المقالات النقدية

إنسانيّة القضيّة الفلسطينيّة وإشكاليّة الخطاب

صحيفة شؤون عمانيّة 1442هـ/ 2021م

نشرتُ بالأمس (بوستر) حول إنسانيّة القضيّة الفلسطينيّة، وهو مقتطف من مقال لي بعنوان: القضيّة الفلسطينيّة: قراءة في البعدين الإنساني والمصطلحي، نشر صحيفة شؤون عمانيّة 2020م، ومن حق البعض أن يعترض وينقد ويرفض بالكليّة، ولا أنازعه في ذلك، وليس الوقت وقت خصام ونزاع في فترة أولى بالتّوجه إلى القضيّة فيما تعانيه من ظلم وابتلاء بغض النّظر عن اختلاف الرّؤية والنّظرة، إلا أنّ الغاية واحدة.

وما أردت قوله هنا للتّوضيح لا أكثر؛ هناك فرق بين الخطاب وبين الإنسانويّة المفرطة بالكليّة؛ لأنّ الخطاب ينطلق هنا من منطلقين في نظري: من حيث النّزعة الإنسانيّة الأولى (الماهيّة)، ومن حيث الفروقات (الهوّيّة).

ولنأت ابتداء إلى الهوّية، فهنا ثلاث هوّيات شائعة (الهوّيّة الفلسطينيّة، والهوّيّة العربيّة القوميّة، والهوّيّة الإسلاميّة)، ففي البيت الفلسطيني من حقّهم أن يكون تلاحمهم وفق هوّيتهم الفلسطينيّة، وما يترتب على ذلك من وحدة لهذا البيت، وقوّة، وصلاح له.

كما أنّ اليساريين كان لهم جهدهم في النّضال حول هذه القضيّة ردحا من الزّمن تحت مظلّة القوميّة العربيّة، ولا زال العديد من رموز مناضليهم أحياء، ولهم مؤتمرهم السّنويّ في لبنان.

ولمّا قامت الصّحوة الإسلاميّة بدأت النّزعة الإسلاميّة أو أسلمة القضيّة بشكل أكبر، خصوصا استخدم من قبل إيران، ووضع لها يوم القدس العالمي في  جمعة آخر أسبوع من رمضان، وكما اشتهر عند الإخوان والصّحويين من السّلفيّة، وإن كانت البذور قبل ذلك، ولعل عدم ظهورها بشكل أكبر لأنّ التّحرر من الاستعمار للبلدان الأخرى كان في بداياته.

فهذه جميعها لا تخرج عن دائرة الخطاب، فالهوّيات الثّلاث لا تلغي الآخر، ولكن باعتبار الظّرف الخطابي من جهة، وباعتبار المخاطب من جهة أخرى.

وكذا الحال ما يتعلق بالخطاب الإنساني لا يلغي هذه الهوّيات، ولكن يتمدد بشكل أكبر من القطر فالقوميّة والدّين إلى الإنسان؛ لأننا اليوم نعيش في عالم مفتوح على بعضه، وأصبحنا نعيش في قرية واحدة، فكما أنّ خطاب الهوّيات لها أهميته، لكنّه خطاب ضيق، عكس الخطاب الإنسانيّ الّذي يخاطب العالم كإنسان، بأنّ هناك فئة مستضعفة، يمارس حولها القمع والبطش والتّشريد والطّغيان، فتحرير الإنسان وتحريره من الظّلم واجب إنسانيّ لا يتعارض مع الأديان ولا الفلسفات، فجميعها جاءت لهذه الغاية، وفي القرآن مثلا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج/ 39 – 40].

الإشكالية الكبرى في نظري ليست في الهوّيات الثّلاث، ولا في النّزعة الإنسانيّة؛ الإشكاليّة في الاستغلال السّياسي من جهة، والجانب المذهبي التّبشيري من جهة ثانيّة، فتستغل هذه الهوّيات لا لذاتها؛ ولكن لمصالح سياسيّة ومذهبيّة، فلمّا كانت القوميّة قائمة كانت القضيّة أشبه بالنّزعة العربيّة الخالصة، أمّا اليوم انحرفت عن مسارها، لهذا ضعفت.

والإشكاليّة أيضا من جهة أخرى أن تستغل النّزعة الإنسانيّة كدعاية لتحقيق مآرب سياسيّة، وبالتّالي القضاء على حركات الشّعوب، وقوى النّضال بدعوى الماضويّة والإرهاب والرّجعيّة، فينسب إليها العنف بالكليّة، وهنا ندخل في الإنسانويّة المؤدلجة والمسيسة، بعيدا عن الأنسنة بمعنى النّزعة الإنسانيّة.

لهذا في نظري لابدّ من استقلال الرّأي العام، بحيث يكون بعيدا عن النّزعات السّياسية الّتي لها مآرب ضيقة، وعن الأغراض المذهبيّة التّبشيريّة، وإن تخاطب العالم بذكاء بدل العاطفة؛ لأنّ العاطفة اليوم لا تجدي، فعشرات العواطف مررنا بها، والقضيّة تتراجع من ضعف إلى ما هو أضعف، فأنسنة القضيّة لا يعني إلغاء الهوّيّات، لكن لا يمكن أن تخاطب العالم الواسع والمتعدد بأديانه وهوّيّاته من خلال هوّيّتك؛ بل من خلال السّلاح الّذي اجتمعت عليه دول العالم وهو حقوق الإنسان.

لقد نجح الكيان الصّهيوني كان علمانيّا أم مسيحيّا أم يهوديّا أم حتى لا دينيّ في استثمار النّزعة الإنسانيّة لصالحه، واستثمر الأدبيات الدّينيّة في كون هذه الأرض حقّا لليهود منذ القدم، فهي الأرض المقدّسة الّتي أمر (الرّب) موسى بدخولها، ودخلها يوشع بن نون بعد مرحلة التّيه، ثمّ قامت مملكتهم في عهد صموئيل بعد مرحلة القضاة وقيام مملكة إسرائيل، ثمّ رجوعهم بعد السّبي البابلي على يد كورش الفارسي، ثمّ كان أعظم اضطهاد لهم في التّأريخ في الدّول المسيحيّة بعد تولي الإمبراطور قسطنطين زمام الأمور في إيطاليا          ودخوله المسيحيّة، وحتى رجوعهم من جديد بعد وعد بلفور وحتى إعلان دولة إسرائيل (النّكبة) 1948م، فاستثمر النّص الدّيني لبلورة النّزعة الإنسانيّة.

كما استطاعوا خلق جماعات مسيحيّة متعصبة كالسّبتيين (الأدفنتست) ومنهم انبثق شهود يهوه، وهؤلاء كغيرهم من متعصبي البروتستانت يؤيدون قيام دولة لليهود لتعجيل عصر الملكوت ومجيء المسيح، وهذا ما يتعارض مع أغلب اللّاهوتين اليهود سواء من القرائين أو الحاخاميين وغيرهم، الّذي يرون ذلك يتعارض مع الشّريعة اليهوديّة الّتي ترى أنّ قيام الدّولة بعد نزول المسيح، إلا أنّ فكرة الدّولة الدّينيّة كما يرى الحاخام رابي دايفيد جريبر غير حاضرة رأسا، وفكرة عودة المسيح لم تعد بتلك الصّورة، وهو ما يراه الكاتب اليهودي يعقوب ملكين في كتابه علمنة اليهوديّة، حيث أصبحت الدّولة علمانيّة تستخدم الدّين كغطاء وثقافة لها، وأرى شخصيّا هذه العلمانيّة مستثمرة غربيّا لأغراض دينيّة مسيحيّة بروتستانتية، وأحسنوا توظيف الدّين والتّأريخ تحت الغطاء الإنساني.

لهذا من الذّكاء مواجهة هذا الغطاء بذات الغطاء؛ خصوصا أنّ الهوّيّة الإسلاميّة لا تتعارض مع حق اليهود في ممارسة طقوسهم كما يقول المؤرخ اليهودي أوري أفنيري: “كلّ يهودي مستقيم، يعرف تاريخ شعبه، لا يمكنه إلا أن يشعر بالعرفان تجاه الإسلام، الّذي حمى اليهود طيلة خمسين جيلا، في الوقت الّذي كان العالم المسيحي فيه يلاحقهم وحاول في العديد من المرات إجبارهم على تغيير دينهم “بالسيف””، ولكن يتعارض مع الظّلم الّذي لحق بأمّة من النّاس لدعاوى لاهوتيّة وتأريخيّة.

وإذا كان الكاتب اليهودي يعقوب ملكين يرى أنّ الأرثوذكسية داخل المجتمع اليهودي “أصبحت أقليّة، وأقرب إلى الثّقافة، وإنّ القراءة التّاريخانيّة والأنسنة والعلمويّة هي السّائدة عند عموم اليهود”، كما أنّ القراءة ذاتها سائدة في العالم، فلا يمكن الجمع بين ذلك وبين الإقرار باغتصاب هذه الأرض لإرضاء فئة مسيحيّة متعصبة أو حتى يهوديّة، لهذا يجب أنسنة القضيّة، ولا يكون ذلك إلا لأصحاب الحق.

وفي القرآن ذاته: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة/ 21]، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة/ 47]، فهذه آيات ظرفيّة وليست مطلقة، فكتب أي فرض لكم حينها، والتّفضيل تكليفي ظرفيّ وليس جانبا تكوينيّا مطلقا.

لهذا بما أنّ العالم يتجه إلى الاجتهاد الإنساني، وإقرار النّزعة الإنسانيّة، وقراءة الأديان قراءة ظرفيّة ابتداء، فلا أقل أن تبرز القضيّة الفلسطينيّة إنسانيّا، ورجوع الحق إلى أهله، وإذا كان العالم يعاني من اجترار التّأريخ ضمن جماعات لاهوتيّة متعصبة، تخرج من حيزها التّعبدي الضّيق إلى التّأثير السّلبي في العالم؛ فلماذا يبرأ فئة من الصّهاينة استخدموا الدّين والتّأريخ في اغتصاب أرض وتشريد أهلها وقمعهم ومنعهم عن ممارسة طقوسهم؟!!!

ما قلته سلفا لا يتعارض مع حق أيّ أحد أن ينطلق من هوّياته القوّميّة أو الدّينيّة ما دامت الغاية حميدة، وهي رفع الظّلم وإحقاق العدل، وهذا ما ترمي إليه النّزعة الإنسانيّة، إلا أنّها تنطلق من الماهيّة قبل الهوّيّة، ومن الخطاب الأوسع قبل الخطاب الضّيق، وليس من الذّكاء محاربة أيّ وسيلة تدعو إلى ذلك حتى يحقّ الحقّ ويرجع إلى أهله، وما ذلك ببعيد!!!

السابق
الإصلاح بين ثورة (الحقوق) وثورة (الجياع) وفق سنّة الاقتضاء
التالي
قراءة في فكر صادق جواد
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً