلتقي جيشان ويتلاحمان، فلا يُقتل إلا المقاتل، ومن أدبر ترك، وفيها لا تهدّم الصّوامع والمصانع، ولا يقتل الشّيوخ ولا الأطفال ولا النّساء، ولا الرّهبان وغير المقاتل، ولا تقطع الأشجار، وتهدم الجسور، فكانت هناك أدبيات، تلتزم بها أمم، وتتجاوزها جورا أمم أخرى، مع كونها حربا جعلت لاحقا طريقا للسّبي لأجل استعباد البشر، واستغلالهم في الخدمة والفلاحة والمصانع والجيوش والأعمال الشّاقة، وفي المتعة الجنسيّة والمباهاة والتّجارة، ولكسب أكبر قدر من الغلمان والجواري والخدم.
بيد أنّ الحرب اليوم أشدّ بشاعة، فتطوّر الإنسان علميّا، وقابله تطوّره في صنع أسلحة يفتك بها البشر، وتدمر فيها القرى، فلم تعد تلك الحرب الّتي يلتقي فيها جيشان متقاتلان، بل أصبحت حربا على الأطفال والنّساء والشّيوخ والعجزة، ولم تقتصر على {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النّمل/ 34]، بل يدمرون كلّ شيء، من نبات وجماد وحيوان، وجسور ومصانع ومدارس ومستشفيات ودور عبادة.
ولم يعد ذلك العالم الفسيح الّذي يهرب فيه الضّعيف حفظا لنفسه من بطش السّاسة وأنانيتهم وأيدلوجيّتهم، بقدر ما يجد حدودا مغلقة، يعيش فيها لاجئا مشردّا، لا يقيه برد الشّتاء، ولا يخفف عنه حر الصّيف، في عالم من الاستعباد الجديد، والاستغلال في صور مختلفة، بعضها باسم الإنسان نفسه، ولكن لأهداف أيدلوجيّة أو سياسيّة أو دنيويّة دونيّة.
إنّ الاحتراب شر وبلاء يصنعه الإنسان، فلقد كانت الأرض فسيحة أمام “قابيل” و”هابيل”، فما أعطي هذا لم يعط ذاك، ولكن هذا التّعدد الأثنيّ كفيل بهما أن يتعاونا في تكامل الآخر من خلال استعمار الأرض صلاحا لا فسادا وخرابا، ولكن قتل أحدهما الآخر، في رمزيّة تتكرر اليوم في استغلال طاقات أمم، ونهب خيراتها.
إنّ “قابيل” و”هابيل” لا زالا حيين في صور ليست فرديّة، بل في دول كبرى، تتحكم في ثروات أمم أخرى، بدل تحقق التّكامل الّذي يقود إلى عدل الإنسان، قاد ذلك إلى تدمير أمم وعوالم، مع زيادة معدلات الفقر والتّشريد، ولا زالت الذّاكرة حاضرة ما فعلته أيدي الإنسان من آثار الحرب العالميّة الثّانية مثلا على هيروشيما وناجازاكي، واليوم العديد من الدّول تملك أسلحة ذريّة ونوويّة تكفي لدمار العالم أجمع، وما يستخدم في الحروب لا زال شيئا بسيطا ممّا يملكه البشر من أسلحة تفتك بعوالم عديدة، وتضع الأرض بلاقع.
ليست الإشكاليّة في العلم والأديان والفلسفات إذا ما كانت الغاية هو حفظ الإنسان، وبناء الأرض واستصلاحها، وعدم التّفريق بين البشر، ولكن الإشكاليّة عندما يستثمر العلم في غير طريقه، ويستغل الدّين لغير هدايته، وتستخدم الفلسفة بعيدا عن غاياتها الكبرى، ويقود العالم ساسة قد يلبسون لباس العلم أو الدّين أو الفلسفة، يلبسونها لا لأجل غاياتها، بل لأجل شهوة أو شهرة أو نشوة يدمرون بها العالم، ويترأسون على العلم والدّين والفلسفة قبل أن يترأسّوا على البشر، ويملأون الأرض ضجيجا في دمارها وفسادها، لا عمارتها وإصلاحها وإحيائها.
لقد اضطر البرت أينشتاين [ت 1955م] ممتعضا ومتثاقلا على الإمضاء على خطاب روزفلت [ت 1945م] للحاجة إلى إجراء تجارب على نطاق واسع لبحث إنتاج قنبلة ذريّة معلّلا ذلك بقوله: “لقد كنت على بيّنة تماما من الخطر الماحق الّذي يتعرض له الجنس البشريّ إذا نجح هذا المسعى، ولكن احتمال كون الألمان يعملون في هذا الاتّجاه مع فرصة للنّجاح؛ دفعني إلى اتّخاذ هذه الخطوة، ولم يكن في وسعي غير ذلك، على الرّغم من أنّي أدعو عن اقتناع إلى السّلام؛ لأنني أعتقد أنّ القتل في أثناء الحرب ليس أفضل ولو قليلا من ارتكاب جريمة قتل عاديّة” [البرت أينشتاين: أفكار وآراء، ص: 395].
ويقول في موضع آخر: “ومهما كانت شدّة المأساة، فإنّ الأشدّ إيلاما هو أنّه بينما أنجب الجنس البشريّ علماء بلغوا ذروة النّجاح في مجال العلم والصّناعة؛ ظللنا ردحا طويلا من الزّمن في عجز تام عن الاهتداء إلى حلول لمشكلاتنا السّياسيّة المتعدّدة، والتّقلبات الآقتصاديّة الّتي تؤرقنا، فالتّعارض بين المصالح الاقتصاديّة للدّول المختلفة مسؤول إلى حدّ كبير عن هذا الوضع العالميّ المتفجر الّذي ينذر بالخطر الآن، إنّ الإنسان قد عجز عن تشييد أشكال التّنظيم السّياسيّ والاقتصاديّ الّتي تضمن التّعايش السّلميّ لأمم العالم، إننا لم ننجح في بناء ذلك النّوع من التّنظيم الّذي يمكن أن يستبعد إمكان وقوع الحرب، ويحرّم إلى الأبد أدوات التّدمير الجماعي السّفاحة” [البرت أينشتاين: أفكار وآراء، ص: 368].
ومع إعجاب أينشتاين بغاندي [ت 1948م] معتقدا “أنّ آراء غاندي في مجموعها أصوب آراء رجال السّياسة في زماننا ….. أن لا نلجأ إلى العنف في الدّفاع عن قضيتنا، بل أن لا نشترك فيما نعتقد أنّه شر وسيء” [أفكار وآراء، ص: 390].
ومع محاولة العديد من عقلاء العلم والدّين والفلسفة في وضع منظومة حقوقيّة إنسانيّة تقود إلى السّلم العالميّ المحقق للعدل والمساواة بين البشر جميعا، إلا أنّ العالم اليوم يعيش متخوّفا من حرب عالميّة ثالثة أخرى، يستخدم فيها العلم والدّين والفلسفة في قتل الإنسان، وتدمير الحياة.
ومع مرور أكثر من نصف قرن من وفاة أينشتاين، ومع الآلاف الّذين تبنوا نظريته السّلميّة، وبنو عليها، إلا أنّ الواقع لا زال باقيا، ومنحنى العلم والقوّة لا زال في لغته البدائيّة الصّراعيّة القديمة مع تطوّر الإنسان ومعرفته بالآخر والوجود.
ومع محاولات الفلسفة والدّين في تهذيب الإنسان، إلا أنّهما كثيرا ما يحرّفا عن هذا المسار، إلى مسار تبرير الاحتراب وقتل الآخر وتشريده، باسم الغيب عند الأديان، أو باسم الإنسان في الفلسفة.
لهذا يجب في عالم اليوم ضرورة التّمسك بحبل السّلم، ومحاربة دعوات الاحتراب أيّا كانت، أو تضييق ما يبررها سياسيّا أو أيدلوجيّا، وإن كان الطّريق قد يبدو رومانسيّا، أو ليس واقعيّا في مجموعه، لكن ثبت ما فعله العقلاء بعد الحربين العالميتين الأولى والثّانية قدرة العقل الإنسانيّ في تحقق ذلك، لتعمر دول هدّمت بالكامل، ويشتغل الإنسان بالبحث والعلم والمعرفة، ويستقر أغلب العالم في العديد من أجزائه.
وهذا كما يحتاج إلى مراجعات؛ يحتاج ذاته إلى تعاون دولي وإنسانيّ يكون عابرا للحدود الجغرافيّة، والأثنيّات الدّينيّة والعرقيّة والفكريّة، إلى الماهيّة الإنسانيّة الواحدة، بحيث يخلق كتلة فكريّة ترفض أيّ دعوة إلى قتل الآخر، وتشريده، وقمعه، وإقصائه.
لا ينبغي الاحتراب في أوكرانيا اليوم أن يرجعنا إلى الخلف، فهناك المضحون لهذا الإنسان، بذلوا الكثير من حياتهم لتحقيق هذا السّلم، والّذي ينعم بها اليوم الملايين من البشر، كما أنّ هناك من يعاني من سوءات وآثار الظّلم في أجزاء أخرى من العالم، فعلينا أن نسعى لأن ينعم الجميع بذلك، أو على الأقل تحقق العدل والمساواة في ذلك.
كما أسلفت قد تبدو مثل هذه الدّعوات أقرب إلى الاستهلاك المعرفيّ في ظاهرها، ولكن في فضاء اليوم الّذي يؤثر هو خلق الأفكار الّتي تتدافع مع بعضها، ثمّ تؤثر أفقيّا، وهذا من أحدثه العقل في القرن العشرين، وهذا من ينيغى أن يبنى عليه في القرن الحادي والعشرين، لتنعم الأجيال القادمة برخاء وسلم يقودهم إلى عمارة الأرض وإصلاحها، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال/ 61].