مقدّم للمنظمة الإسلاميّة للتّربيّة والعلوم الثّقافيّة – إيسسكو – واللّجنة الوطنيّة الكويتيّة للتّربيّة والعلوم والثّقافة ضمن ورشة عمل شبه إقليميّة حول تعزيز الحوار والتّماسك المجتمعيّ في إطار العمل الثّقافيّ الإسلاميّ المشترك بدولة الكويت، من 15 – 17 سبتمبر 2019م.
مدخل الورقة
يعيش العالم الإسلاميّ اليوم ضمن قرية واحدة متداخلة، وأصبح البيت الإسلاميّ مكشوفا على الجميع بأصل نصوصه وزيادات تراثه وتأريخه، بحسناته وسيئاته، لهذا أصبح هذا البيت ليس مفتوحا على العالم فحسب؛ بل على أفراده ومكوناته هو في الدّاخل.
لهذا التّعددية داخل البيت الإسلاميّ حقيقة واقعيّة يجب أن تستثمر في بناء هذا البيت، وخدمة المجتمع الإنسانيّ الكبير.
وبما أنّ هذه الورقة تركز على الحوار الثّقافيّ ودوره في البناء المجتمعيّ والتّنمية المستدامة، فقد سبق أن كتبت بحثا بعنوان: الثّقافة العربيّة والحراك الاجتماعيّ، نشر في كتابي إضاءة قلم، من ص: 37 وحتى 64، تطرقت فيه إلى الثّقافة والمشهد السّياسيّ والتّفرق القوميّ في العالم العربيّ، والثّقافة والتّطرف الدّينيّ، والثّقافة والجانب الفنيّ والجماليّ، والثّقافة والوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ المترديّ، لهذا لن ألجأ إلى تكرار ذلك، وإنّما نركز هنا على الحوار وضرورته في الواقع الثّقافيّ في البيت الإسلاميّ الكبير.
ماهية الحوار الثّقافيّ ودوره في البيت الإسلاميّ
أسند في هذا البند – حسب محاور الورشة – الحوار إلى الثّقافة، والحوار مصطلح قديم في المنظومة الإسلاميّة خلاف الثّقافة الّتي استخدمت بكثرة في العصر الحديث خصوصا في نهاية القرن الثّامن عشر وبداية القرن التّاسع عشر، وظهرت بصورة أكبر في القرن العشرين مع علماء الأنثروبولوجيا.
وكما ذكرنا في مبحث الثّقافة في إضاءة قلم[1] عرّفها ندين لإدوارد تايلور [ت 1917م] بأنّها: “الكلّ المركب الّذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع”[2]، ويعرّف تركي الحمد [معاصر] الثّقافة “بمعايير العقل والسّلوك، والّتي تحدد معنى الحياة، حيث لا معنى لها بدون هذه المعايير، ورموز تحدد غايات الحياة، الّتي لا غاية لها بدون تلك الّرموز، بمعنى أنّ الثّقافة هي إجابة لسؤال الفرد والجماعة عن كيف ولماذا وإلى أين، أي الغاية من الوجود”[3]، ويعرّفها محمد فيضي [معاصر] “بمجموع العقائد والقيم والقواعد الّتي يقبلها ويمتثل لها أفراد المجتمع، ذلك لأنّ الثّقافة هي قوة وسلطة موجهة لسلوك المجتمع، تحدد لأفراده تصوراتهم عن أنفسهم والعالم من حولهم، وتحدد لهم ما يحبون ويكرهون ويرغبون فيه، ويرغبون عنه، كنوع الطعام الّذي يأكلون، ونوع الملابس الّتي يرتدون، والطّريقة الّتي يتكلمون بها، والألعاب الرّياضيّة الّتي يمارسونها، والأبطال التّاريخيين الّذين خلّدوا في ضمائرهم، والرموز الّتي يتخذونها للإفصاح عن مكنونات أنفسهم ونحو ذلك”[4].
وأمّا الحوار فيعرفه أسامة خيريّ [معاصر] بأنّه: “ظاهرة إنسانيّة، لازمت المجتمع الإنسانيّ منذ بدء الخليقة، فالإنسان السّويّ يحاور نفسه، وأسرته، ومجتمعه، بشرط أن يكون الحوار مستمرا وفاعلا ومفيدا”[5]، وجاء استخدامه في القرآن بمعنى الجدل، “والجدال من جدل الحبل إذا فتله، وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشتغل عن ظهور الحق ووضوح الصّواب، ثمّ استعمل في مقابلة الأدلّة لظهور أرجحها، والحوار والجدال لها دلالة واحدة، وقد اجتمع اللّفظان في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} المجادلة/1”[6].
فإسناد الحوار إلى الثّقافة إسناد إلى العموم، ليشمل أبعاد المجتمع الإسلاميّ سياسيّا ودينيّا وتربويّا واقتصاديّا وفنيّا ومجتمعيّا؛ لأنّ الحوار في ذاته يشمل العنصرين: عنصر التّلاقح والاستفادة من الآخر، وعنصر التّقويم والمراجعة، فلمّا أسند إلى الثّقافة كان الإسناد إلى الثّقافة لأنّها “تعتبر خيطا مشتركا بين المجتمع الإنسانيّ، فهي الخيط المرتبط بذات الإنسان كعقل مفكر، وجسد متأثر بما حوله في الطّبيعة والكون وأخيه الإنسان، وبما ورثه من حضارة وفكر وتراث، وبما وصل إليه من معرفة واختراع وإنتاج، هذا الخيط الإنسانيّ تتشكل به الحضارة الإنسانيّة المتعددة في طقوسها ومعارفها، والمتنوعة في نتاجها وآثارها، وعليه تتشكل ثقافات تحت الثّقافة الأم للإنسان، وحضارات تندرج تحت حضارة الإنسان”[7].
وأمّا الجانب المجتمعيّ أو ما يسمى بالحراك المجتمعيّ فهو “الحراك الاجتماعيّ بالوضع الّذي يشير إلى إمكانية تحرك الأفراد أو الجماعات إلى أسفل أو إلى أعلى الطّبقة أو المكانة الاجتماعيّة في هرم التّدرج الاجتماعيّ أو في إطار النّسق الاجتماعيّ”[8]، وكثيرا ما يستخدم الحراك الاجتماعيّ في الجانب الاقتصاديّ، إلا أنّ الثّقافة “أصبحت محور عملية التّنمية الاجتماعيّة الشّاملة، في حين أصبحت تكلنوجيا المعلومات هي محور التّنمية العلميّة التّكلنوجيّة”[9].
لهذا كان للحوار الثّقافيّ ضرورة في تعزيز الحراك المجتمعيّ في البيت الإسلاميّ خصوصا، والبيت الإنسانيّ عموما.
مسح أهم معوقات مجتمع البيت الإسلاميّ من الدّاخل
في نظري أهم المعوقات الّتي يعانيها مجتمع البيت الإسلاميّ من الدّاخل حاليا، والّتي يمكن النّظر حولها حواريّا التّالي:
[المعوقات الفكريّة]
أولا: التّأريخ السّلبيّ: حيث تشكلت فرق البيت الإسلاميّ نتيجة صراع سياسيّ بعد وفاة الرّسول الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم – وهو صراع بشريّ كأي أمّة من الأمم، إلا أنّ هذا الصّراع انتهى بوفاة تلك النّفوس، ومع هذا نجد التّعصب للرّموز التّأريخيّة، أو محاكمة الشّخوص وفق روايات تأريخيّة، دونت في فترة التّعصب للحزب والمذهب، والأصل في الماضي قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة/ 134].
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق نظري من خلال مفاهيم ثلاثة: الأنسنة والظّنيّة النّسبيّة والحاكميّة، أمّا الأنسنة فتأريخ هذه الأمّة تأريخ بشريّ إنسانيّ يحوي النّجدين: الخير والشّر، الصّواب والخطأ، الإيجاب والسّلب، كتأريخ أي أمّة في الأرض، فليس ملائكيّا مميزا، وليس حيوانيّا شهوانيّا، وأنسنة التّأريخ أي رفع القداسة عنه، فليس نصّا تشريعيّا مغلقا ولا مفتوحا، بل هي تجربة بشريّة، تدرس بشكل أكاديميّ لا أكثر، فإذا جعلت التّأريخ مقدّسا، ارتفع الحوار هنا، فأصبحت تدافع عن مقدّس لديك، وتبذل كافة الحجج لتأليهه أو شيطنته.
وأمّا الظّنيّة النّسبيّة، فلأنّه كتب متأخرا من جهة، والقلم الكاتب في العادة إمّا محب مغال، أو حاقد كاره، فنسبة الخطأ والتّلاعب في الرّواية التّأريخيّة نسبة كبيرة جدّا، وهي ظنيّة بامتياز، فإذا كان كذلك وجب جعلها على مائدة الحوار الطّبيعيّ غير المقدس.
وأمّا الحاكميّة، فهي لله وحده، هو أعلم بعباده، وهو عدل، فهنا لا نطالب ديانة من حيث الولاء والبراء النّبش في الأموات، والصّراع حولهم، وليس لنا البحث عن نجاتهم أو هلاكهم، فهم بشر مثلنا، فالحوار في قضايا غيبيّة لا فائدة منها لمجتمع البيت الإسلاميّ، ولا لأجيال هذا المجتمع؛ لأنّهم يعيشون في صراع وهميّ لا فائدة منه، الأصل توجيهه نحو العلم والمعرفة والنّتاج والحاضر والمستقبل.
ثانيا: التّضخم العقديّ [الكلاميّ]: نجد القرآن يركز على الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، وهذه أركان ثلاثة يقوم عليه مجتمع البيت الإسلاميّ، فالكلّ يعظّم الله، وما أنزل من كتب، وما أرسل من أنبياء، فالجميع يؤمن باليوم الآخر، وبالعذاب والنّعيم، ويعملون صالحا ابتغاء ما عند الله من ثواب، إلا أنّ هذا الحدّ تضخم بشكل كبير، بعد الصّراع بين مدرستيّ الاعتزال وأهل الحديث، وكثرة الجدل أدى إلى تكوّن مدارس كلاميّة جميعها تعظّم ما أسلفنا بيانه، وحول هذا يقول الإمام الرّازيّ [ت 604 – 606هـ] في تفسيره: “فأمّا الّذي يعرف بالدّليل أنّه من دينه مثل كونه عالماً بالعلم أو لذاته وأنّه مرئيّ أو غير مرئيّ، وأنّه خالق أعمال العباد أم لا، فلم ينقل بالتّواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السّلام بأحد القولين دون الثّاني، بل إنّما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثّاني بالاستدلال، فلا جرم لم يكن إنكاره، ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان فلا يكون موجباً للكفر، والدّليل عليه أنّه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنّه هل يعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمّة، ولنقل ذلك على سبيل التّواتر، فلمّا لم ينقل ذلك دل على أنّه عليه السّلام ما وقف الإيمان عليها، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجباً للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمّة، ولا نكفر أرباب التّأويل”[10].
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق من خلال مفاهيم ثلاثة: الأنسنة، والتّعدديّة، والحاكميّة.
أمّا الأنسنة فطبيعيّ حدوث هذا الخلاف لأسباب ليس هنا محل ذكرها، وأهمها النّص القرآني بطبيعته نص مفتوح، ولكونه مفتوحا فهو قابل للتّأويل، فأنسنتها هنا أي جعلها في قدرها الإنسانيّ الطّبيعيّ، وهي حالة صحيّة، لا يترتب عليها تكفير ولا تفسيق.
فلمّا كان التّأويل واسعا كانت التّعدديّة حاضرة، وعليه يرتفع الحكم على المختلفين في البيت الإسلاميّ بالجنّة والنّار، وترك الحكم لله وحده.
فالحوار هنا دائرة المشترك حوله واسعة جدّا، وهي الدّوائر الثّلاثة: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، فيضيق ما دونه، على أن يكون الحوار حوله كتجربة بشريّة في التّأويل لا كنص آخر، فننطلق من المشترك لفهم الآخر لا لتكفيره وتضليله؛ لأنّ “تحديد المتحاورين لنقاط الالتقاء فإنّهم بذلك قد وضعوا قاعدة مشتركة فيما بينهم تدفع الحوار للأمام، والبدء بالنّقاط المتفق عليها يوثق الصّلة بين المتحاورين، ويجعلهما يتقبلان ما يطرح في الموضوع بنفس طيبة”[11].
ثالثا: التّضخم الرّوائيّ: حدث تضخم كبير في الرّواية، وزاد معدلها، فضلا عن دخول الرّواية المذهبيّة والسّياسيّة والتّأريخيّة[12]، وأصبحت محل جدل كبير داخل مجتمع البيت الإسلاميّ اليوم، وظهور تيارات جديدة كالقرآنيين والعقلانيين الّذين ينظرون إلى الرّواية بشكل سلبيّ، أو عند التّجديديين أو بعض الإصلاحيين الّذين لهم رؤى توافقيّة.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق من خلال العرض والنّسبيّة، أمّا العرض فيكون على الشّيء المتفق عليه في مجتمع البيت الإسلاميّ، وهو يحمل النّسبة الأكبر، سواء في العبادات أو المعاملات أو الأخلاق، ومن خلال العرض على كتاب الله لأنّه المتفق بين الجميع.
ثمّ النّسبيّة، أي أن هذه الرّوايات في الجملة نسبيّة، فهي أغلبها آحاد، فتقرأ في خطها النّسبيّ لا المطلق، والتّعامل معها بمرونة واسعة، على أن ينطلق الحوار من المشتركات الكبرى كما أسلفنا.
رابعا: تقديس وإطلاق التّراث، يعتبر التّراث بنصوصه وتطبيقاته، بأساطيره وواقعيته، الشفويّ منه والماديّ، ملكا للجميع، وتراث مجتمع البيت الإسلاميّ تراث إنسانيّ مفتوح، وهو تجربة بشريّة في مختلف فنون المعرفة الإنسانيّة والتّجريبيّة، إلا أنّ الإشكاليّة الّتي تؤثر على مجتمع البيت الإسلاميّ هو جعل التّراث جملة نصّا مطلقا، والتّعصب له، وحرمة نقده، والبحث في سوءات الآخرين عن طريق قصاصات الكتب الصّفراء.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق الحوار من خلال الأنسنة والظّرفيّة، أي قراءة التّراث قراءة إنسانيّة طبيعيّة، وهو ظرفيّ مرتبط بفترة زمنيّة، فقراءته لا تكون مطلقة، وإنّما يراعى الزّمان والمكان الّذي وضع فيه، فيستفاد من حسناته لينطلق منها في الحوار، وتنتقد سيئاته، ولا يتعصب لها.
خامسا: الألقاب والمصطلحات والأحكام المسبقة، فهي لا تخدم الحوار داخل المجتمع الإسلاميّ، فلا فائدة من إطلاق الأحكام، مثاله: الرّافضة والخوارج والنّواصب والحشويّة والمجسمة والزّنادقة.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق الحوار من خلال أسلمة المذاهب الّتي يسعها قوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج/ 78]، مع احترام الألقاب المدرسيّة، “والمحاور المنصف هو الّذي يلتزم القول الحسن خلال محاوراته، كما عليه أن يبتعد عن أسلوب الطّعن والتّجريح والهزء والسّخرية”[13].
سادسا: أسلمة السّياسة، وحياة النّاس، ومعاشهم ومعاملاتهم، وأقصد بالأسلمة التّوسع في إضافة المقدّس في حياة النّاس، وتضييق جانب البشريّة والحراك الطّبيعيّ فيها.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق الحوار من خلال الانطلاق من القيم الكبرى، والأخلاقيات الإنسانيّة، ثمّ ترك التّدافع الطّبيعيّ في حياة النّاس ومعاشهم وسياساتهم، لأنّ توسعة المقدّس يجعل الحوار ضيقا، والخلاف كبيرا.
[المعوقات السّياسيّة والاجتماعيّة]
أولا: التّخوف من التّعدديّة والأبويّة الزّائدة، وذلك لطبيعة مجتمعاتنا أنّها أبويّة بشكل كبير، وتتكئ على اتجاه وفكر معين، فيحدث التّصادم نتيجة الانفتاح الكبير على الآخر في المجتمع من جهة في ظلّ أبويّة جامدة من جهة أخرى {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر/ 29].
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق خلال إدراك أنّ التّعدديّة حالة صحية، وفتح المجال لأكبر درجة من الحريات المبنيّة على الحوار المطلق، والتّدافع الطّبيعيّ، واستثماره في خدمة المجتمع.
ثانيا: التّركيز على القضايا الهامشيّة، وتحويلها إلى قضايا رأي، فكثيرا ما يشغل المجتمع قضايا هامشيّة جدا، نتيجة جمود المجتمع على فكر معين، أو نتيجة الفجوة بين الأجيال.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق من خلال غرس التّركيز على الأساسيات، وهذا يتحقق من خلال الحرية في إقامة مؤسسات، والانطلاق من العمل الفرديّ إلى المؤسسيّ كما سنرى لاحقا في المقترحات.
[المعوقات الثّقافيّة]
أولا: النّظرة السّلبيّة إلى الشّرق وتراثه، من المثقفين من ينظر سلبيّا إلى الشّرق، ويعتبر تراثه مصدر التّخلف والرّجعيّة، وسبب تخلف المجتمع.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ من خلال ما أسلفنا من الأنسنة والظّرفيّة، فتراث الأمّة كأي تراث إنسانيّ فيه ما ينفع، وفيه ما يضر، على أن يقرأ وفق ظرفيته.
ثانيا: اللّغة العلويّة المبالغ فيها، وعدم الاستماع للآخر، سواء في الكتابة أو الخطاب أو في النّظرة للآخر، “ويقع فيه بعض المثقفين حين تدور مناقشتهم حول قضايا فلسفيّة أو شبه فلسفيّة مقطوعة الصّلة بواقع الحياة اليوميّ وواقع مجتمعاتهم”[14].
كيف يتحقق الحوار هنا؟ من خلال إدراك هدف الثّقافة وهو التّنوير والإصلاح، وهذا لا يتحقق إلا باحترام المختلف، والاستماع إليه، وإن رأيته متخلفا رجعيا ماضويا، فهذا إسقاطات علاجها باحترام ذاته ثمّ الحوار معه، “فمجال الثّقافة ليس مجال التّنافس وإثبات الأسبقيات، بل هو مجال التّعاون والحوار المثمر”[15].
ثالثا: النّظرة المصالحيّة المبالغ حولها، فهو يقف مع المصلحة سياسيّا أو منصبيّا أو ماليا، فيكون الحوار بقدر ما يحقق مصلحته وغايته.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ الحوار وسيلة لتنمية المجتمع بعيدا عن المصالح الذّاتيّة، فهو مرتبط بحق الإنسان كإنسان أولا، ثمّ كمواطن ثانيا في المجتمع، ولأنّ “الثّقافة لها دور في تفعيل التّعايش بين الآخرين، وذلك لما تحمله من معاني سامية تميزها عن غيرها، فخصائصها تكمن في أنّها ظاهرة إنسانيّة”[16].
البناءات السّت في تحقيق حوار ثقافي في مجتمع البيت الإسلاميّ
من خلال ما تقدّم من معوقات في تحقيق الحوار داخل مجتمع البيت الإسلاميّ؛ نرى –ورأينا متواضع جدّا- أنّ الخروج من هذه المعوقات يكون من خلال إدراك هذه البناءات السّت: [التّكوينيّ، والتّعارفيّ، والإنسانيّ، والأخلاقيّ، والتّشريعيّ، والاستثماريّ].
أولا: الجانب التّكوينيّ، وهذا ينطلق من قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود/ 118 – 119]، فالاختلاف جانب تكوينيّ فطري، كان الاختلاف على أساس اللّغة أو العرق أو الدّين أو الفكر، فالاختلاف طبيعيّ أيضا أن يكون داخل مجتمع البيت الإسلاميّ.
ثانيا: الجانب التّعارفيّ، وهذا ينطلق من خلال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات/ 13]، فالاختلاف وسيلة إلى التّعارف وفهم الآخر، والاستفادة منه، والعيش معه، كان في ظلّ المواطنة أم غيرها.
ثالثا: الجانب الإنسانيّ، الشّراكة في الوطن أو المجتمع مبنيّة على الذّات الإنسانيّة، وبما أنّها مختلفة تكوينا؛ إذا وجب عليّ احترام هذا الاختلاف من باب احترام هذه الذّات، ويكون الحوار وسيلة مهمة لكشفها والاستفادة منها.
رابعا: الجانب الأخلاقيّ، فالحوار يبنى على الأخلاق والقيم المشتركة، فإذا ارتفعت الأخلاق فلا فائدة من الحوار، ومثاله في القرآن: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت/ 46]، وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة/ 83].
خامسا: الجانب التّشريعيّ، حيث تكون التّشريعات الدّستوريّة والقانونيّة حافظة لحريات النّاس وحق الاختلاف والتّعدديّة والتّعبير عن الرّأي، ومن أشكاله الحوار مع الآخر.
سادسا: الجانب الاستثماريّ، بحيث يستثمر هذا الاختلاف إيجابيّا في تنمية المجتمع كالإصلاح السّياسيّ والدّينيّ والمجتمعيّ والاقتصاديّ، وجعل الاختلاف مادّة تنصب في خدمة المجتمع سياحيّا وفكريّا واقتصاديّا.
مقترحات لتحقيق حوار ثقافي في مجتمع البيت الإسلاميّ
هناك جوانب عديدة لتحقيق الحوار في مجتمع البيت الإسلاميّ، خاصّة وأصبحنا نعيش في قرية واحدة، نشارك المجتمع الإنسانيّ الكبير همومه ومشاكله، وأصبح الحوار ضرورة ملحة، خصوصا مع الانفتاح الإعلاميّ والفضائي، وتعدد وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ممّا تتعدد المشاكل المجتمعيّة على تعددها، فهذا في ذاته بحاجة إلى حوار، وقبل أن نشير إلى المؤسسات لابدّ من الأدبيات التّالية الحاضرة قبل وأثناء وبعد الحوار:
- دراسة القضيّة وتحديدها، وتحديد الأهداف، والبدأ بالأولويات، وتحديد المستهدفين منها حضورا ومنفعة، فلابدّ من “الالتزام بموضوع الحوار، وعدم الخروج عنه، وعدم الالتزام يؤدي إلى خلط المسائل بعضها ببعض”[17]، ويقترح أحيانا “إقامة هيئة تحكيم لتضبط المتحاورين كلّما جنحوا للخروج من إطار الموضوع”[18].
- اختيار الوقت والزّمان والمكان المناسب لمناقشتها، مع تحديد الوقت الكافي أيضا المعدّ للمناقشة، ونصيب الواحد، وسبل التّرجيح.
- تقديم مواطن الاتفاق قبل مواطن الاختلاف، “فإن بدء الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثّقة، وإفشاء روح التّفاهم، ويصير به الحوار هادئا وهادفا … ويقلل الجفوة، ويردم الهوّة، ويجعل فرص الوفاق والنّجاح أفضل وأقرب، كما يجعل احتمالات التّنازع أقل وأبعد”[19].
- تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.
- استحضار أدبيات وأخلاق الحوار لكلّ المشاركين، “كالتّواضع واللّين والرّفق من المحاور، وحسن الاستماع، وعدم المقاطعة، والعناية بما يقوله المحاور، فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار”[20].
- التّقييد الكتابي، ووضع الرّؤية لتطبيق النّتائج.
وأهم هذه المقترحات:
أولا: وضع مؤسسة إسلاميّة مشتركة تعنى بالحوار، والمتفق بين المسلمين وغير في المجتمع الإسلاميّ، بما ينفع المجتمع الإنسانيّ الكبير، وتعنى بالتّالي:
- متابعة الوضع الحواريّ في المجتمع الإسلاميّ، في الإعلام والصّحافة وغيرها.
- تكون المؤسسة عنصر إصلاح لأيّ انحراف عن الوضع السّليم في الحوار نتيجة تعصبات سياسيّة أو دينيّة أو ثقافيّة مجتمعيّة.
- وضع مناهج تربويّة للنّاشئة والمراهقين والطّلبة والكبار، تعتمد على الحوار في توصيل المعرفة، والمناهج تعتمد على المتفق عليه، وبما يخدم المجتمع، ومتنوعة في العلوم الإنسانيّة والأدبيّة والتّطبيقيّة، وتجيب على أسئلة الشّباب بأسلوب حواري.
- تعميق الحوار السّليم في المجال التّربويّ والإعلاميّ والمجتمعيّ والمسجديّ ووسائل التّواصل.
ثانيا: الانطلاق من الحوار الفرديّ، والجهود الذّاتيّة إلى العمل المؤسسيّ المنظم للحوار، وتشجيع المجتمع المدنيّ في خدمة المجتمع عن طريق مؤسسات تطوعيّة في كافّة نواحي الحياة، بحيث يتعود النّاس على الجانب المؤسسيّ، مع تضييق القوانين الّتي تحدّ من انتشار المؤسسات الأهليّة، وعرقلة بناء مجتمع مدنيّ حقيقيّ، والتّخفيف من الحدّة الأمنيّة الّتي تنظر غالبا إلى مؤسسات العمل المدنيّ نظرة سلبيّة.
ثالثا: أن ترعى الدّول العربيّة والإسلاميّة الحوار المجتمعيّ، وأن تشجع على ذلك، في جميع القضايا، بما فيها القضايا القضائيّة، كقضايا الخلاف الأسريّ والمجتمعيّ.
رابعا: أن يحوّل الحوار إلى مادّة استثمارية ذات اشتراكيّة بين جميع أبناء المجتمع، ومؤسساته المدنيّة.
خامسا: التّقليل من التّلقين في المراكز التّربويّة منذ البداية في المراحل الأولى من التّعليم، وحتى المراحل المتقدّمة، والتّعويد على الحوار والبحث وحريّة النّقاش والتّفاعل والوصول إلى النّتائج.
سادسا: تفعيل المحاضرات المسجديّة، والمراكز الثّقافيّة لتكون خادمة للحوار، وإصدار وثيقة تعارفيّة تشجع على ذلك.
مراجع البحث[21]
العبريّ: بدر؛ إضاءة قلم: التّعايش تأملات ومذكرات، ط الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، سطنة عمان/ مسقط، ودار مسعى، كندا، الطّبعة الأولى، 2019م.
الحمد: تركي، الثقافة العربية في عصر العولمة، ط دار الساقي، بيروت/ لبنان، الطبعة الأولى 1999م.
موقع أرنتروبوس: الموقع العربي الأول في الأنثروبولوجيا والسوسيوأنثروبولوجيا، تاريخ الزيارة: 24/6/ 2016م، الساعة الثالثة والنصف ظهرا، الرابط: http://www.aranthropos.com/.
فيضي: محمد، مقالة حول تعريف الثّقافة، موقع موضوع، تاريخ الزيارة: 24/6/ 2016م، السّاعة الرابعة عصرا، الرابط: http://mawdoo3.com/.
خيري: أسامة؛ مهارات الحوار، ط دار الرّاية للنّشر والتّوزيع، الأردن/ عمّان، ط 2014م.
زايد: فهد خليل؛ فنّ الحوار والإقناع، ط دار النّفائس، الأردن/ عمّان، الطّبعة الأولى، 1427هـ/ 2007م.
الصغير: كاوجة محمد الصغير، وابتسام: كوشي، الحراك الاجتماعيّ وعلاقته بالمتغيرات المجتمعيّة للمجالات الاجتماعيّة في المدينة الجزائريّة، دراسة ميدانية لتراموايّ ورقلة – الجزائر، مجلة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.
علي: نبيل، الثّقافة العربيّة وعصر المعلومات، سلسلة عالم المعرفة، سلسلة رقم: 265.
الرّازيّ: فخر الدّين محمّد بن عمر؛ تفسير الفخر الرّازيّ، ط دار الفكر، لبنان/ بيروت، ط 1414هـ/ 1993م.
العبريّ: بدر؛ الرّواية عند الإباضيّة وقاعدتي العرض على القرآن وعمل المسلمين (مدونة أبي غانم الخراسانيّ أنموذجا)، نشر دورية الحياة، جمعية التّراث، الجزائر، رمضان 1434هـ/ 2013م، عدد 17.
أنجيليسكو: ناديا؛ الاستشراق والحوار الثّقافيّ، ط دائرة الثّقافة والإعلام، الإمارات العربيّة المتحدة/ الشّارقة، الطّبعة الأولى، 1999م.
غالب: عبد السّلام حمود؛ أثر الحوار في التّعايش مع الآخر، طبعة الكترونيّة على شبكة الألوكة.
[1] ينظر: العبريّ: بدر؛ إضاءة قلم: التّعايش تأملات ومذكرات، ط الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، سطنة عمان/ مسقط، ودار مسعى، كندا، الطّبعة الأولى، 2019م، ص: 39 – 40، بتصرف.
[2] الحمد: تركي، الثقافة العربية في عصر العولمة، ط دار الساقي، بيروت/ لبنان، الطبعة الأولى 1999م، ص 17.
ينظر أيضا: موقع أرنتروبوس: الموقع العربي الأول في الأنثروبولوجيا والسوسيوأنثروبولوجيا، تاريخ الزيارة: 24/6/ 2016م، الساعة الثالثة والنصف ظهرا، الرابط: http://www.aranthropos.com/.
[3] الحمد: تركي، الثقافة العربية في عصر العولمة، مرجع سابق، ص 18.
[4] فيضي: محمد، مقالة حول تعريف الثّقافة، موقع موضوع، تاريخ الزيارة: 24/6/ 2016م، السّاعة الرابعة عصرا، الرابط: http://mawdoo3.com/.
[5] خيري: أسامة؛ مهارات الحوار، ط دار الرّاية للنّشر والتّوزيع، الأردن/ عمّان، ط 2014م، ص: 13.
[6] زايد: فهد خليل؛ فنّ الحوار والإقناع، ط دار النّفائس، الأردن/ عمّان، الطّبعة الأولى، 1427هـ/ 2007م، ص: 12.
[7] العبريّ: بدر؛ إضاءة قلم: التّعايش تأملات ومذكرات، مرجع سابق، ص: 38، بتصرف بسيط.
[8] الصغير: كاوجة محمد الصغير، وابتسام: كوشي، الحراك الاجتماعيّ وعلاقته بالمتغيرات المجتمعيّة للمجالات الاجتماعيّة في المدينة الجزائريّة، دراسة ميدانية لتراموايّ ورقلة – الجزائر، مجلة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ص 338.
[9] علي: نبيل، الثّقافة العربيّة وعصر المعلومات، سلسلة عالم المعرفة، سلسلة رقم: 265، ص 6.
[10] ينظر: الرّازيّ: فخر الدّين محمّد بن عمر؛ تفسير الفخر الرّازيّ، ط دار الفكر، لبنان/ بيروت، ط 1414هـ/ 1993م، ج: 2، ص: 43.
[11] خيري: أسامة؛ مهارات الحوار، مرجع سابق، ص: 19.
[12] ينظر مثلا مقالنا: الرّواية عند الإباضيّة وقاعدتي العرض على القرآن وعمل المسلمين (مدونة أبي غانم الخراسانيّ أنموذجا)، نشر دورية الحياة، جمعية التّراث، الجزائر، رمضان 1434هـ/ 2013م، عدد 17، ص: 66 – 81.
[13] خيري: أسامة؛ مهارات الحوار، مرجع سابق، ص: 20.
[14] خيري: أسامة؛ مهارات الحوار، مرجع سابق، ص: 40.
[15] أنجيليسكو: ناديا؛ الاستشراق والحوار الثّقافيّ، ط دائرة الثّقافة والإعلام، الإمارات العربيّة المتحدة/ الشّارقة، الطّبعة الأولى، 1999م، ص: 25.
[16] غالب: عبد السّلام حمود؛ أثر الحوار في التّعايش مع الآخر، طبعة الكترونيّة على شبكة الألوكة، ص: 21.
[17] غالب: عبد السّلام حمود؛ أثر الحوار في التّعايش مع الآخر، مرجع سابق، ص: 8.
[18] المرجع نفسه، ص: 8.
[19] زايد: فهد خليل؛ فنّ الحوار والإقناع، مرجع سابق، ص: 16.
[20] غالب: عبد السّلام حمود؛ أثر الحوار في التّعايش مع الآخر، مرجع سابق، ص: 7.
[21] رتبت حسب ورودها في البحث لا حسب التّرتيب ألف بائيّ.