جريدة عمان 1444هـ/ 2022م
المعرفة هي الخيط الّذي يسع الجميع، كانت المعرفة وليدة العلوم الإنسانيّة بالمفهوم التّخصصيّ، أم كانت وليدة العلوم التّطبيقيّة والتّجريبيّة، كانت تلامس حياة النّاس وواقعهم، وتعالج قضاياهم ومشكلاتهم، أم كانت مخيالا ونقاشا معرفيّا بحتا، أيّا كانت المعرفة وصنوفها وغاياتها، تبقى خيطا يحمل المتعة المعرفيّة من جهة، ويحمل البحث والتّساؤل والتّناظر والحوار من جهة أخرى.
ولا زالت الأمم منذ القدم تتدافع في معارفها، وتتحاور بما تحمله من معارف وتخيّلات وبحث وسير في الأرض، وبما يخدم المجتمع الإنسانيّ، فأنُتجت هذه المعارف والعلوم، منها الّذي أصبح من الماضي، ويُقرأ به الماضي، ومنها ما تهذّب ونفع المجتمع البشريّ، ومنها اقتضاءات ولّدت معارف، وطوّرت أخرى؛ لتنتج حضارة إثر حضارة، ترقى بالمجتمع الإنسانيّ.
لقد عايش الإنسان منذ القدم شغفه في الكشف والسّير في الأرض، وطرح تساؤلاته حول الوجود، وحول ذاته، وعايش أديانا وفلسفات عقليّة وغنوصيّة وطبيعيّة، وبحث في سنن الحياة وسيرها ليحاكي الطّبيعة ويكشف أسرارها، فتباينت أديانه ومذاهبه وتوجهاته، وهذه طبيعة الإنسان، ولولا الاختلاف لما كانت المعرفة، ولا توجد معرفة بدون اختلاف، وإلا جمدت العقول، وسكنت كسكون الأموات.
وكما عايش الإنسان شغفه في الكشف والبحث والسّير في الأرض؛ عايش أيضا تطوّر وسائله في ذلك، “واستطاع التّحدّي في كشف سنن الوجود، فتناقل المعرفة شفويّا، ثمّ اكتشف الكتابة، وورق النّخيل واللّحاء، وعلى الصّخور والعظام، حتى اكتشف المصريون القدامى ورق البرديّ، فانتشر الكتاب، وانتشرت العديد من الفلسفات عن طريق نسخ الكتب وتداولها بين الأمم والحضارات، فحفظ لنا تراث اليونان وفارس والهند والعرب، وتناظرهم وشروحهم.
إلا أنّ النّقلة النّوعيّة ما قام به يوهان غوتنبرغ [ت 1468م] باكتشاف الطّباعة، ممّا أحدث نقلة نوعيّة وكبيرة في تداخل المعارف، وبسبب الطّباعة قامت الصّحف والمجلّات، حتى كان القرن التّاسع عشر الميلاديّ فاكتشفت الإذاعة والتّلفاز، مرورا إلى القرن العشرين فكانت الفضائيات والشّبكة العالميّة والمواقع الالكترونيّة، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، كلّ هذا أحدث نقلة نوعيّة في انتشار المعارف، وتداخل العلوم وتطوّرها”.
ووسائل التّواصل الاجتماعيّ هي الخيط الّتي جمّعت وسائل المعرفة من أول التّأريخ وحتّى اليوم، واختصرتها حصولا وحضورا، فأمّا حصولا فأصبحت المعرفة مشاعة بين الجميع، وبكافّة اللّغات، كانت صوتيّة أو مرئيّة أو مقروءة، كنت معارف إنسانيّة أم طبيعيّة، وأمّا حضورا؛ فالكلّ حاضر فيها، أيّما كانت مرتبته المعرفيّة، وتخصّصه المعرفيّ، وكيفما كانت منزلته ومكانته الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة، وكما اختصرت طرق الحصول على المعرفة؛ هي أيضا اختصرت البعد الجغرافيّ، فلا تحتاج أن تسافر متكلّفا الأمول للقاء شخصيّة معرفيّة، حيث تجدها حاضرة – في الجملة – في وسائل التّواصل، متعلّما منها، ومتسائلا معها.
هذا الحدّ الافتراضي الّذي يذكرنا بمجالس بغداد مثلا، فنجد أبا حيّان التّوحيديّ [ت 410هـ] يؤرخ بعضا منها في كتابه المقابسات، ليشاركه أبو سليمان السّجستانيّ، ويحيى بن عديّ، وثابت بن قرّة، وغيرهم من أصناف متنوعة، فمنهم من كان مسلما، ومنهم اليهوديّ والنّصرانيّ والمجوسيّ والصّابئيّ، ومنهم خارج الخطّ الدّينيّ، والمتسائل والباحث، والأديب والرّاهب والفيلسوف والطّبيعيّ، جمعتهم المعرفة على تنوّعها، وإن تباينوا توجها، واختلفوا مشربا، إلا أنّ فضاء المعرفة وسعهم جميعا، وشعروا بمتعتها من خلال البحث والتّساؤل والحوار، لا من خلال الشّتائم والتّنقيص والصّراع والإقصاء.
وإذا كانت مجالس بغداد على بساطتها؛ فإن وسائل التّواصل ضمّت عشرات المجالس، من مختلف المشارب والتّوجهات، منهم ذات اليمين، ومنهم ذات الشّمال، وكلّ يخرج ما عنده من إبداع وتوجه ومعارف وفنون وتساؤل وتفاعل، فعمّقت الفرديّة في أبعد حدودها، وأقصى مشاربها وتنوّعها، لندرك أنّ النّاس لا يعيشون في عالم إبداعيّ ومعرفيّ واحد، بل هناك عوالم عديدة ومعقّدة، منها عابر للهوّيّة، ومنها حتّى داخل الدّولة القطريّة ذاتها، فإذا تأملت المساجد ومعتكفيها، والأديرة ورهبانها، والأسواق وعاشقيها، والسّواحل والمجمّعات والمسارح والحدائق والمكتبات والطّرقات؛ تجد عوالم من البشر، كلّ في فلك يسبحون، فما بالك بوسائل التّواصل، فهو ليس عالما واحدا، كلّ يتدافع فيه، ويبرز ما عنده من آراء ومواهب وإبداع ومعارف بطريقته، فلا يمكن بحال صهره في عالم ولا فكر واحد، وهذه طبيعة البشر في الوجود، منذ نشأة الخليقة وحتّى اليوم، إلا أنّ وسائل التّواصل جعلت المخفيّ ظاهرا، والمستور مكشوفا، والبعيد قريبا.
هذا الحدّ الطّبيعيّ الأصلُ نجد واقعه في وسائل التّواصل، لتعطي ثمرتها وتدافعها الطّبيعيّ، والأصل به أن نصل إلى العقول الكبيرة الّتي تناقش الأفكار كما ترى إلينور روزفلت [ت 1962م]، أو على الأقل تناقش الأحداث كما عند العقول المتوسطة، بيد أننا ندرك من خلال ما يحدث اليوم في وسائل التّواصل الاجتماعيّ أننا لا زلنا لم نتجاوز العقول الصّغيرة الّتي تناقش الأشخاص.
من المؤسف حقّا أن نجد مجالس بغداد في بساطتها أكثر رقيّا من بعض وسائل التّواصل الاجتماعيّ اليوم، لتخرج لنا مجالس بغداد وغيرها إبداعات لا زالت تلقي بثقلها حتّى الآن، فنجد الواحد في وسائل التّواصل يفرغ ما عنده من شحنات سالبة، وفق معرفات وهميّة أو حقيقيّة، ليفرغ ما بداخله من سبّ وشتم ونقيصة من الآخر، وكأنّه حقّق انتصارا عظيما، ورفع بنيانه منزلة كبيرة، وإذا هو في الحقيقة يسيء إلى المنهح الّذي يتبعه، كان يمينيّا أم يساريّا – إن صح التّعبير الإسقاطيّ -، كان أصوليّا أم لبيراليّا، كما أنّه يسيء إلى الدّين الّذي يعتنقه، والمذهب الّذي ينتهجه، والفكر الّذي يؤمن به، والبلد الّذي ينتمي إليه؛ لأنّ التّأريخ لا يرحم، وما يكتب اليوم ولو ساذجا؛ تقرأه الأجيال القادمة، وتدرك به حقيقة الحال.
من حقّ الإنسان أن يدافع عن فكرته ومعتقده ورؤيته في الوجود والحياة، كما أنّه من حقّه أن يبرز مواهبه ومعارفه وقدراته، ولو رأيناها ساذجة أو بسيطة؛ هذا كلّه إن لم يكن وفق مدافعة الفكرة بالفكرة، والبرهان بالبرهان؛ فلا أقل أن يكون وفق تحليل الحدث وتفكيكه، أمّا يتحوّل هذا العالم إلى عالم من التّنمر والسّباب واللّعن والوصاية والسّخرية؛ فإنّه يقود إلى صناعة ثنائيّات وهميّة، لا معرفيّة أو إبداعيّة واقعيّة، لن يستفيد منها أحد، بقدر ما يكون الخاسر هو الجميع.
إن صناعة ثنائيّات عدوانيّة، حيث تتصوّر الآخر إمّا عدوا لك، أو صديقا لك؛ من خلال هذه الثّنائيات الوهميّة، لا من خلال ما يقدّمه الشّخص في ذاته الفردانيّة من فكر ومعارف ومواهب وإبداعات؛ يجعلك لا تستطيع مجاوزة الأشخاص، وتدور وفق الأشخاص، حبّا أو بغضا، لتعيش في حلقة فارغة؛ فلا أنت دافعت الفكرة بالفكرة للتتهذّب وفق أخلاقيّات التّدافع والحوار، ولا أنت قدّمت جديدا، ليتقدّمك غيرك وأنت لا زلت لم تتجاوز حدود دائرتك، ثمّ ولا أنت ألّفت لتألف القلوب، وقرّبت لتصفى النّفوس، فلم تك أذن خير، بقدر ما كنت منفرا لفكرك وما تؤمن به.
وكما أنّ لكلّ دولة قطريّة أنظمتها ودساتيرها وقوانينها، وهناك مؤسّسات تعمل بذلك، وتدرك ما يدور حولها جيّدا، فالكلّ يقدّم رؤيته وفكره ومواهبه وفق ذلك؛ لأنّ الحريّة هي الأصل، والتّدافع هو الحالة الطّبيعيّة، ولسنا أوصياء لنؤسّس شبه مؤسّسات افتراضيّة تقوم على التّنمر من المختلف، وتتجاوز أبجديّات التّعامل مع الآخر، إلى حالة من الإقصاء والإيذاء النّفسيّ والمعنويّ، الّذي قد يتحوّل واقعا إلى إيذاء بدنيّ واجتماعيّ.
وما ذكرته لا يعني تلك الحالة السّوداء المظلمة في وسائل التّواصل، فهناك مئات النّماذج الإيجابيّة، والّتي تقدّم إبداعاتها ومواهبها وأفكارها، وتناقش الأفكار والمعارف، وتقدّم صورة حسنة عن ذاتها وبلدها، وأظهرت النّخب الثّقافيّة والمعرفيّة والإبداعيّة والمواهبيّة المضمرة، كما ساهمت بشكل إيجابي في تقديم الحلول والعلاج على المستوى القطريّ، وعلى المستوى الإنسانيّ العالميّ، كلّ هذا ينبغي أن تكون هي الصّورة الأفقيّة السّائدة لوسائل التّواصل، لا أن يتحوّل التّنمر وإقصاء الآخر وفق تشكلات معرفيّة وهميّة خصوصا هو الخطّ الأفقيّ، فجميعنا ينشد الخير للبلدان والإنسان، وهذا لا يتحقّق إلا بمساحات تحمي الجميع، وتعطي صورة حسنة للواقع والمستقبل، فالتّأريخ لا ينسى، وإن أساء بعضنا تقدّمه آخرون، وإن عشنا مع صراع الأشخاص فهناك من تجاوز الأحداث إلى الأفكار، وسننيّة الحياة واحدة، من أخذ بمعارفها وتدافع معها في أيّ وسيلة كانت؛ كتب له ما أراد، ومن يرد أن يظلّ في دائرة الشّخوص لا يتجاوزها فله ذلك!!!