مقدّمة:
المرحلة التي تسمى بالأحداث عند التربويين من أهم المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته، وهي نقلة نوعية بين مرحلتين في الإنسان، بين طفولته التي قضاها مقلدا لوالديه وبيئته، وبين مرحلة الشباب التي سيمر بها بعد حين ليكون فاعلا في المجتمع.
وعليه إنّ الإحسان والاهتمام بهذه المرحلة العمرية من قبل المجتمع والأسرة سيكون لها ثمرتها في المجتمع، والعكس صحيح.
وقبل الحديث عن الموضوع نشير إلى نقطتين مهمتين في نظري:
أولا: التكاملية في دراسة القضية
الشريعة الإسلامية في جملتها شريعة متكاملة، لا تنظر إلى الموضوع الواحد من زاوية واحدة، ولا تدرس القضية من جزئية معينة، وأيّ ظاهرة لا يمكن علاجها إلا بعد دراستها من كافة جوانبها، والنظر في أبعادها وآثارها.
من هنا حثّ الفقهاء على تعلم العلوم المختلفة، كالعلوم التربوية والنفسية، والعلوم الصحية والاجتماعية، والعلوم المادية والتكنلوجية، وما شابه ذلك من العلوم، فهي من فروض الكفايات.
وقديما قيل: الذي لا يدخل السوق لا يمكن أن يفتي في أحكام السوق، ولهذا لابدّ أن نضع ظاهرة الأحداث في مكانها الصحيح، ولابدّ أن ندرسها اجتماعيا ونفسيا، بجانب الدراسة التربوية والقيمية.
ثانيا: الربط بين السلوك والفكر
المقرر تربويا أنّ السلوك ناتج من نواتج الفكر، فالإنسان في بداية حياته يمر بمرحلتين لهما تأثير على مستقبله :
المرحلة الأولى : فترة الطفولة الأولى، وهي تمتد منذ ولادة الإنسان وحتى نهاية المرحلة الابتدائية في الغالب، وهذه المرحلة هي مرحلة غرس العادات والتوجهات والأفكار في نفس الإنسان، وهذه من أصعب المراحل العمرية؛ لأنّ لها تأثيرا في المراحل التي تليها.
المرحلة الثانية: مرحلة المراهقة والفتوة، وهذه المرحلة تبدأ غالبا من المرحلة الإعدادية مرورا بالمرحلة الثانوية، وهنا ينطلق المراهق إلى التقليد والتأثر بالاتجاهات السائدة حوله، مع حبّ الظهور بين أقرانه.
النتيجة: إذا لم تستغل المرحلة الأولى استغلالا سليما، واقتصرت على جانب اللهو، لا شك أنّها ستوجد فراغا في نفس الإنسان في هذه المرحلة، وسينطلق في المرحلة الثانية إلى اكتساب معارف وأفكار، وتقليد عادات وتقاليد قد تكون بعيدة عن العادات السليمة، والتوجه المستقيم، خاصة إذا كان مصدر التلقي فاسدا.
من هنا نجد في عصرنا هذا أنّ من أهم مصادر الفكر لدى المتلقي في هذه المرحلة، والذي يعاني من خواء فكري، نجد أنّ المصدر الأساسي الذي يعتمده المتلقي هو وسائل الإعلام المختلفة، ممّا أدى إلى اكتساب أفكار قد لا يرتضيها المجتمع ولا تتفق مع القيم، مما ولّد سلوكيات سيئة.
يقول مثلا تشالرز دافي البريطاني في كتابه “مشاكل الشباب”، والذي كتبه في سنة 1959م يقول: “من سجلات الأخصائيين الاجتماعيين، والمشرفين في المدارس العليا؛ بل من دفاتر الأطباء، وسجلات أقسام البوليس، ثبت أنّ هناك 272 حالة اغتصاب للنساء والفتيات قد وقعت خلال عام واحد في ويلز وانجلترا، ومن المؤسف أنّ مرتكبي كلّ هذه الحوادث كانوا فتيانا لا تزيد أعمارهم عن الرابعة عشرة ” ، ويعلل سبب ذلك إلى الخواء الذي اكتسب بسببه الحدثُ أفكارا سلبية نتج عنها سلوكيات سلبية.
وتقول ليلي الحافي مترجمة كتاب مشكلات الشباب عام 1960 م: “وإنّه لمن بواعث أسفي وألمي معا هذه الموجة الطارئة التي قذفت بشبابنا إلى محاكاة وتقليد أبطال الشاشة البيضاء، من أمثال جيمس دين وبريسلي وباقي الممثلين الأمريكيين، إنّ ضياع شبابنا وعدم قدرته على شغل وقته بما يفيد وينفع يحملانه دائما على صرف وقته في توافه الأمور، كالتهريج الرخيص، والمبالغة في الظهور، والوقاحة في ملاحقة الفتيات والسيدات ومغازلتهنّ؛ بل أكثر من ذلك الانحدار إلى حمأة الجريمة، والهبوط الشنيع إلى هوة الرذيلة” .
لماذا هذا النموذج؟
ما ذكرته كان عبارة عن نموذج يعود لأكثر من سبعين عاما، في حين لا يوجد حينها على الأقل في الدول المتطورة آنذاك غير التلفاز ذي القنوات المحدودة والفيديو وبعض المجلات، مما ولد نتائج سلبية لسوء التعامل معها.
واليوم نحن نعيش في فترة أكثر تعقيدا، لأنّ الحدث لم يعد يكتسب ثقافته من والديه أو أصدقائه في القرية أو المدرسة، بل حتى ليس من التلفاز ذي المئات من القنوات ولا من المجلات والصحف، لقد أصبح الحدث يستقي سلوكياته من هاتفه وجهازه المحمول حتى وهو في دورة المياه، ودخلت هذه السلوكيات حتى عن طريق الألعاب، والمحادثات ووسائل التواصل الاجتماعي فزادها تعقيدا.
مظاهر انحراف الأحداث:
الحدث إنسان في ذاته يحاول التقليد فطريا، وهو ابن بيئته ومجتمعه وقريته، ولد في فترة سهل فيها اكتساب السلوكيات المتعددة بأبسط الطرق، وعليه يجب التعامل مع هذه المرحلة من طريقين:
الأول: الجانب الإيجابي، بحيث يتعامل المجتمع مع هذه المتغيرات بإيجابية، ويكون التوجيه تربويا إيجابيا، وليس سلبيا مجتمعيا.
الثاني: الشمولية في العلاج، والانطلاق إلى الجانب العملي.
وعليه أخطر ما يواجهه الحدث الفراغ الذهني والوقتي، أما عن الذهني فأشرنا إليه وأما عن الوقتي فهو وإن كان مشغولا بتواصله عبر وسائل التواصل إلا أنه يعمل ذلك نتيجة فراغ يسقط بعدها سلوكيات سلبية قولية وفعلية بداية في الأسرة ومن ثم المجتمع.
العلاج:
بعد هذه النظرة السريعة ندرك أين يكمن العلاج، وقوة العلاج في قوة المجتمع وتكاتفه، يقول تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
والعلاج وفق الجماعة ينطلق مع العلاج الجذري لظاهرة الأحداث، وقوة العلاج أن يكون عمليا وليس مجرد وعظ يتبعه لوم وعقاب، وعليه يمكن اقتراح التالي في نظري:
أولا: إعادة صياغة التعليم بما يتوافق ومقتضيات الواقع، واستغلال الوسائل المعاصرة في ذلك، وأن يكون التعاليم عمليا قائما على الحوار وأسلوب الجذب في توصيل المعرفة، بجانب شموليته لقضايا الشباب والأحداث.
ثانيا: وجود مراكز رياضية وثقافية تربوية على الأقل في كل ولاية، وتكون الفرق الرياضية فرقا تربوية في ذاتها لا تقتصر عند الجانب الرياضي، ويستعان بذلك عن طريق قناة الأسرة والمسجد والمدرسة.
ثالثا: وجود مراكز الإبداع التصويري والبحثي والاختراعي والرياضي بحيث يجد الحدث ملاذا لإبداعه.
رابعا: وجود شرطة مدنية تحفظ الأحداث من الانحراف وعلى رأسها المخدرات مثلا، وتنسق مع الجهات المعنية، ويكون عملها تربويا ذات صبغة مجتمعية.
خامسا: تقوية مؤسسات العمل المدني وإلحاق الأحداث بذلك كالمشاركة في الجهات الخيرية والجهات المدنية التطوعية.
سادسا: وجود مراكز أبحاث على الأقل في كل محافظة إن لم يكن ولاية، هذه المراكز تعالج قضايا الأحداث ومشاكلهم، ويعمل فيها التربويون والاجتماعيون والمقننون، وتسن قوانينها، وتقدم مقترحاتها، وتكون بوصلة خير في علاج قضايا الأحداث والشباب.
سابعا: إيجاد مواقع ووسائل التواصل وبرامج عملية كالفلاشات والصور التي تشد الأحداث نحو الطريق السليم.
ثامنا: وجود مصحات علاجية لبعض الأحداث بحيث يتعامل معه إيجابيا، وأن الخطأ لا ينظر إليه بسلبية بقدر ما ينظر إليه بإيجابية، حتى يشعر الحدث أنه يعيش في مجتمع يحتضنه ويريد الخير له، لا في مجتمع يرفضه بمجرد الخطأ، فينشأ ناقما على هذا المجتمع.
تاسعا: وجود تقنين واضح يحفظ المجتمع والأجيال، ويدرسه الأحداث كما يدرسون حروف أسمائهم، ليتعود على البعد القانوني والمجتمعي.
دور الأسرة:
للأسرة بلا شك دور كبير في حفظ مرحلة الحدث، والتعامل والرقي بالأسرة هو رقي بالمجتمع، فالأبوان دورهما كبير، وعليه وجود مراكز عمل مدني في تأهيل الأسر ضرورة ملحة، وأن تكون متخصصة في هذا الجانب.
الخاتمة:
عموما تكاتف جميع الجهات والقنوات من الأسرة فالمسجد فالقرية فالمدرسة فالولاية والمحافظة ومن ثم مؤسسات العمل المدني والجمعيات الأهلية فالدولة ومراكزها الخدمية دور كبير في إيجاد مجتمع آمن للأحداث يراعي القانون والقيم.
وعندنا والحمد لله تعالى طاقات شبابية ذات خبرة كبيرة جدا في علم التربية والاجتماع والقانون والمدنية وعلم النفس، حري أن يستفاد منها وفق عمل جاد ومؤسسي قبل أن يتجه المسار اتجاها آخر، وحينها يصعب إرجاعه.
جريدة عمان 1436هـ/ 2015م