طلب مني بعض الأخوة – جزاهم الله خيرا – كتابة تحليل للتّغريدة، وإن كنتُ قد كتبت أكثر من مقالة حول موضوع الأهلة، فلا داعي لتكرار ذلك، ونشر خلاصة ذلك في كتابي: أيام رمضان، طبع مكتبة مسقط 2019م، كما أنّه ينبغي أن نتجاوز مسألة اللّغط حول هلال رمضان والعيد وذي الحجة، وخلق صراع وهمي لا قيمة له، وكأنّ عُمان لمّا تعلن تريد معارضة السّعوديّة، والسّعوديّة لمّا تعلن تريد التّبعيّة لها، فللسّعوديّة وعُمان علماء أجلاء، لهم رؤيتهم الفقهيّة، ولهم شروطهم في إثبات الأهلة القمريّة، فطبيعيّ أن يحدث الخلاف، وهم يرون أنّهم يتعبدون الله ويتقربون إليه بهذا، وقديما قيل السّلطان (أي الحاكم أو من ينوب عنه) ينزع الخلاف في هذا، فإذا رأوا أنّ العيد يوم كذا، أو دخول الشّهر يوم كذا، فيجب الاتباع، حفظا للرّأي العام وسياج الجماعة، فإن كنت في دولة تقدّم هلالها عن هلالك أو تأخر؛ فهنا تعتدّ بتلك الدّولة لا بدولتك، وإذا كنتَ في دولتك فتعتدّ بدولتك لا بدولة غيرك؛ لأنّ الصّيام يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحيّة يوم تضحون.
والعجب أن يُدخل الخلاف المذهبيّ في هذا، والخلاف في هذا فقهيّ بحت، لا علاقة له بالمذهب، فهناك دول سنيّة كالمغرب والهند وباكستان لها رؤية مثل الرّؤية عندنا، بل هذا قول جمهور المجمع الفقهيّ، وعليه مع اتفاقهم في استخدام الحساب إنكارا لا إثباتا كقرينة مفرزة لصحة الرّؤية؛ إلا أنّ الأغلب من الدّول الإسلاميّة ارتأت اتباع تقويم أم القرى خصوصا في شهر ذي الحجة، والبعض رأى لكلّ قوم هلالهم، وهذا مبحث آخر لا يهمنا، الّذي يهمنا أنّ هذا رأي فقهي بحت قد يتعدد في المذهب الواحد، ولا علاقة له بالمذاهب، فلا داعي لإدخال الطّائفيّة هنا.
وإذا كان الرّأي لأصحاب القرار، ووجوب اتباعهم، وعدم جواز إثارة الفرقة لرأي فقهي واسع، فإذا وسع الأمر في شهر الصّيام، وهو فرض مجمع عليه، أفلا يسع في أيام الحج، وأغلب ما يمارس فيه سنن لا فرائض؛ وهذا هو الخط الأفقيّ والعمليّ العام، وأمّا الخط الرّأسيّ فهو واسع، بل من الصّحة أن توجد رؤى ودراسات ناقدة للرّأي العمليّ، إذا انتقلنا من العشوائيّة والضّبابيّة وسرعة الحكم على الآخر والتّهكم به!!
وما غرّد به فضيلة الشّيخ السّابعيّ لم يخرج عن طرح رؤية قد تكون جديدة، وقد يكون لها أصل في الأثر، وعليه رأيه يحترم ويناقش علميّا ومنهجيّا، فهو قد طَرَحَ قضيّة علميّة كرأي لا كفتوى أو معارضة أو حبّا للشّهرة، أو من باب خالف تعرف!!
والشّيخ السّابعيّ عالم فقيه، لا أتصور بحال يطرح رؤية كهذه إلا بعد أن خمرها في رأسه، وعرف أصولها وتبعات فروعها، فهو اجتهاد معتبر، كان عن قياس لأثر أو اجتهاد سابق يعلمه أو عن استحسان أو مصلحة، أو نحو ذلك من الأدلّة الإجماليّة، حيث يقول في تغريدته: “الّذي يظهر لي أنّ صوم يوم عرفة إنّما يكون في يوم وقوف النّاس بعرفة، ولا علاقة له باختلاف التّأريخ في البلدان، فإنّ اليوم الّذي لا يقف فيه الحجاج في عرفة لا يسمى يوم عرفة، وإن وافق التّاسع من ذي الحجة في بلد آخر”.
ولكي نكون منصفين؛ نبعد اسم السّابعيّ بعيدا، ولنقرأ السّياق بعيدا عن القائل وشخصيتة، لنعيش مع النّص ذاته، حيث النّص يرى أنّ وقوف يوم عرفة ماهية مستقلة لا علاقة لها بالأيام التّسع في التّحديد، فاليوم مرتبط بوقفة عرفة عند الحجاج، صادف اليوم التّاسع أو الثّامن أو السّابع عند آخرين، فيكون ندبية الصّيام مع توافق هذه الوقفة لا اليوم، إلا إذا صادف عيدا عند آخرين، فيقدّم التّحريم على الاستحباب؛ لأنّ درجة التّحريم تكليفا مقدّمة على الاستحباب، ومانعة له، كأن صادف العيد يوم الاثنين مثلا، فيحرم صيام الاثنين مع أنّه مستحب صيامه حسب النّسق الرّوائيّ!!
وهذا الرّأي في جوهره يخلّص من الصّراع في العقل الجمعيّ، والّذي يتكرر سنويا، وله بعد مصلحي عميق؛ لأنّ النّاس يرون إخوانهم يقفون في مشعر عرفة، ويبث ذلك بشكل مباشر، فلا تتعلق نفوسهم إلا بهذا اليوم، خاصّة عندنا نحن أهل عمان، وليس بيننا وبينهم إلا ساعة واحدة من حيث الفرق الزّمنيّ، فيشاركونهم الصّيام والذّكر والدّعاء، والتّوبة والإقبال إلى الله تعالى، فهو من هذه النّاحية رأي وجيه جدّا.
ولبيان الجانب البرهانيّ في التّغريدة، نقرأها من خلال ثلاث سياقات برهانيّة: البرهان المنطقيّ، والبرهان العلميّ، والبرهان الاستدلاليّ.
أمّا البرهان المنطقيّ فالتّغريدة واضحة جدّا، وهي مبرهنة منطقيّا لطبيعة الزّمن لكونه مطلقا ثابتا من جهة، وفي الوقت نفسه متغير من حيث التّراكميّة والتّطور، فمثلا في الحج نفسه يقول تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران/ 97]، حيث نجد من الاستطاعة اليوم الحصول على تصريح، مع أنّ هذا الشّرط غير وارد قبل مائة سنة مثلا، ولا يوجد نص واضح فيه، إلا أنّه معتبر، ويسقط بدونه الحج، وذلك لأنّ الزّمن مع كونه ثابتا مطلقا، إلا أن الكشف البشريّ في اختراع آلات جديدة جعل الوصول إلى مكة سهلاـ؛ وبالتّالي المكان الضّيق لن يستوعب الملايين، وبه سوف يحدث من المهالك، فاخترع هذا الشّرط لأنّ الزمن تغير وتراكم في كشفه.
والأمر سيان لعرفة، فقبل مائة سنة مثلا يتصور من كان عنده التّاسع أنّ إخوانه من الحجاج واقفين في هذا اليوم حيث يشاركهم الذّكر، وفي الحقيقية قد يكونون تقدّموه يوما أو يومين، أو تأخروا عنه يوما أو يومين، كمثل من يبدأ صيامه في رمضان، يتصور أنّ العالم بدأ صيامهم مع صيامه، فهذا طبيعيّ، أمّا اليوم تغير الزّمن من حيث الكشف، فبثُّ إفاضة الحجاج من صعيد منى إلى عرفة، وبثّ خطبة عرفة من مسجد نمرة، ومشاهدة وقفة النّاس في عرفة إلى الغروب، ثمّ إفاضتهم إلى مزدلفة، بشكل مباشر؛ لا يمكن بحال أن يتصور العقل الجمعيّ أنّ عرفة غير هذا اليوم، ولو كنّا في السّابع أو الثّامن حسب رؤيتنا، فهذا جانب منطقيّ وطبيعيّ جدّا.
وعلى هذا تدرك الخطأ الاستدلاليّ في القياس كما سمعته من بعض المقاطع وقرأته من بعض الرّدود والتّغريدات، لمّا يقيس البعض الحاضر على الماضي، فيقول: إذا كيف كان حالهم في الماضي لمّا لا يدركون ذلك، وهو استدلال ضعيف جدّا؛ لأنّه لا قياس بين المرحلتين لطبيعة الزّمن كما أسلفنا، ولأنّ القياس يكون على أصل أقوى، والمتأخر أقوى من حيث التّطور والكشف، فكيف يقاس ّالقويّ على الضّعيف، وأيّ علّة متعدية هنا؟!!! فهذه عمان مرت بها مراحل والنّاس يعيدون في أكثر من يوم، وهذا طبيعيّ لعدم وجود الآلة الإعلاميّة المعلنة بذلك، فلمّا ظهرت الإذاعة مثلا طورت الأمر إلى رأي واحد، فصار النّاس يعيدون في يوم واحد، فإذا أعلن في مسقط علم به من في الجنوب في نفس الثّانية، فلا يصح القياس هنا، ولأنّ الفارق واسع فسقط به الاستدلال رأسا.
وأما البرهان العلميّ هل الحكم الاستحبابيّ ليوم عرفة لغير الحاج مرتبط بماهيّة المكان أم الزّمان، أم كلاهما معا، وقبل هذا في صيام عرفة قولان شهيران مع وجود أقوال أخرى: الأول مستحب وهو قول الجمهور لرواية: “صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السّنة الّتي قبله والسّنة الّتي بعده”، والرّأي الثّاني: بدعة، والرّواية مضطربة وضعيفة، ولمخالفة العمل عند بعض الصّحابة وهم أعلم بسنة رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -؟!!
ولنسلّم بأنّه مستحب، فهل تعلق الاستحباب لذات المكان، أي ما يدرك من وقفة الحجاج، فيشاركهم غير الحاج بالصّيام، فإذا قلنا بهذا؛ كانت التّغريدة متوافقة أيضا؛ لأنّ الإعلام أصبح كاشفا.
وإذا قلنا المتعلق هو الزّمان؛ أي التّاسع، أو تاسوعاء، فخصص بيوم عرفة من باب التّغليب أو الحال، وهذا وارد حتى في أسماء الأشهر، كرمضان مع أنّه يصادف الشّتاء مثلا، سمي بذلك للحال الابتدائيّ في الإطلاق، فإذا قلنا بالبعد الزّمانيّ – وهو الظّاهر – فالتّغريدة بعيدة جدّا علميّا، وعليه الحكم الاستحبابيّ متعلّق بالتّاسع حسب توقيت أيّ أمّة، صادف وقفة عرفة مكانا أم لم يصادف!!
والمسألة عموما لا تحتاج إلى هذا الخلاف الكبير؛ لأنّ الله يدرك تعلق العبد له، وتعبده له حسب الإدراك الاستطاعيّ، والاطمئنان الذّاتيّ، لا حسب اليقين العلميّ، وإن كنا نسعى لذلك، إلا أنّ سعة الخلاف لا تخرج عن رحمة الله وفضله؛ فكيف بنوافل غير متفق حولها رأسا!!!
وأمّا المنهج الاستدلاليّ فهي اجتهاد – حسب علميّ – لا يوجد له أصل نصيّ، ولا قياس ذو علّة متعدية، وإنّما من باب الاستحسان وتطور الحال، وتوحيد الكلمة في وقت يتشدد النّاس في قضايا فرعيّة جدّا، ومختلف حولها.
وأمّا رواية كريب فهي رواية ظرفيّة ونسبيّة، وليست رواية مطلقة، تعمّ كلّ عصر، كرواية صوموا لرؤيته.
وبطبيعة الحال الزّمن سيتجاوز هذا الاختلاف، وهو سائر في هذا الطّريق، خاصّة والجزيرة العربيّة لا تشكل خلافا علميّا في الرّؤية لقربها، ولكن وجود نقاشات علميّة، وبحوث ناقدة، وليس كاللّغط الّذي نراه اليوم، هذا النّقاش العلميّ سيقرب الرّؤية يوما ما، ليقترب إلى العلم إثباتا بعدما تقرب إليه إنكارا، مع احترام الآراء الفقهيّة العمليّة، وعدم تحميلها ما لا تحتمل، وتأويلها وفق خلافات وصراعات ايدلوجية أو سياسيّة تضر أكثر ممّا تنفع، وتشتت أكثر ممّا توحد، وتهدم أكثر ممّا تبنيّ!!
هذا ما يمكن إجماله في هذا، والله خير مقصود.
فيسبوك 1439هـ/ 2019م