المقالات النقدية

الأديان والمذاهب بين وحدة المواطنة وخصوصيّة المعتقد والطّقوس

جريدة عمان، الثّلاثاء 10 محرم 1446هـ/ 16 يوليو 2024م

الّذي يجمع بين الأديان دائرة الإنسان، ومن دائرة الإنسان تتشكل المواطنة، فالمواطنة لا تلغي حقّ الإنسان في اختيار دينه، وفي ممارسة طقوسه، وفي الوقت نفسه تسعهم المواطنة جميعا من حيث الحقوق والواجبات، ضمن قيمتي المساواة والعدل بينهم جميعا.

فإذا اتّسع ذلك من حيث الأديان؛ يتسع من حيث المذاهب داخل الدّين الواحد، ومنها دين الإسلام، إذ يحوي مذاهب عقديّة وفقهيّة وسلوكيّة وحركيّة وتوجهات فكريّة، وجميعها تجتمع على المشتركات الكبرى في الإسلام، إلّا أنّها تختلف في المصدر الثّاني، وأصول الاستنباط، وفي العديد من جزئيات المعتقد، وفي النّظرة التّأريخيّة لأحداث الإسلام الأول بعد وفاة النّبيّ الأكرم، وفي العديد من القضايا الفقهيّة، ومدى سعة التّعامل مع الاتّجاهات السّلوكيّة الصّوفيّة والعرفانيّة، ثمّ مدى انفتاحها على القراءات المعاصرة، كلّ هذا أوجد تعدّديّة في البيت الإسلاميّ إن صح التّعبير.

الدّولة الوطنيّة وفق رؤيتها المركزيّة الواحدة لا إشكاليّة لديها حول هذه التّعدّديّة الدّينيّة أو المذهبيّة، وتنظر إليها أنّها عنصر ثراء وتنوّع وتكامل، وتحافظ على معتقد الفرد، وحريّة تديّنه وممارسة طقوسه، مع حريّة تفكيره ونقده، لأنّ الدّولة الوطنيّة تعمل على المشترك الأكبر، فهي تتعامل مع كلّ فرد أنّه مواطن يمثل ذات مستقلة، وما عداه فهي ألبسة يلبسها المواطن، وله حرّيّته في اختيار لباسه، ويجد بذاته انتماء للدّولة الوطنيّة إذا ما حافظت على قيمته الفرديّة، وجعلته مساويا للجميع، وفق قانون يحمي الجميع، ولا يمايز بينهم.

هناك مساحة واسعة داخل الدّولة الوطنيّة والمركزيّة لإتاحة النّقد العلميّ الّذي يدفع بالعقل إلى البحث والتّساؤل والتّصحيح، مع الإيمان بحقّ الآخر في المعتقد وممارسة الطّقوس، ولكن هذه المساحة تضيق لمن يسعَ في إثارة الخلافات الدّينيّة والمذهبيّة لأجل إقصاء الآخر، وممارسة الوصاية عليه، وجعلة في درجة ثانية أو متدنية من حيث المواطنة، هذا التّمايز في درجات المواطنة يؤدّي بدوره إلى شيء من الاختناق قد يظهر أثر السّلبيّ حال ضعف مركزيّة الدّولة.

فدولة المواطنة تنطلق من قيمة الفرد المشكل لقيمة المجموع، لا أن تهيمن الجماعة على قيمة الفرد، بمعنى أنّها تقصي وتلغي الآخر، كما أنّ دولة المواطنة تنطلق من إنسانيّة الفرد إلى انتماءاته الدّينيّة والمذهبيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة، بهذا القدر يشعر كلّ فرد في هذه الدّولة أنّ له انتماء حقيقيّ، يجد في هذه الدّولة مناخا يحميه، ويسعى لأجل رقيها واستقرارها وتطوّرها، وليس مجرد نسبة ينتسب إليها، فأكثر ما يؤثر في استقرار الأمم التّمييز الهويّاتيّ والإنتمائيّ، وبذاته يؤدّي إلى الصّراع والتّفكّك والاحتراب.

وعلى هذا لابدّ أن يتهذّب الخطاب الدّينيّ المعاصر من خلال سعة دولة المواطنة، وأن يؤمن بالتّعدّيّة واستيعاب الآخر واحترامه، وأن يمايز ما بين ما يؤمن به، ويمارسه طقوسا، كفرد أو جماعة، وما بين حرّيّة الآخر في معتقده وممارسة طقوسه أيضا، وأن ينطلق في خطابه الدّينيّ من الدّائرة الأوسع ليستوعب الانتماءات الأدنى، فيتهذّب خطابه الدّينيّ لأجل ذلك.

هذا لا يمنع أن يمارس حقّه في النّقد وبيان صحة رأيه ومعتقده وطقوسه، لكن أن يمارس دور التّثوير والتّهييج ضدّ المختلف، وأن يتكئ على السّلطة المركزيّة في إقصاء الآخر؛ هذا يغرس في العقل الجمعيّ باسم الدّين ذاته في ضرورة إقصاء المختلف، ممّا قد يمارس بعض العقل الجمعيّ إقصاءات عمليّة لأيّ مختلف عنه، كالإقصاءات الإداريّة، والعنف اللّفظيّ، وقد يؤدّي إلى قتل الآخر أو تفجيره رغبة في تحقيق الرّضا الأخرويّ، لأنّه غرس فيه التّعامل مع المختلف من خلال انتماءه الدّينيّ والمذهبيّ، لا من خلال سعة الوجود، وسعة اختلافه وتعدّديّته.

لقد عانت العديد من الدّول العربيّة في نهايات القرن العشرين من طائفيّة جعلت بعض الدّيار يعمّها التّمزق والخراب، ثمّ بدأ العقل المعرفيّ يدرك خطورة هذا الخطاب الطّائفيّ والمذهبيّ، وأثره السّلبيّ على السّلم الاجتماعيّ، وعلى وحدة وتقدّم الدّولة الوطنيّة، واليوم أجد بعضهم يحاول استنساخ هذه السّنوات السّود في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، من خلال إحياء الطّائفيّة، مقرونة بالسّبّ والشّتم والاستهزاء بالآخر، واستغلاله سياسيّا، وهذا تحول سيء إذا لم يتداركه العقلاء قبل أن يجد أرضا خصبة، فما حدث في لبنان من حرب طائفيّة قبل أكثر من ثلاثة عقود؛ جعل البلد مدمرا حتّى اليوم.

كنت أرجو بعد هذه التّجارب أن تكون هناك مراجعات من داخل التّيارات الدّينيّة والمذهبيّة، لخلق قاعدة اعتداليّة في استيعاب الآخر، ولكني أجد اليوم أنّ الحالة الأصوليّة الإقصائيّة لا زالت أكثر تمدّدا في الذّهنيّة العلمائيّة والخطابيّة داخل العديد من المذاهب الإسلاميّة، ولولا بعض التّوجهات السّياسيّة المؤمنة بحقّ الآخر وحريّته المعتقديّة والطّقوسيّة لرأينا استنساخا للصّراعات والإقصاءات المذهبيّة، وجرّ سعة المواطنة إلى ضيق الطّائفيّة، ويشتدّ السّوء إذا وسعت الدّولة المركزيّة دائرةَ العقول الأصوليّة الإقصائيّة، وضيّقت من دائرة العقول المعتدلة، داخل المذاهب الإسلاميّة ذاتها.

الخطر الأكبر الآخر الّذي يهدّد السّلم الاجتماعيّ، والاستقرار المذهبيّ هو خطر التّبشير المذهبيّ الممنهج، واستغلال المال العام في ذلك، فلا أدري ما الفائدة من التّبشير المذهبيّ، مع أنّ العقل الجمعيّ عموما متشابه في دائرة إيمانه بالأصول العامّة، ومتشابه في ممارسة أركان دينه، والأشدّ خطورة أن يكون مدعوما من خارج الدّولة المركزيّة؛ لأجل خلق ولاءات خارجيّة باسم الدّين أو المذهب، والأصل في الخطاب الدّينيّ أن يشتغل على حقّ الإنسان من حيث المواطنة، وأن يشتغل في القيم والأخلاقيّات الكبرى المشتركة بين الجميع، لا أن يشتغل بالتّبشير وإقصاء الآخر من خلال تفخيم الجزئيّات والفرعيّات التّأويليّة والتّأريخيّة، لا في مساق النّقد العلميّ، ولكن في مساق التّضييق على المختلف الدّينيّ والمذهبيّ والفكريّ.

السابق
التّأريخ بوصفه قوة دافعة للأمام
التالي
هل أحداث الوادي الكبير سوف تؤثر على التّعايش السّلميّ في عمان
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً