حلقات الصّيام في الأديان على إذاعة مسقط أف أم
10 رمضان 1445هـ/ 21 مارس 2024م
جاء المسيح في بيئة يهوديّة غالبها فريسيّون متشدّدون ثمّ صدوقيون، وبعد ذهاب المسيح ظهرت فرقة تسمّى النّصارى، فبقت يهوديّة من حيث الشّريعة، مؤمنة بالمسيح، ناظرهم بولس وبرنابا ليعقد مجمع أرشليم (50 و51م)، ثمّ بدأت في القرن الثّاني الميلادي خصوصا انتشار التّيارات الغنوصيّة في المسيحيّة، فظهرت الأناجيل الغنوصيّة، ثمّ ظهرت الآريوسية والنّسطوريّة، وبعد دخول قسطنطين [ت 337م] المسيحيّة، تبنى الجانب المسيحي القائم على عقيدة التّثليث بعد مجمع نيقيّة [325م]، إلا أنّ الافتراق داخل الخط المسيحي بين الكنيسة الغربيّة [الكاثوليك]، والكنيسة الشّرقيّة [الأرثوذوكس] كان بعد مجمع خلقيدونيّة (451م).
والأرثدوكس والكاثوليك عموما تعاملوا مع الشّريعة اليهوديّة تعاملا رمزيّا خلاف النّصارى، وبقت العديد من مفردات الشّريعة اليهوديّة كالقربان والفصح وبعض الأعياد في صورتها الرّمزيّة، ومع هذا حدث تضخم في الطّقوس الدّينيّة أيضا عن الطّائفتين مع مرور الزّمن، ومنها طقس الصّيام.
ويشترك الأرثدوكس مع الكاثوليك في الأسرار السّبعة، “وأصل الخلاف بينهما هل للمسيح طبيعتان أم طبيعة واحدة، فذهب الأرثوذوكس أنّ له طبيعة واحدة فقط، أي لاهوتيّة، وأنّ لاهوته لم يفارق ناسوته، ويرى الأرثوذوكس أنّ الرّوح القدس منبثقة من الآب وحده، وأنّ مريم لم تولد معصومة ولكن طهرت نفسها خلاف الكاثوليك الّذين يرون أنّها ولدت معصومة وطاهرة”[1].
ومن الكنائس الأرثوذوكسيّة الشّرقيّة الكنيسة القبطيّة، والرّسوليّة الأرمنيّة، والأثيوبيّة، والتّوحيد الإريتريّة، والأرمنيّة والسّريانيّة والهنديّة وغيرها.
وأمّا الصّيام كما يرى المؤرخ القبطيّ المعاصر أثناسيوس المقاري أنّه “في القرون الثّلاثة الأولى يصومون يوما واحدا أي يوم الجمعة أسفا على شعب إسرائيل الذين لم يُقبلوا إلى معرفة المسيح، وقبل الفصح كانوا يصومون يوما ومنهم يومان، ولا يتعدّون ثلاثة أيام، ومنهم من يتوقف عن الطّعام والشّراب لمدة أربعين ساعة، إشارة إلى غياب السيد المسيح ما بين موته وقيامته، اقتداء بقوله: “متى رُفع المسيح عنهم فحينئذ يصومون” (متى 15:9)، ويذكر عن العلامة ترتليان (160-225م) في شمال أفريقيا عن “صوم الفصح” الذي كان يبدأ يوم الجمعة العظيمة، ويدوم حتى صباح أحد القيامة. مؤكداً بذلك على تقليد كنيسة شمال أفريقيا، وفي القرن الرّابع أيام الملك قسطنطين الكبير (323-337م)الميلاديّ تطوّر إلى ستة أيام فصار يُدعى “أسبوع الفصح”، وكان الصّوم الأربعيني صوماً مستقلاً بذاته لا يرتبط بعيد الفصح، ويبدأ بعد عيد الغطاس، وكان الصّوم الكبير يمتد إلى خمس وثلاثين يوما، ويعقبه ستة أيام صوم الفصح، والتي تبدأ يوم الاثنين، وتنتهي يوم السّبت، فيكون مجموع أيام الصّومواحدا وأربعين يوماً، أي ستة أسابيع. وهو النّظام الّذي تبنته مصر وفلسطين وليبيا، ثمّ أصبح في الكنائس الشّرقيّة أنها تضيف الصّومين، الواحد إلى الآخر، بدون أن تُميز بين أسبوع الفصح، والصّوم الأربعيني كما في كنيسة الإسكندرية. وأصبحت مدّته ستة أسابيع في كل من فلسطين وأخائية، وسبعة أسابيع في كنائس القسطنطينية وقبرص وسوريا، وغالباً في كنيسة أورشليم قبل نهاية القرن الرابع الميلادي، ثمّ بعد مجمع خلقيدونية سنة 451م، اُضيف أسبوعاً سابعاً للصوم الكبير في كنيسة الإسكندرية، اقتداء بالكنائس الشّرقيّة الأخرى، حيث صار الصّوم في كلّ الشّرق سبعة أسابيع. ولكن في كنيسة الإسكندرية ظلّ التّمييز واضحاً بين الصّوم الكبير، وصوم أسبوع الفصح، ثمّ في زمن الإمبراطور هرقل (610-640م) اُضيف أسبوعاً ثامناً على الصوم الكبير، حيث عُرف الأسبوع الأول من الصّوم “الأربعيني” بأسبوع هرقل، تكفيرا لما طلب منه قتل اليهود حيث انضمّوا إلى الفرس، فقتل منهم خلقا كثيرا، وذلك في كلّ الشرق. ولكن بعد زمن هرقل، ألغت الكنائس الشّرقيّة هذا الأسبوع الثّامن من الصّوم، بينما ظل قائماً في كنيسة الإسكندرية حتّى اليوم، فأصبح الصّيام عند الأقباط خمسا وخمسين يوما، وعند السّريان الأرثوذكس أسبوعان، الأسبوع الأول من الصّوم، وأسبوع الآلام، وكل أربعاء وجمعة خلال الخمسة الأسابيع التي تقع بينهما. ويصوم الأرمن الأرثوذكس ثمانية وأربعين يوماً شاملة فيها أسبوع البصخة المقدّسة أي الفصح”[2].
فالصّوم عند الأرثدوكس ينقسم إلى قسمين، القسم الأول صوم من الدّرجة الأولى وهو الصَّوْمُ الكَبِيرُ أو الصَّوْمُ الأَرْبَعِينِيُّ أهم فترات الصّيام حسب الدّيانة المسيحيّة عموما، يبدأ حسب الطّقس الشّرقيّ يوم الاثنين. وتستمر فترة الصّيام إلى حوالي ستّة أسابيع قبل عيد القيامة. مصحوبا بالصّلاة، والتّوبة، والصّدقة وممارسة أعمال الرّحمة.
والقسم الثّانيّ الصّوم من الدّرجة الثّانية وهو صوم عيد الميلاد، يبدأ في الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة في 25 نوفمبر، ويستمر لمدة أربعين يومًا، وينتهى ليلة عيد الميلاد، أي 7 يناير.
وأصل عيد الميلاد حادث عندهم، فكانوا يصومون يوما قبل عيد الغطاس، حدث في النّصف الثّاني من القرن الخامس الميلاديّ في الغرب صوم ستة أسابيع قبل الميلاد، ثمّ تقلصت إلى خمسة أسابيع، ثمّ إلى أربعة أسابيع في روما، ومن الغرب انتشر لاحقا إلى الرّوم والسّريان والأرمن ثمّ الأقباط، ثمّ في الغرب ما بين مخفّف ومتوقف؛ إلّا أنّه بقي طقسا في الشّرق، بفترات صوم متباينة، فتطّور عن الأقباط من بضعة وعشرين يوما إلى ثلاث وأربعين يوما[3].
وعندهم (صوم يونان) أو صوم نينوى ومدّته ثلاثة أيام كما لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها، وهو يسبق عادة الصّوم الكبير بخمسة عشر يومًا، فيها يمتنعون عن تناول الأطعمة الّتي تدب بها الرّوح كاللّحوم والأسماك والدّواجن أو البيض ومشتقاتهم[4].
وعندهم أيضا صوم الرّسل أو صوم بطرس وبولس، أو أحياناً صوم القدّيس بطرس، وهو أقل درجة، ويرون أنّ الآباء الرّسل صاموه بعد صعود المسيح بعد أربعين يوما من قيامته، وحتّى حلول الرّوح القدس عليهم في عيد الخمسين[5]، ومدّته عند الأقباط من خمسة عشر يوما إلى تسع وأربعين يوما، وعند السّريان الأرثدوكس ثلاثة عشر يوما خفّفت إلى ثلاثة أيام، وعند الكلدان يوم واحد، ولا يصومه الأرمن الأرثدوكس ولا الموارنة[6]، ويصومون فيه عن اللّحوم والدّواجن ومنتجات اللّحوم والبيض ومنتجات الألبان والأسماك والزّيت والنّبيذ. بالنّسبة للكثير من الأرثوذكس، يُسمح بالأسماك والنّبيذ والزّيت في جميع الأيام ما عدا يومي الأربعاء والجمعة[7].
وكما يذكر البابا شنودة (ت 2012م) في أجوبته “سنوات مع أسئلة النّاس” أنّ عدد أيام الصّيام في الكنيسة القبطيّة تصل إلى مائتين يوما في العام، أي أكثر من نصف السّنة، وبما أنّ صومهم نباتيّ، يمتنعون فيه عن اللّحوم، وعن أيّ مصدر نباتيّ بما فيها الأسماك، هنا رخص لهم تناول السّمك في الصّيام من الدّرجة الثّانيّة، كصوم الميلاد، لكن لا يسمحون بأكلها في الصّوم الكبير وفي صوم يومي الأربعاء والجمعة؛ لأنّها من الدّرجة الأولى. والعليّة أنّ أربعين يوما صامها المسيح، وأسبوع الفصح أو البصخة هي أيام آلام المسيح، ويوم الأربعاء يوم التّآمر عليه، ويوم الجمعة يوم صلبه[8] كما يعتقدون، وهذا يتناسب مع الزّهد لا مع التّرفه.
[1] العبريّ: بدر، التّعارف تعريف بالذّات ومعرفة للآخر؛ سابق، ص: 259. بتصرّف.
[2] ينظر: المقاري: أثناسيوس، مقالة المراحل التّاريخيّة لتطوّر فترة الصّوم الّذي يسبق عيد الفصح شرقا وغربا؛ نشر في موقع منتديات الكنيسة، تأريخ الزّيارة: الأربعاء 9 رمضان 1445هـ/ 20 مارس 2024م، السّاعة السّادسة والنّصف مساء بتوقيت مسقط.
كما ينظر: المقاري: أثناسيوس، سؤال وجواب عن كنيسة ربّ الأرباب؛ ط مارك، مصر – القاهرة، الطّبعة الأولى، 2023م.
[3] ينظر: المقاري: أثناسيوس، سؤال وجواب عن كنيسة ربّ الأرباب؛ سابق، ص: 236 – 237.
[4] ينظر: السّعيد: منى، سبب «صوم يونان» في الكنيسة القبطيّة؛ موقع مجلّة الوطن المصريّة، تأريخ الزّيارة: الأربعاء 9 رمضان 1445هـ/ 20 مارس 2024م، السّاعة السّابعة مساء بتوقيت مسقط.
[5] المقاري: أثناسيوس، سؤال وجواب عن كنيسة ربّ الأرباب؛ سابق، ص: 281. بتصرّف.
[6] نفسه، ص: 285.
[7] ينظر: الأحمديّ: محمّد، المسيحيون يواصلون صوم الرّسل أول صيام في الكنيسة؛ صحيفة اليوم السّابع المصريّة، تأريخ الزّيارة: الأربعاء 9 رمضان 1445هـ/ 20 مارس 2024م، السّاعة السّابعة مساء بتوقيت مسقط.
[8] ينظر: شنودة الثّالث، سنوات مع أسئلة النّاس؛ ط الكليّة الإكليريكيّة بالعبّاسيّة، مصر – القاهرة، طبعة 2003م، ص: 65 – 67.