جريدة عمان 1443هـ/ 2022م
يتكرر الجدل سنويّا حول تهنئة المسيحيّ في مناسبة عيد الميلاد (الكريسماس)، والّذي استقر بعد مجمع نيقيّة 325م أن يكون 25 ديسمبر من كلّ عام، وإن كان هناك من الكاثوليك من يراه في 1 مايو، وبعض الأرثوذكس في 14 مايو، والأرثوكس في مصر في 6 مايو، كما يتكرر الجدل ذاته بمناسبة دخول السّنة الشّمسيّة الجديدة.
وسبق أن كتبت مقالة مفصلة في ذلك بعنوان: “عيد الميلاد وتهنئة المسيحيين به” في صحيفة شؤون عمانيّة، كما نشرت بعضا من ذلك في كتابي “فقه التّطرف”، إلا أنّه شدني قبل أيام في مساحة صوتيّة على تويتر مناقشة هذه الجدليّة بين مؤيد ومعارض، ليدخل على المتحدثين رجل من سورية، وهو يقطن في منطقة مشتركة بين المسلمين والمسيحيين، فكانت مداخلته فيها نوع من المفاجأة والخوف، إذ أنّهم مندمجون فيما بينهم منذ أكثر من ألف سنة، يتزوجون من بعضهم، ويشتركون في أفراحههم وأتراحهم، وفي أعيادهم ومناسباتهم، وفي مسامراتهم وبيوعهم، فلم يتصور أن يناقش أحد مثل هذه القضيّة، كما أنّه شعر بالخوف أن يمتد هذا الجدل إلى منطقتهم، فيتحول ذلك السّلم المجتمعيّ إلى صراع دينيّ لا قيمة له!!!
وكلام الشّاميّ يذكرني بقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة/ 8-9].
فالبر من أعلى درجات السّلم الاجتماعي، وهو ملازم للتّعدديّة، ومن التّعدديّة تعدديّة الأعياد والمناسبات، فمنها ما هو إنساني مشترك كمناسبة يوم الأم أو المعلم أو الشّجرة، ومنها ما هو قوميّ ووطنيّ كالأعياد الوطنيّة والقوميّة كيوم اللّغة العربيّة، ومنها ما هو دينيّ يختص به دين ما، أو تشترك حوله أديان معينة.
والتّهنئة في هذا أدبية تدخل في دائرة البر والإحسان مع المشترك معي في الأرض أو الدّين أو الجنس البشريّ، ومثله لو كان لهذا الإنسان أمّ مسيحيّة، أو زوجة يهوديّة، أو يعمل معه من طائفة هندوسيّة أو بوذيّة، فطبيعيّ فطرة ومن باب البر احترام طقسه وعيده، والمشاركة معه وجدانيّا بشكل إيجابيّ في هذه المناسبة، ومنها قضيّة التّهنئة، وهذا لا علاقة له بالإقرار بنظرته اللّاهوتيّة والطّقسيّة، بقدر ما ما جانب وجدانيّ واجتماعيّ طبيعيّ في صيرورته البشريّة والإنسانيّة.
وما قاله الشّاميّ يتوافق من زاوية فيما طرحه الشّيخ العلّامة إبراهيم بن سعيد العبريّ [ت 1975م] في الجو الإسلاميّ أنّ أغلب الصّراع بين المسلمين يعود سببه إلى “عدم الخلطة”، أي بمعنى ليس سببه النّصّ ذاته، خصوصا النّص الأول، وإنّما هي مصاديق وفهومات تخرج من البيئة، وكلّما كانت البيئة أكثر أحاديّة كانت أكثر تحجرا وتعصبا من البيئة الّذي يكثر فيها التّعدديّة، وهو ما عبّر عنه فولتير [ت 1778م] مثلا في الرّسائل الفلسفيّة: “ولو وجدت في إنكلترة ديانة واحدة فقط لاعترى النّفوس خوف من الاستبداد، ولو وجدت فيها ديانتان فقط لتذابحتا، ولكن يوجد فيها ثلاثون ديانة وهي تعيش سعيدة متسالمة”.
إنّ قضيّة “عدم الخلطة” في قضيّة التّهنئة بعيد ميلاد المسيح لمن يحتفي به في الجزيرة العربيّة شيء طبيعيّ جدا، فهذه المنطقة لا يوجد فيها قديما تعدديّة واضحة في أغلب أجزائها، وإن كانت الكنيسة النّسطوريّة قديما كانت سائدة، إلا أنّه يكاد شبه اختفت من المنطقة، وبقي أقليات وأفراد متناثرون هنا وهناك، كما أنّ انتشار الواحات المنفصلة عن بعضها، وضعف الخلطة بهذا قديما؛ ولد بعض الآراء من تنظر بسلبيّة أحيانا مبالغ فيها، إلا أنّه طبيعيّ لما يقرأ في زاويته الظّرفيّة والتّأريخيّة الزّمكانيّة لا المطلقة، وهذه النّظرة قد تخف مع الفقيه الّذي ولد في بيئة أخرى، كما في بيئة صاحبنا الشّاميّ!!
أمّا اليوم بسبب الطفرة النّفطيّة والاقتصاديّة في الجزيرة العربيّة؛ فقد هاجر إليها آلاف البشر من أديان مختلفة، ومشارب متنوعة، هؤلاء سيحملون معهم ثقافتهم وهوّيّتهم، فأصبحت الخلطة واضحة لسبب الزّواج أو التّجارة والعمل أو التّعليم أو السّياحة، كما أنّ الهجرة تكون عكسيّة لطلب علم أو عمل أو سياحة، فتحدث خلطة بين الجميع، ويصبح المخفيّ ظاهرا، والمنبوذ مألوفا!!
لهذا لا يمكن اجترار المسائل الفقهيّة التّراثيّة وفصلها عن ظرفيتها الزّمكانيّة، كما أنّه لا يمكن النّظر إلى هذه المنطقة بذات النّظرة القديمة، والّتي كما أسلفنا لم تكن بذات خلطة اليوم وتداخلها وتشعبها.
ولهذا لا نجد النّص الأول أي القرآن الكريم تطرق إلى هذه الأدبيّة سلبا أو إيجابا، وتركها للتّفاعل البشريّ، وإسقاط نصوص كالولاء والبراء والآيات الحكميّة هي تأويلات وإسقاطات في غير محلها؛ لأنّ جملتها تدور حول علّة الاعتداء، وهي حالة طبيعيّة.
على أنّه من حق من يرى في ذلك نوعا من التّوجس والرّيبة، إما لمصاديق نصيّة يراها، أو لاعتبارات لاهوتيّة ووجدانيّة، إلا أنّ هذا لا يخرج عن دائرة الاجتهاد تحت مظلة الرّاي الواسع، دون تفسيق أو تعنيف لمن يرى خلافه، وإلزام للنّصّ الأول بمصاديق تحجر فهوماته، وتبعد النّاس عن مدار علله ومقاصده، كما تضيّق التّظرة إلى ظرفيّة اجتهادته وإسقاطته الزّمكانيّة، لتحولها كما يرى محمّد باقر الصّدر [ت 1980م] في كتابه نظرة عامّة في العبادات إنّ “الغلو في الانتماء بتحويل النسبيّ إلى مطلق”، و”حينما يتحوّل النّسبيّ إلى مطلق إلى إله … يصبح سببا في تطويق حركة الإنسان”.
كما أنّ هناك فرقا بين الاحتفاء والتّهنئة، والأول مرتبط بالهوّيّة، والثّاني أقرب إلى الجانب الإنسانيّ والوجدانيّ الاجتماعيّ في القيم الكبرى المطلقة والمضافة، فمن حق الطّوائف أيّا كانت أن تحافظ على خصوصيّاتها كانت دينيّة أو قوميّة أو وطنيّة، على أن تحافظ وتحترم أيضا هوّيّات الآخر وخصوصيّاته، فالتّعدديّة الهوّيّاتيّة حالة صحيّة وطبيعيّة في المجتمع البشريّ، على أن يكون ذلك تحت مظلّة قيمة المساواة للجميع، مرتبطة بالعدل كما يقرر القرآن ذاته: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشّورى/ 15].
فالتّهنئة ومشاركة الآخر في مناسباته لا تعني الذّوبان في الآخر، وإلغاء الهوّيّة، كما أنّها لا تعنى الإقرار بفهومات الآخر ولاهوتيّته، إلا أنّ البر المجتمعيّ يجعل المختلف منسجما مع المشترك معه في الإنسانيّة أو الدّين أو الأرض (الوطن)، فكيف إذا اشترك معه دما كالأم، أو عاطفة وجسدا كالزّوجة، أو تعاملا كالشّريك والصّديق والعامل، فالأمر مختلف بينهما بالكليّة.
على أنّ المجتمع الإنسانيّ أصبح يعيش اليوم في قرية واحدة متداخلة، فاقترب من بعضه، فأصبحت الهوّيّات أكثر انشراحا على بعضها، وكشفا لبعضها، فلم يعد ذلك الانغلاق الجعرافي حاضرا في صورته الماضويّة المغلقة، وهذا لا يعني عدم وجود تمدد هوّيّاتيّ علويّ لثقافات معينة، لأسباب إعلاميّة، أو لقوة اقتصاديّة، ولكن ما يعنينا هو الحدّ الطّبيعيّ في التّعامل والتّجانس البشريّ، بعيدا عن أيّ إسقاطات أخرى، قريبة كانت أم بعيدة.
وخلاصة ما سبق يبقى السّيد المسيح عيسى – عليه الصّلاة والسّلام – رمزية مشتركة بين المسيحيين والمسلمين، بعيدا عن أيّ جدليات لاهوتيّة، ومصاديق خارجيّة، {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم/ 33]، كما أنّ مناسبة السّنة الشّمسيّة الجديدة هي مناسبة كونيّة إنسانيّة تعم الجنس البشريّ ككل، اتّفق أن يبدأ مدار حسابها من مطلع يناير/ كانون الثّاني، يتوافق ذلك مع السّنة القمريّة، فكلاهما آيتان في الكون، جعلهما الإنسان مدارا لحساب أعوامه وشهوره وأيامه {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس/ 38 – 40].