المقالات الإجتماعية

الإصلاح بين ثورة (الحقوق) وثورة (الجياع) وفق سنّة الاقتضاء

نشرته مجلّة الفلق العمانيّة الالكترونيّة، وكتبته على بداية أحداث صحار وما تبعها في ظفار وصور ونزوى وبدية وغيرها من مناطق عمان، بعد منتصف مايو 2021م، من قبل الباحثين عن عمل والمسرحين.

من المعلوم أنّ ثورة الجياع هي من أخطر الثّورات؛ لأنّ دائرة التّعقل فيها تنخفض بشكل كبير جدّا، وتصبح النّظرة إلى الآخر بأنّه (الظّالم) الّذي يتحمّل كلّ شيء أوصلهم إلى هذا الحال، فيغيب التّعقل في الوسائل المستخدمة، إذ قد يتطوّر إلى المواجهة المسلحة، وقد يمتدّ أثره على بنية المجتمع شيئا فشيئا، حتى المطالبة بإسقاط ليس الحكومة فحسب بل النّظام ذاته، وهذا ما حدث مثلا في بعض ثورات الرّبيع العربي 2011م في تونس مثلا؛ لأنّ بدايتها ثورة الجياع.

أمّا ثورة (الحقوق) فهي وإن كانت أخف نوعا ما، لكنّها أيضا قد تتطور بشكل كبير إذا توّلدت مواجهة سلبيّة، أو غذّيت بشكل سلبي، فتخرج عن دائرة التّعقل شيئا فشيئا.

والثّورات حسب سنّة الاقتضاء لا تولد كثورة، ولا يمكن ولادتها بدعوة عابرة، ولكنّها تتطوّر نتيجة إقتضاءات سابقة لم يحسن التّعامل معها، أو كان العلاج ليس جدّيا، ولا يحمل صفات الرّغبة في الإصلاح والعلاج.

وما يحدث اليوم  ونحن على بداية النّصف الثّاني من 2021م في عُمان من مظاهرات للباحثين والّذين لا يملكون وظائف؛ هذه لا يمكن وصفها بالثّورات، ولكنّها قد تتطور حسب سنّة الاقتضاء إلى ثورات، وستتجه إذا لم يحسن التّعامل معها إلى ثورة  (الجياع) أكثر منها ثورة (الحقوق)؛ لأنّ ما حدث في 2011م كان معالمه الحقوقيّة أوسع من مطالبات بدولة تعاقديّة، وإقالة الوزراء، وتعيين رئيس للوزراء بالانتخاب، مع حكومة دستوريّة، وإن كانت بدايته الاعتصامات تتشابه بشكل كبير في توفير فرص للباحثين عن عمل.

مظاهرات اليوم أصبحت واضحة جدّا، ومعالمها واضحة، تتمثل في وجود شريحة كبيرة من المجتمع أغلبها شابّة، لا هي تملك ما يشبع ذاتها كباقي المجتمع، ولا هي تجد من الفرص ما تطمئن إنّ مستقبلها يكون مشرقا، فتعيش في جو من الاطمئنانة.

لقد عجّل بهذه اقتضاءات عديدة منها سوء المعالجة في وضع جائحة كورونا، والتّجييش العاطفي في وسائل التّواصل حصوصا تويتر ضدّ العديد من القرارات، كذلك صدور هذه القرارات بعيدا عن مجلس الشّورى ممّا اعتبر العديد استفزازا للمجتمع، مع انخفاض سعر البرميل وتراجع السّياحة والاستثمار ممّا أسقط أثره على المشاريع الصّغيرة والمتوسطة، وبالتّالي زيادات الإحلال، وارتفاع معدل البطالة.

هذا الوضع ظهر ما يماثله في التّأريخ، ففي عهد عمر بن الخطاب (ت 23هـ) في عام الرّمادة (17 و18هـ) انتشر الجدب، وزاده جائحة طاعون عمواس (18هـ)، فعمل عمر على إصلاحين: الأول وضع الأولويّة للصّدقات والزّكاة ومنافع الدّولة من مداخيل في إشباع النّاس، والثّاني تجميد بعض القوانين كحدّ السّرقة، حتى يدور المال في أكبر شريحة في المجتمع، ويعود التّوزان من جديد.

وهذا نفسه ما وقع في مملكة جوسون الكوريّة عندما تضرر النّاس بسبب الارتشاء والفساد الحكومي، ممّا تجمّع الفقراء في الجبال، وقاموا بثورات، فأدرك المصلحون أنّ المال كلّما تمدد ودار في الطّبقات الفقيرة، سيؤدي إلى نمو الاقتصاد، وتحقق الأمن، والقضاء على الفقر، وفي هذا يقول القرآن: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}.

ما يطلبه الشّباب اليوم هو حق مشروع لا ينبغي تشتيته إلى جوانب أخرى، ولكن قد يكون الإصلاح الوظيفي يحتاج إلى وقت، هنا لا ينبغي استخدام المسكنات كما حدث في 2011م؛ بل كان الأصل من الابتداء تدوير جزء من المال كحق لهؤلاء ممّا يحقق لهم أمانا معيشيّا حتى يعود التّوازن المعيشيّ من جديد، وتحقيق الأمان المعيشيّ طولب به من عقد من الزّمان، وصرف حينا بمبلغ زهيد ثمّ انقطع.

وفي نظري من الأمور الدّاعمة للأمان الوظيفيّ صندوق الزّكاة، فينبغي أن يخرج من دائرة بسيطة إلى هيئة مستقلة مرتبطة بالمال العام، بدلا من العشوائيات الّتي توزّع اليوم عن طريق الجمعيات البعيدة عن المتابعة والمحاسبة، والأولى بها هؤلاء الباحثين أو المتضررين من الإحلال بجانب الأسر الفقيرة، لهذا نجد القرآن وسّع في إخراج مصارف الزّكاة.

من السّوء أن تجد مشاريع تطوعيّة تبنى بالآلاف بعضها ليست لها أهميّة حاليا، كان الأولى بها هؤلاء؛ لأنّ المال المنفق لهم يقوّي دوران المال في المجتمع، فقد يتحوّل إلى مشاريع صغيرة فمتوسطة تكبر شيئا فشيئا، وبذاتها تخلق وظائف.

وحسن إخراج الزّكاة والصّدقات وجعله بيد مؤسسة واحدة، مع صندوق الأمان الوظيفي عن طريق الضّرائب، الأصل فيه التّعجيل لصرفه، وما حدث اليوم نتيجة التّأخير والإهمال، وهذا لا يسع أبدا التّسويف فيه مع الجائحة حاليا، كذلك تشتيته وعشوائيّة التّوزيع وتعدد المصارف مع الضّرورة الحاليّة.

مع إمكانيّة وضع وقف مستمر للأمان الوظيفيّ لجوائح مستقبلية، كما في بعض الدّول الّتي لم تتضرر بالجائحة ماليّا بسبب وجود احتياط مالي أشبع حتى المقيم فيها للعمل.

ما قلته سلفا ليس معناه أن نوجد مسكنا آخر، ولكن السّؤال ونحن نتحدّث من خارج الصّندوق، فنحن نملك وظائف وعندنا مسكن وسيارة ما يكفينا، وهؤلاء الشّباب لهم مشاعر كمشاعرنا، وإحساس وعواطف وآمال ونزوات وشهوات كغيرهم، وعمرهم يتقدّم يوما بعد يوم، فلا نلوم عواطفهم، ولا نقمع مطالبهم، ولا نقعد بكلّ صراط ضدّ أحلامهم وآمالهم، فإن خرج منهم ما هو خارج التّعقل فهذا طبيعيّ، كما حدث في عام الرّمادة، فهنا الرّوح تغلب، والحسّ الإنساني هو الأصل.

ولكن الّذي يتحدّث من خارج الصّندوق عليه أن يكون أكثر تعقلا، وحتى يوجد من سنن الاقتضاء ما يدفع بهذا الشّأن إلى الحيز الطّبيعيّ الّذي يخدم الإنسان قبل الوطن، فالوطن بلا إنسان لا قيمة له، ومن حق الجميع أن يكون له من نصيب الوطن ما يشبع ذاته وأسرته سواسية بغيره.

لهذا أرى هذه القضيّة الشّبابيّة قضيّة مشروعة، لا ينبغي أن تشتت؛ لأنّ تشتيتها لا يخدم أحدا، وفي الوقت نفسه ينبغي أن لا تخرج عن دائرة الاقتضاء الطّبيعي من خلال دائرة التّعقل، حتى لا تتطور وتتجه سلبا، وحينها يصعب العلاج، فالتّخوين والمواجهات الأمنيّة المضادة لا تخدم القضيّة، وإنّما يخدمها فتح أكبر قدر من التّنفيس للحريات في توصيل المطالب، وفي الوقت التّعجل في الشّروع ما يحقق الأمان المعيشي لهم أسوة بغيرهم، وجعله الغاية الآن حتى تطمئن النّفوس، وتحقق سنن الاقتضاء الطّبيعيّة في تحقيق التّوازن المعيشي بعد حين.

نعم هناك غياب للقاعدة الشّعبيّة من خلال (مجلس الشّورى)، ومؤسسات العمل المدني، والنّقابات العماليّة وغيرها، الّتي هي الأصل الممثلة عن الشّعب، والمشرّعة والمحاسبة لأداء الحكومة، وما يحدث من خلل في زيادة البطالة عن طريق الإحلال والمخرجات الجديدة، مع خسارة العقول والمواهب بسبب البطالة العامّة والمقنعة.

هذا الشّيء لا ننكره، ولكن ما يحدث الآن من مظاهرات ومطالبات شبابيّة مشروعة هي الأولى بالتّركيز عليها، حتى تحقق مطالبهم، بما يقدر له الآن، وما يتحقق عن قرب، وكما أسلفت حتى لا تخرج عن دائرة التّعقل والاقتضاء الإيجابي إلى اقتضاءات سلبيّة يصعب التّحكم بها مستقبلا، حيث المخرجات تزيد عاما بعد عام، ولا نعلم الغيب فيما يكنّه المستقبل من جوائح، فلعل ما حدث هو درس لا ينبغي أن يكون علاجه تسكينا للوضع، بقدر ما يكون مشروعا نهضويّا يخدم المجتمع لأجيال وأجيال قادمة، في ظلّ من الاستقرار والعدل الاجتماعي والإنساني قبل العدل بكونه مواطنا منتسبا إلى هذا البلد، وهذا لا يتحقق إلا بتوسيع الشّراك المجتمعي بمؤسساته المدنيّة وبرلمانه الشّورويّ ومؤسسات العمل المدني، وهذا حديث آخر يطول المقام لذكره هنا، ويخرجنا عن الغاية المبتغاه.

السابق
قراءة حول علاقة الإباضيّة بالخوارج من خلال الظّرفيّة التّأريخيّة
التالي
إنسانيّة القضيّة الفلسطينيّة وإشكاليّة الخطاب
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً