الحوارات

حوار حول صادق جواد سليمان مع بدر العبري

أعدّ الأسئلة الأستاذ خميس العدويّ

العدوي: من صادق سليمان؟ نبذة عن حياته الشخصية؟

العبري: ولد صادق جواد عام 1933م في مطرح، سافر في الأربعينيات في بداية العقد الثّاني من عمره إلى الشّارقة ودبي، ثمّ الخبر تقريبا، واستقر به المقام في الكويت ليعمل في صحيفة الرّأي، وعند حكم السّلطان قابوس رجع إلى عمان ليعمل في وزارة الخارجيّة، ثمّ يلتحق في السّلك الدّبلوماسيّ، ليكون سفيرا لعمان في إيران أيام الشّاه، ثمّ تركيا، ثمّ الولايات المتحدة الأمريكيّة، وغير مقيم لدى كندا، وعدد من دول أمريكا اللّاتينيّة، كما تولى منصب رئيس الدّائرة السّياسيّة في وزارة الخارجية (1977-1979م)، ليتقاعد في عام 1983م، ثمّ يتفرغ بعدها للتّأمل والبحث عن الله والإنسان والوجود، متنقلا بين العديد من الدّول، جامعا بين الأديان الشّرقيّة خصوصا الهند، والحضارة الغربيّة، ليساهم في تأسيس مركز الحوار العربيّ في واشنطن عام 1994م، مشاركا في الصّحيفة الّتي يصدرها المركز بتوقيع أدبي، وقد جمّع هذه المقالات صبحي غندور، والأصل تصدر في فترة مبكرة، ولكن المرحوم كان رافضا لنشرها، ليعود إلى عمان في الألفية الجديدة، ويكتب في بعض الصّحف ويقدّم بعض المشاركات، وجمّعها الأستاذ سعيد بن سلطان الهاشميّ بعنوان سلامة الفكر بسلامة التّفكير، وهي مقالة له، وأيضا ألقاها في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء في لجنة الفكر، والأصل تصدر قبل سنوات، ولكن كما أخبرني الأستاذ سعيد أنّه رفض نشرها، فقلت له أحدّثه بنفسي، وفعلا حدّثته بالأمر وكان منشرحا في أيامه الأخيرة، خاصّة كان العديد من الطّلاب والشّباب أكثروا من زيارته، وقال لي: لم أجد هذا الانشراح سابقا في عُمان، وعموما من الجوانب المهمّة كان من المساهمين في تأسيس الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، وانتخب رئيسا لها 2010 – 2012م، ومساهما في خدمات الاستشارة العلميّة لمجلس البحث في عام 2008 وحتى عام 2010م، كما أنّه يعتبر من الخبراء في السّلك الدّبلوماسيّ عموما، وفي الجانب الدّستوري خصوصا، لهذا كانت له مشورته في الدّستور الإيرانيّ بعد الثّورة، كما كان له لقاء مع السّيد السّستاني 2004م مشاورا له في بعض جوانب الدّستور العراقيّ بعد التّحرر، ويعتبر أيضا من خبراء الدّستور الأمريكيّ والفلسفة السّياسيّة الأمريكيّة، ورسالته الماجستير في السّياسة الدّوليّة العامّة من معهد الدّراسات الدّوليّة العليا، بجامعة جونز هوبكنز الأمريكيّة.

وفي أيامه الأخيرة كان مترددا بين السّفر إلى أمريكا أم إلى الهند، والأصل يسافر إلى أمريكا، ولكن غيّر وجهته، وحاول العديد من الأخوة ثنيه عن السّفر، بسبب كورونا، ولانتشار الفطر الأسود حينها، وأذكر أننا ذهبنا إليه مرتين للأمر، ولكن لم يتراجع عن رأيه، وقال سأرجع في نوفمبر المقبل أي 2021م، لكنّ الأجل سبق ليفارقنا في 27 يوليو 2021م، ومن حسن الصّدف أن تصل كتبه من بيروت بعد تأخير وعرقلة بسبب كورونا في وقت رجوعه.

العدوي: ما المراحل المعرفية والفكرية التي مر بها؟

العبري: أول تساؤل لصادق جواد كان متعلقا بجدليّة العلم والدّين، وكان في بداية العقد الثّاني من عمره، حيث يقول: “وبالنّسبة لي كان أبي على قدر من المعرفة، بيد أنّ كثرة الشّغل اليومي جعلهم قليلي الفراغ، ومع هذا كانوا يقرأون في الكتب، وكانت كتبا دينيّة، وأدبيّة على مستوى أقل، فعندنا في البيت نحن الشّيعة الكتب الأربعة كما عند السّنة الصّحاح السّت، والكتب الأربعة هي الكافي في الأصول والفروع للكلينيّ [ت 329هـ]، وتهذيب الأحكام للطّوسيّ [ت 460هـ]، والاستبصار للطّوسيّ أيضا، ومن لا يحضره الفقيه للشّيخ الصّدوق [ت 329هـ]، فكنت أنظر في هذه الكتب وأتأمل فيها، فأجد عالما آخر من الكرامات والمعاجز غير عن عالمنا، وكنت أتسائل عن صحة ما يقال فيها؟!!

ومن جانب آخر أرى نموذجا مختلفا من المعرفة، وهو نموذج الطّبيب توماس والّذي أتى إلى مطرح وأنشأ مستشفى الرّحمة، فهو شخص بسيط جدّا، إلا أنّه يقوم بعمل عظيم جدّا، بيد أنّ منهجه يختلف عن المنهج الّذي نشأنا عليه، حيث نشأت في وسط عالم محتشم يتصوّر أنّه يملك مقاليد الحكمة والمعرفة، وفي الوقت نفسه أرى هذا الشّخص البسيط من عالم آخر غير عالمنا، فحدث لدي تساؤل في نفسي وأنا صغير في السّن لا يتجاوز الثّانية عشرة من عمري: أين توجد المعرفة الحقيقيّة؟ ظلّ هذا التّساؤل يصاحبني حتى حُسِم، ولمّا حُسِمَ كان لصالح العلم، وليس لصالح العقائد أو الفقه، أي لا يتخذ من البيئة الدّينيّة مرجعيّة للنّظر والتّغير، فأنا لم أنبذ المعرفة الدّينيّة، ولكنّها لم تكن تملك كامل أو شموليّة الصّحة لما تطرحه في الخارج”.

وأخبرني مشافهة في نهاية السّبعينات وبداية الثّمانينيات كانت جدليّة الإله والإنسان، أو اللّاهوت والأنسنة، فظل معتكفا لليالي بين الحطيم والكعبة، وفي الهند، إلا أنّه استقر على مرجعيّة الإنسان منذ فترة مبكرة، فيقول: “من أوجه الأنسنة وجه يحاول فيه الفلاسفة المسلمون أن يقتربوا من الأنسنة عن طريق التّأويل، فتبقي النّص كما هو، وإنّما تجنّحه لصالح الأنسنة، وهذه في الحقيقة محاولة الاقتراب من الأنسنة، وليست هي الأنسنة، حيث أنّ معنى الأنسنة أنّه ليس فوق الإنسان شيء، فالاجتهاد الإنساني حتى ولو كان قاصرا، فهو الّذي ينبغي أن يكون في فهم الطّبيعة وفهم أنفسنا ومسالك الحياة، فهي تفك الارتباط عن أي شيء فوق الإنسان، فالإنسان يهتدي بنفسه”، فهو يمثل مدرسة الأنسنة من حيث المرجعيّة والظّرفيّة التّأريخيّة لا من حيث التّأويل.

إلا أنّه من جهة أخرى يرى أنّ الأديان تبقى كما هي، أمّا في الشّأن الإنسانيّ فالمرجعية للأنسنة، لهذا أسهب صادق جواد في بيان فلسفته حول الماهيّة والهوّيّة، وحول المبادئ والقيم، ومع أنّه اشترك مع طه جابر العلواني [ت 2016م]، وكان صديقا له، وعملا معا في مركز الحوار العربي في واشنطن، إلا أنّ العلواني كان منتصرا للأسلمة عكس صادق جواد كان منتصرا للأنسنة، ثمّ العلوني تراجع في آخر عمره عن الأسلمة بمفهومها الشّمولي كما أخبرني تلميذه المقرب منه أحمد حمدين من مصر،  ودخل في المرجعيّة القرآنيّة، أي يخرج من الخط اللّاهوتي، ولكن من خلال التّأويل المصاحب للنّزعة الإنسانيّة.

بيد أنّ صادق جواد لم ينفك عن التّأمل والبحث، وفي رسالته قبل الأخيرة لي من الهند قال: “معظم الوقت أقضيه في خلوة مع النفس، بين تأمل وقراءة وكتابة ومتابعة للأحداث.  أحيانا يخطر أنني قد حظيت بعناية كونية تتيح لي التمهل في وتيرة الحياة، وتفسح لي فرصة تعريض النظر ما أمكن في طبيعة هذا الوجود، عبر هذه المرحلة الأخيرة قبل الوفاة”.

وقد تأملت فكر صادق جواد المعرفي فرأيته يدور حول:

أولا: أن تنظر إلى العالم من الخارج، وأن تنطلق من الماهيّة فالهوّيّة، وأن نحاول الرّقي من البشريّة إلى الإنسانيّة كلّما اقتربنا من الماهيّة.

ثانيا: لا تخاصم الماضي وتراثه، ولا الأديان وطقوسها، ولكن عليك أن تعيش مع الاجتهاد الإنساني في عصرك، وأن تساهم في تطويره ورقيه، لا أن تكون نسخة من الماضي.

ثالثا: أن تتعامل مع العالم من خلال المبادئ الأربعة: العدل والكرامة الإنسانيّة والمساواة والشّورى، فهي مرتبطة بالماهيّة، وليست مضافة من الخارج كالقيم، ولا متعلّقة بالوجدان كالأخلاق، وهي الأساس لبناء الدّول، وتنمية الثّقافات، ورقي الحضارات.

رابعا: الاعتناء بثلاثة أمور أساسيّة قبل الاعتناء بالأمور الكليّة والسّياسيّة، ابتداء أن يصون نفسه أي صحة بدنه، ثمّ أن يوسّع من معارفه، بالاستعانة من أفكار الآخرين وبحوثهم، والثّالث الاستقامة.

ولخّص صادق جواد رسالته في الحياة بقوله: “أرجو أيضا أن يكون لكلّ منّا دور في تفعيل هذا التّوجه القائم على تأصيل ثابت إنسانيّا، وتفرّع متسام ثقافيّا، لأجل تحقق حداثيّ حضاريّ، قوميّ إنسانيّ، وطنيّ عالميّ، في ترادف واتّساق… هكذا إلى أن تحين الآجال، فيرتحل كلّ منّا برضا واطمئنان، مغتبطا أنّه ساهم، ولو بأقل القليل، في جعل تجربة العيش على هذا الكوكب، مع تعقيداتها، أيسر وأطيب وأثرى للآتية من الأجيال”.

العدوي: علاقتك مع صادق وكيف تبلورت في مشروع فكري؟

العبري: صادق جواد أول ما عرفته في ساحة الشّعب ونحن في نهاية العقد الأول لهذه الذّكرى الاستثنائيّة في الوعي العماني، وبُعيْدها حضرتُ مناسبتين له مستمعا في أحد المجالس البيتيّة، وفي عام 2017م كانت محاضرته في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء من تنظيم لجنة الفكر حول: كيف تضمن سلامة فكرك، وحينها سألت سؤالا في نهاية الأمسية، ومر الزّمان، وعلى نهاية 2019م شجعني الأستاذ كمال اللّواتي في تسجيل حلقة معه، فقلت نعمل مشروعا، فتأخرت قليلا لبلورة الموضوع، حتّى فبراير 2020م، زرته في بيته في روي لأسجل أول حلقة معه من عشر حلقات لمشروع كتابي، فأول ما شاهدني: قال أنت الّذي سألتي في الجمعيّة العمانيّة، قلت: نعم.

بدأ المشروع مع صادق جواد يوم الثّلاثاء 4 فبراير 2020م حول موضوع الدّين والفلسفة في حلقتين، ثمّ حلقة عن الأنسنة، وبعدها فتحنا المجال لمشاركة أكبر قدر من محبّيه ومتابعيه من عُمان والخليج والوطن العربي والدّول غير العربيّة عن طريق برنامج ZOOM، فوضعنا حلقة مفتوحة للتّساؤلات حول المواضيع الّتي طرحت في الحلقات الثّلاثة السّابقة، ثمّ كانت حلقات مخصّصة عن الماهيّة والهوّيّة، وفلسفة الأديان، وفلسفة الدّولة والمجتمع المدني، والدّولة العصريّة والدّولة المعاصرة: التّداخل والفروقات، وكان الانتهاء من الحلقات يوم الأحد 7 مارس 2021م في حلقتين تكميلتين حول المواضيع السّابقة.

إلا أنّه قبل وفاته فقال أريد أعمل حلقة عبر zoom عن التّلازميّات الضّروريّة لانضباط الأداء الإنساني، وكان قد كتب مسوّدة في ذلك، وجلسنا نتناقش حولها طويلا، وقال لي: “مشكلة النّاس لا يضبطون المصطلح” في 24 مايو 2021م، وهي آخر حوار معه، وقبلها سجلنا معه حول القضيّة الفلسطينيّة في منزل الأستاذ عليّ الحامدي في صحار في 15 مايو 2021م.

وقبل وفاته قال لي أريدك، فذهبت إليه، وقال لي رؤية في الإيمان ليس بالمعنى الكلاسيكي، وأريد أكتب عنها، ولمّا أرجع من الهند نعمل حلقة معها، وأرسل لي من الهند رسالته على البريد الالكتروني: “بصدد الكتابة رأيت أن أكتب في أريعة موضوعات خلال إقامتي هنا، وهي: 1) العقل المؤمن،  2) القوي الأمين،  3) المسؤول والمساءلة  4) مراحل الحياة… وأرجو أن أوفق في إنجاز هذا أو جله حتى موعد العودة إلى الوطن أوائل نوفمبر المقبل”.

وعموما ما أنجز حتّى الآن عملين: سلامة الفكر، والإنسان والماهيّة، ونرجو إكمال المشاريع الأخرى بعونه تعالى.

العدوي:  ما مصادر صادق جواد في المعرفة؟

العبري: صادق جواد منفتح على المعرفة عموما بمصادرها العلمويّة التّجريبيّة والعلمويّة الشّموليّة، إلا أنّه أميل إلى الجانب الغنوصي والعرفانيّ في شقّه الفلسفيّ، فهو كثير التّامل، وهذا يذكرني في عبارة لكمال الحيدريّ أنّ الشّهيد محمّد باقر الصّدر سؤل عن مصادر المعرفة عنده فقل تسعون بالمائة في التّفكر، وعشرة بالمائة في القراءة.

وأمّا عن الفلسفة والدّين فيرى الموروث الدّينيّ هو المصدر الّذي كان وعاء للفلسفة والحكمة القديمة، ثمّ انفصلت الفلسفة عن الدّين، فصارت الفلسفة فكر حر، والدّين فكر لاهوتيّ مقيّد، ثم ظهرت العلمويّة التّجريبيّة في الفلسفة، فيجعل العلمويّة التّجريبيّة قطعيّة، والعلمويّة الشّموليّة ظنيّة، يجمعهما الاجتهاد الإنسانيّ، فهو المدار لإدارة الشّأن الإنساني، فيمكن أن نجمع مصادره في أربعة رئيسة: التّأمل، والعقلنة، والأنسنة، والتّجربة.

العدوي: ما رؤيته للحياة؟

العبري: ممكن نجمل رؤيته للحياة من حيث:

أولا: الإيمان فهو لا ينفصل عن هذا الكون، والمرتبط بالعلم أولا، ثمّ الخلق، فهو حالة منسجمة مع الذّات من جهة ومتصالحة معها، ومسالمة للآخر، ومنسجمة مع الكون.

ثانيا: من حيث الاقتضاء “بمعنى ما يحدث يحدثُ بمقدّمات توصله إلى الحدث أو الفعل، هذا الاقتضاء له طريقه ومساره، والإنسان نفسه عامل في هذا الاقتضاء، فالمريض مثلا يؤخذ إلى الطّبيب ثمّ يشفى، فالمرض نتيجة اقتضاء وكذا الشّفاء، وأمّا مشيئة الله فهي مودعة في السّنن الكونيّة، وليست منفصلة عنها، حيث يحدث في حينه بمسبباته عكس القضاء الّذي يفيد أنّه مقضي من سابق”.

ثالثا: الانسجام مع الكون، فيرى أنّ الإنسان لا يفنى؛ لأنّ “التّشكل الإنساني تشكّل زائل، وذرات من الأرض تجمّع بها هذا الجسد، ثمّ عندما يهترئ الجسد، وتعود الذّرات، وتتوزع وتعود إلى مكان آخر، في شجرة أو حيوان أو أيّ شيء، فالذّرات لا تفنى ولا تزيد في الكون”، ويرى أيضا أنّ “الكلّ – أي في الكون – من طلعة واحدة، فنحن فينا ما في النّجوم والبحر والحيوان، فهي ذرات تتجمّع وتتفكك وتعمّ العالم، فهو وجود واحد، كلّ يخضع لنفس السّنن والقوانين، فتكوننا جميعا واحد؛ وإنّما تختلف الأشكال والأحجام، ولمّا تموت هذه الذّرات تنتثر، لكنّها لا تفنى في الكون، وإنّما تتشكل في مخلوقات أخرى كقطة أو كلب أو بقرة أو إنسان آخر وهكذا، ونحن أيضا من غبار النّجوم وفضاءات أخرى”.

رابعا: نظرية الإنسان الكامل، أي أنّ “الإنسانيّة ليست موقعا أو مرحلة أو حالا جامدا، الإنسانيّة في ارتقاء أو في انحدار، فإذا انحدرت تلامس البشريّة الحيوانيّة، وإذا ارتقت تلامس ممّا لا سقف للارتقاء، ولمّا تقول إنّ للإنسان نزعات سلبيّة فنعم، فملكة التّفكير ممكن أن تنحرف بالإنسان إلى إنتاج شيء سلبي، كما نجد في الأسلحة وغيرها، ولكن إذا كان ارتقاء الإنسانيّة إلى الأعلى فتجد أنّها تتوجه إلى توائم أكثر وأكبر وأعرض بالرّوح، والرّوح صفاء كامل، لا تشوبها أيّ شائبة، فالإنسان نعم ممكن أن ينحدر وممكن أن يرتفع”.

العدوي:  هناك من يصف صادق جواد بأنه “مثقف عضوي” بحسب مصطلح أنطونيو جرامشي.. هل تتفق معه في هذا الوصف؟

العبري: نعم، يرى ذلك صادق جواد، حيث يرى أنّ “المثقف هو المواطن الّذي له نصيب كاف من المعرفة ببلده والقضايا المعاصرة بغض النّظر عن تخصّصه، ولديه القدرة على التّمييز بين ما يصلح مجتمعه من الّذي لا يصلحه، فيبقى راصدا لما يصدر من اجتهاد الحكومة، فهو معنيّ بما يحصل في مجتمعه، فيمايَز عن الشّخص الّذي يهتم فقط بما يتعلّق به كالتّاجر المهتم فقط بالتّجارة، فهو كما أنّه يرصد أيضا بالوسائل المتاحة لديه يبدي رأيه، فهو لا يحتكر الحكمة، وهو ليس عدوّا للسّلطة، وإنّما هو راصد، وعليه واجب التّبيين”.

وعمليّا من خلال مقالاته ومشاركاته كان حاضرا.

العدوي: لماذا برز صادق في سنواته العشر الأخيرة، وليس قبلها؟

العبري: ربما كونه عاش في أمريكا لعقدين في الثّمانينيات والتّسعينات جعله حاضرا هناك، فكان يكتب ويحاضر للطّلاب في الجامعات، وشارك في تأسيس مركز الحوار العربي كما أسلفنا، بيد أنّه لم يكن حاضرا في عمان في الصّحف مثلا لأنّه مقل الكتابة في الحقيقة، وحضوره عمليّ أكثر منه كتابيّ، ولهذا لمّا رجع إلى عمان كانت له محاضراته ومشاركاته، ولهذا برز في السّنوات الأخيرة في عمان عمليّا لوجوده هنا.

العدوي:  ما فلسفة صادق في الدين؟ وهل ابتدعها لنفسه أم أنه تأثر فيها بغيره؟

العبري: يرى أنّ “بين الدّين والفلسفة تصاحب عبر التّأريخ، ولمّا تأخذ الدّين من جانب الطّقوس والممارسات فهذا شيء، لكن لمّا تأخذه من خلال جوهره تجد أنّه لا يبتعد إطلاقا عن الفلسفة”، إلا أنّه حين التّعارض يكون الحكم للعلم أو الاجتهاد الإنساني، “فالعلم هو ما يستقر في الذّهن ممّا يطابق الواقع في الطّبيعة، والّذي يستقر في الذّهن ولا يطابق ما في الطّبيعة فليس علما”، حتى ولو ورد في صحف الأديان وأدبياتها.

لينزل فكره إلى الدّين الإسلامي الّذي ينتسب إليه ولادة، فيخلص أنّ “محوريّة القرآن تبقى كما هي، والأحاديث نتخلى عنها قليلا، فكما قال كمال الحيدريّ [معاصر] إنّ خمسة بالمائة يصح من صحاح الشّيعة، وقرأت من سنوات بعيدة لمحمّد جواد مغنية [ت 1979م] أنّ سبع عشر بالمائة جاء صحيحا فقط في أصل الكافي، وأصبحت مدركا ما أودع في هذه المجلّدات الضّخمة هي كتلمود اليهود، فأودعت فيها أمور كثيرة نخرج عنها، فبقي محوريّة القرآن، وهنا تعترضك مسألة مهمّة جدّا، وهي أنّ القرآن الكريم فيه عقائد غيبيّة، وهذه لا شأن لنا فيها، فكما تريد أن تعتقد فاعتقد، وكم من أناس يظهرون شيئا ويستبطنون شيئا آخر، فالتّوحيد والنّبوّة وصلتها بالسّماء والملائكة مثلا فلا يمكن التّغيير فيها، والنّاس أحرار كيفما يتعاملون معها، وأمّا الشّيء الثّاني في القرآن الكريم الأحكام أي الشّريعة، وهناك مبادئ عامّة، فيبقى شغلنا في المبادئ والأحكام، فالمبادئ أيضا تبقى كما هي؛ لأنّه لا ينظر إليها أنّها أتت من السّماء، وإنّما ينظر إليها لأنّه بها تكون صيانة الإنسان، فهي إنسانيّة عامّة، ولها صحة وثبات مستدام، وأمّا الأحكام فهي معلولة بعللها، أي أصبحت ظرفيّة، وهي موصولة بالمبادئ، ففي الإسلام في الميراث للّذكر مثل حظ الأنثيين، حيث كان هذا أمثل صورة للعدالة، لما كلّف به الرّجل من نفقة وغيره، فهذه صورة مثلى أن يجعل النّصيب الأكبر لمن كلّف بالنّفقة وتولي المسؤوليّة، فلمّا اختلف الزّمان والظّرف، وصارت المساواة بينهما، فإذا دخلت المرأة الجامعة لا يُقال لها ادّفعي نصف أجر الرّجل، وكذا إذا اشترت سيارة، فإذا لا توجد مراعاة في هذا فلماذا يكون لها نصيب نصف الرّجل في الميراث؟ فهنا تنظر إلى المسألة من جانب الكلّ لا الأجزاء”.

فهو في الجملة “ضدّ فكرة إصلاح الأديان، لتبقى كما هي، فهي أرث إنساني مهما كانت، عاشت بها شعوب كثيرة، ولكن لمّا تقول كيف أنظّم مجتمعي اليوم؟ هذا شيء آخر، ولكن لا تنال من القديم؛ لأنّه دخل في تهذيب الإنسان بشكل أو بآخر”.

وعليه في الاجتهاد الإنساني حسب رؤية صادق جواد، من حق الشّعوب أن تعتقد وتمارس ما تشاء، ولكن في التّعامل وإدارة الشّأن العام تكون هذه الأحكام خاضعة للأنسنة من جهة، والظّرفيّة من جهة ثانية.

أمّا الأنسنة الّتي يراها صادق جواد ليس بمعنى أنسنة النّص أو أنسنة التّأويل، وإنّما الأنسنة من حيث المرجعيّة.

العدوي:  يبدو لي أن صادق اتخذ من الهوية مرتكزاً للحديث عن رؤيته للحياة.. ما مفهوم الهوية لديه؟ وما مدى ملامسة طرحه لواقعنا الفكري؟

العبري: الماهيّة عند صادق جواد  -ESSENCE- تُعرّف الإنسان من حيث كينونته الوجوديّة، أي تلك الّتي نشأ من رحمها أصلا، وبقي عليها فطرة، مدى ما عاش، أيّا كانت معرفات هوّيته.

أما الهوّيّة – IDENTITY – تُعرّف المرء من حيث انتماءاته الخارجيّة، أي تلك الّتي بعضها ألحقت به من مجتمعه، والبعض الآخر اتخذها هو لنفسه.

الماهيّة مشتركة بين النّاس حكما، وتورد جوابا وجوديّا على التّساؤل: ما أنت، ما هو، وإذا كان التّساؤل مثارا من الذّات: ما أنا. الجواب هنا يأتي بمُعرّف واحد فحسب: أنا إنسان.

الهوّيّة، بمُعرّفاتها المتعددة، تورَد جوابا انتمائيّا إزاء التّساؤل: من أنت، من هو، وإذا كان التّساؤل مثارا من الذّات: من أنا. الجواب هنا يأتي بمُعرّفات متعددة، يُصدّرها كلّ شخص بالمُعرف الّذي يؤثره من بين سائر معرفات هوّيّته.

والمبدأ عند صادق جواد مطلق النّفع من جهة، ومرتبط بالماهيّة من جهة ثانيّة، أمّا الأول فهو “مطلق النّفع ليس له حدّ من مردوده، وأن يكون مستدام الأثر في كلّ زمان ومكان، فهو لا يتغير لأنّه يصون الإنسان”، ويتمثل في أربعة مبادئ: العدل، والكرامة الإنسانيّة، والمساواة، والشّورى، واعتبر المبادئ تتمحور في هذه الأربعة لأنّها “أساسيّة جامعة، وذات قابلية الانطباق على عموم المجتمع البشري، فليس هناك فرق في المبادئ بين النّاس، ومدركة عند عموم النّاس عقلا أنّها ضروريّة للمجتمعات الإنسانيّة، وغير محدّدة المردود؛ لأنّ بعض الأفكار  محدّدة المردود إذا تجاوز فيها حدّ أنقلب ضدّه”.

وتحت المبادئ تأتي القيم، “وهي تضفي شيئا على الإنسان باكتسابه، كالعلم مثلا لمن يطلبه، والتّعاون مع النّاس لمن يروّض نفسه بذلك، والصّدق من أعالي القيم، فالقيم تتفاوت بين النّاس نسبيّا، ولكنّها تسمّى قيمة لأنّها تضيف شيئا في الإنسان”.

ثمّ تأتي الأخلاق، والخلق عنده “حالة داخليّة ذاتيّة لا علاقة لها بالمعشر الخارجي، فقد تجد إنسانا حادّا لكن قلبه نظيفا، فبنيته الدّاخليّة نظيفة، ولمّا نقرأ في القرآن: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم/ 4] ليس بمعنى المعشر، وإنما الذّات في الدّاخل طاهرة نظيفة”، فالأخلاق هي “المسلك الدّاخلي الّذي ينضح بإنسانيّة الإنسان في كلّ مناهجه”.

ويحبّذ صادق جواد في التّعامل الإنساني التّعبير بالاستقامة بدل الخلق، لسبب سوء استخدام هذا المصطلح ومطاطيته، ولكنّه يرى الاستقامة “لا تعني البحث عن فلان وعلان ماذا فعلوا وقالوا، وإنّما أوجد في ذاتك إلزاما لنفسك بعد صيانة البدن، وتوسيع المعرفة وفهم الوجود، على أن تكون ملتزما بها”.

ومن خلال هذه التّراتبيّة يرى أنّ “العادات والتّقاليد لم ترد في الأثر الإسلامي بذكر حميد، ونجد هذا في القرآن الكريم: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزّخرف/ 23]، والّذي جاء في أدبياتنا الإسلاميّة العرف، والعرف ما تعارف النّاس على صلاحه، فبعض ما نسميه عادات وتقاليد يلامس هذا العرف، وفي القرآن للعرف مكانة في تنظيم المجتمعات، وفي الحفاظ على وئامها واستقرارها في الدّاخل، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف/ 199]، وهذا للنّدب”، ويرى الحاكميّة في ذلك للمبادى.

يربط صادق جواد بين الماهيّة والإنسانيّة من جهة، وبين الماهيّة والمبادئ من جهة ثانية، وبذلك “ينتظم بها شأن المجتمع الإنساني جميعا في دائرة الصّلاح والنّماء والتّطور نحو الأحسن، بغض النّظر عن الفوارق التّعدديّة بين الشّعوب من تنوع ثقافي وديني ومذهبي وعرقي”، “فالمبدأ مساحته غير محدودة، فالمبادئ يصلح بها حال أيّما مجتمع، وفي غيابها يتدنى ويفسد، وهذه المبادئ لا تلزم أحدا بأيّ عقائد غيبيّة، ولا شعائر وطقوس عمليّة، فهي مبادئ يحتكم إليها في تنظيم المجتمع”.

منظومة الحقوق والمواطنة، فهو يرى أنّ “للحقوق منظومتان: منظومة حقوق الإنسان، ومنظومة حقوق المواطنة، وبالنّسبة للأولى ليست لأيّ دولة معينة، فهي عالميّة لها مواثيقها وأدبياتها، ولا يصح لأيّ دولة التّدخل فيها، وإنّما عليها الموائمة من خلال المرجعيّة العالميّة، وأمّا حقوق المواطنة فيدخل في هذه الدّولة، ولهذا نجد حقوق المواطنة تختلف من دولة إلى دولة، عكس حقوق الإنسان، والمعادلة كلّما كانت حقوق المواطنة وافية من حيث تلائمها مع حقوق الإنسان كلّما كانت أقرب إلى الإنسان وحقوقه وكرامته، فعلى الدّول أن تنظّم حقوق المواطنة في تلائم مع حقوق الإنسان؛ لأنّ حقوق الإنسان أكثر سعة”.

السابق
لقاء بدر العبريّ مع موقع كيوبوست الالكتروني في دولة الإمارات العربيّة المتحدة
التالي
قراءة وصفيّة في فكر صادق جواد سليمان “قراءة من الدّاخل”
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً