أطّلعت على مقالة للأستاذة العزيزة باسمة القصّاب بعنوان “وهم التّنوير”، نشرت في موقع “أثر الفراشة” بتأريخ 21 يوليو 2025م، بيد أنّي لم أفقه علاقة كلامها عن التّنوير وبين ما تقوم به إسرائيل من قتل وبطش في فلسطين، وقبل ذلك ما علاقة التّنوير بما حدث عقب أحداث 2011م، وهل فعلا إسرائيل تقدّم نفسها أنّها [النّموذج التّنويريّ الدّيمقراطيّ المتحضر، حامية السّلام، وخصومها بربريّون، ظلاميّون، إرهابيّون] كما تقول الكاتبة، وإن قدّمت إسرائيل بذلك هل يعني هذا خلل في التّنوير، أم في استغلال إسرائيل لقضيّة التّنوير في تبرير فعلها، كما يقول أحمد مطر:
“هذا يذبح بالتّوراة.. وهذا يذبح بالإنجيل …. وذاك يذبح بالقرآن
لا ذنب بكلّ الأديان
الذّنب بطبع الإنسان”
فالّذي يقتل مستبيحا ذلك ومستخدما نصوصا من الكتب المقدّسة هل يعني أنّ أديان تلك الكتب تدعو إلى ذلك أم يتمّ توظيف نصوصها لهذا الغرض، بمعنى ما تقوم به الجماعات المتطرّفة من إرهاب وقتل باسم الإسلام هل الإسلام يدعو إلى ذلك، أم يتمّ توظيف بعض نصوصه لهذه الغايات المتطرّفة، أو توظيف تراثه والجانب التّأريخيّ منه في مساقات مختلفة.
والمتأمل في المحرّك الإسرائيليّ اليوم لا علاقة للتّنوير به، وهذا بشهادة الكتّاب الإسرائيليين أنفسهم، من ذلك شهادة إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسي أنّ “الأصوليّة اليهوديّة ليست قادرة على التّأثير فقط في السّياسات الإسرائيليّة التّقليديّة؛ ولكنها قادرة أيضا على التّأثير على السّياسات الإسرائيليّة النّوويّة، ونفس العواقب الأصوليّة الّتي يخشاها الكثير من الأشخاص في بلدان أخرى يمكن أن تحدث في إسرائيل”، وأنّ المفردات الدّينيّة التّلموديّة “قد استخدمت وما زالت تستخدم في السّياسة الإسرائيليّة، ويستشهد بها غالبا في الصّحافة الإسرائيليّة النّاطقة بالعبريّة”، مع أنّ تيودور هرتزل (:ت: 1904م) في كتابه “الدّولة اليهوديّة” في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر الميلاديّ كانت فكرته علمانيّة وليست دينيّة، ويضع هذا السّؤال: “هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطيّة؟”، فيجيب: “لا بالتّأكيد، إنّ العقيدة تجمعنا، والمعرفة تمنحنا الحريّة، ولذلك سنمنع أيّ اتّجاهات ثيوقراطيّة تتصدر قيادتنا من جانب الكهنوت، سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد”، لكن الكلّ مجمع على أنّه فشل، وأنّ المتحكّم في إسرائيل اليوم هو اليمين المتطرّف، وهذا لا علاقة له بالتّنوير؟!!
ثمّ ما المقصود بالتّنوير، وهلا فعلا التّنوير يؤدّي إلى تشجيع القتل، أو السّكوت عنه، ومن المعلوم أنّ التّنوير ليس نظريّة مغلقة ممكن محاكمته بصورة حرفيّة، ولكنّه حالة عامّة لنقد الواقع، وهذا لا يعني التّحرّر الكامل من الأيدولوجيّات المسبقة، والّتي تؤدّي إلى التّحجّر وعدم الاقتراب من قيم الإنسان وتحقيق كرامته في الأرض، وحسن عمارته فيها، وكما يقول كانت (ت: 1804م) في رسالته “ما التّنوير”: “إذا سُئلنا الآن هل نعيش حاليّا في عصر التّنوير؟ إليكم الجواب: كلّا، ولكن نعيش في زمن يسير نحو التّنوير، قد يستغرق التّنوير في حال الأشياء الحاضرة طويلا”، وفي الوقت نفسه قد تستخدم هذه المصطلحات سلبيّا في الإسقاط، كأي مصطلحات معرفيّة أخرى، والكاتب يتحرّر من التّعلّق بالمصطلحات الكبرى بقدر ما يحفر مصاديقها الجزئيّة والإسقاطات السّلبيّة؛ إذا كان المصطلح ذاته من حيث الابتداء لا يؤدّي إلى هذه النّتائج، وإنّما قد يستخدم لتبرير ذلك، ففولتير (ت: 1778م) يقرّر أنّه “يجب أن نعدّ كلّ البشر إخوة لنا، ماذا؟ التّركي أخي، الصّيني أخي، واليهوديّ، والسّياميّ كذلك، أجل بالطّبع، ألسنا جميعا أبناء أب واحد، ومن صنع خالق واحد؟”، ويرى دیدرو (ت: 1713م): “أسمح للجميع بالتّفكير كما يشاؤون طالما يسمح لي أن أفكر كما أشاء”، وما قاله الاثنان موجود في الأديان ومع هذا يقول جوكورت (ت: 1779م) أنّ “المتعصبين والطّغاة … يعاملون الآخرين كالحيوانات، لا لسبب سوى لأنّهم يتبنون آراء مختلفة عن آرائهم؛ قد نسوا حقيقة أنّهم بشر مثلهم، فليس الدّين سوى ذريعة لمثل هذا النّوع من الطّغيان الّذي ينتج عنه عدم التّسامح مع أيّ فكر لا يتوافق مع فكرنا”.
هناك تعميم واضح من الكاتبة في مقالها وفق أحكام سلبيّة مسبقة، مثلا: [لم تعد المفاهيم الغربيّة تكذب فحسب، بل تحوّلت إلى أدوات قتل مغطّاة بالفكر. لم تعد تنتمي حتّى للنّظريّة، بل اندمجت في آلة القمع. صارت صامتة، باردة، دقيقة، مبرمجة. لم تعد تعبأ بادعاء التّسامح أو الحريّة أو كرامة الإنسان. سقطت، وسقط معها الوجه الأخلاقيّ لما يُسمّى “العالم الحر”. صار ظلامًا خالصًا، بلا ومضة نور]، بينما في العالم الغربيّ ذاته من وقف ضدّ نازيّة إسرائيل، حيث نرى مقالات واحتجاجات لم تعهد سابقا، وفي صحف غربيّة، ومن غير العرب والمسلمين، ومن غير التّيارات الدّينيّة، فنتنياهو ذاته مثلا في خطابه أمام الكونجرس الأمريكيّ 2024م قال هناك تزايد (ويقصد خصوصا العالم الغربي والأمريكيّ) “إلى نزع شرعيّة إسرائيل، وشيطنة الدّولة اليهوديّة واليهود مهما كانوا، ولا مفاجأة فيما نشهده من تصاعد مفزع لمعاداة السّاميّة في الولايات المتحدة وحول العالم”، وما نراه من تظاهرات في هذه الدّول أكثر بكثير من دولنا الإسلاميّة والعربيّة.
ومن ذلك قولها: [وإذا كانت مهمّة التّنوير هي إضاءة المناطق المسكوت عنها، فقد صارت إسرائيل هي المسكوت عنه، لا لأنّ جرائمها مجهولة، بل لأنّك أمام منظومة تملك سلطة الكلام، وتحدّد ما يُقال وما يُمنع، وما يُسمّى وما يُحرّف]، وما أدري مصاديق ذلك، هل تقصد به سياسات العالم ومنها دولنا العربيّة، وهلا فعلا هذه السّياسات تتبنى منهج التّنوير، أم تتبنى منهج المصلحة والنّفعيّة، أم تقصد به الأقلام الكاتبة والمثقفة، وهل فعلا هي ساكتة أو داعمة، فهذا سينطبق في الأقلام والمنابر الدّينيّة، حتّى الإسلاميّة منها، فهناك الأقلام الجاميّة المبرّرة، وهناك الأقلام السّاكتة، فهل هناك خلل في الدّين أيضا، كما يوجد خلل في التّنوير، فإذا سلّمنا أنّ إسرائيل تستخدم التّنوير في حربها، هي قطعا تستخدم الدّين والمفردات الدّينيّة؟!
ذكرت الكاتبة نماذج لغربيين ممّن لحقهم المحاكمة والإقصاء لنقدهم إسرائيل، وذكرت السّياسة الغربيّة واستخدام الفيتو لدعم السّياسة الإسرائيليّة، ولكن لا زلت متسائلا: هل التّنوير من قاد هذه السّياسات إلى هذا، وهل فعلا هي تنطلق من التّنوير، أو تستخدمه كأداة خطابيّة كما يستخدم اليوم الإرهاب مثلا، نأتي إلى البرت أينشتاين (ت: 1955م) في كلمته المبكرة عام 1934م في نقده عصبة الأمم وقبل تأسيس دولة إسرائيل: “لقد وعدنا الشّعوب بالتّحرر من الخوف، ولكن الخوف قد زاد في الواقع … لقد وعدنا الشّعوب بالتّحرر من العوز، لكن أجزاء كبرى من العالم تواجه الفاقة والمجاعة، بينما تعيش البقيّة في رغد ووفرة، ولقد وعدنا الشّعوب بالتّحرير والعدل، ولكننا شهدنا ولا زلنا نشهد حتّى الآن المنظر الحزين لجيوش التّحرير وهي تصرع الجماهير برصاصها، إذ هي تطالب باستقلالها وحقوقها الاجتماعيّة في المساواة، وتساند تلك الجيوش بقوّة السّلاح الأحزاب والزّعماء الّذين يخدمون أغراضها الاستغلاليّة”، وهذا ما نادت به الباحثة سويدا معاني يوبنغ في إحدى المؤتمرات في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكيّة أنّه “لابدّ من حلّ أزمة الفيتو الّتي جعلت لخمس دول فقط من أصل مائة وثلاثة وتسعين دولة، حيث يملك أعضاؤها سلطة غير عادلة فيما يتعلّق بالدّول الأخرى، فالفيتو يجسّد النّفعيّة السّلبيّة واستخدامها بشكل متكرّر”.
هناك متنوّرون غربيّون ناقدون لأيّ تطرّف كان، ويرفضون تبريره سياسيّا أو دينيّا أو ثقافيّا، ولم يكتفوا بالسّكوت، وهناك من رفع صوته بذلك، فوهم التّنوير كما ترى الكاتبة سيقودنا إلى وهم الدّين ووهم العلم ووهم الإصلاح …الخ، فينبغي في نظري تجاوز هذه الانطباعات الوعظيّة المسبقة، وقراءة الأحداث بصورة علميّة منصفة، مع احترامي الكبير للكاتبة العزيزة، ويبقى وجهة نظر أخرى تحتمل الصّواب والخطأ.