عيد الميلاد نسبة إلى مولد السّيد المسيح عيسى ابن مريم – عليه الصّلاة والسّلام – [الابن يسوع كما عند غالب المسيحيين]، وهو عيد حدث بعد [موت – ارتفاع] السّيد المسيح، أي أنّه لم يحتفل السّيد المسيح بمولده، وكان في بدايته أقرب إلى الذّكرى به ثمّ تحول إلى طقس دينيّ، ودخل فيه قداس العيد، وشجرة الميلاد، وبابا نويل، وعشاء الميلاد، وهو أشبه عند المسلمين بذكرى ميلاد النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – إلا أنّ تقعيد فقهاء المسلمين للبدعة الدّينيّة جعل من هذه المناسبة في حدود الذّكرى التّأريخية كما عند من يحتفي به من غالب المدارس الإسلاميّة!
وتوقيت الاحتفاء بعيد الميلاد كان محل خلاف كبير جدا، وهل هو في الصّيف أم في الشّتاء، وذلك لظاهر إنجيل لوقا، الآية الثّامنة من الإصحاح الثّاني: وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات اللّيل على رعيتهم، والرّعاة لا يكونون في الشّتاء والثّلوج، وهذا ما رجحه أحمد ديدات [ت 2005م]، ولظاهر قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم/ 25 – 26].
بيد أنّه من المسلمين من مال إلى أنّه ولد في الشّتاء، واعتبر ولادته فيه وظهور النّخلة وتساقط الرّطب من باب المعجزة لمريم ولميلاد ابنها عيسى، وهناك من يرى أنّ عيسى لم يولد في فلسطين لظاهر آية مريم، وهو من جزيرة العرب؛ لأنّ النّخيل والرّطب يكون عادة في المناطق الصّحراويّة، وابن قرناس [معاصر] يرى أنّ هناك شخصيتين: شخصيّة عيسى ابن مريم وهذا جاء في عهد موسى – عليه الصّلاة والسّلام – لظاهر قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم/ 28]، فمريم هي نفسها [مريام] أخت موسى وهارون عليهما السّلام، وأمّا يسوع المسيحيين فهو شخص آخر بينهما حوالي ألف سنة!!
عموما هذا لا يهمنا كثيرا، والّذي يهمنا هنا توقيت الاحتفاء بالمسيح، حيث اعتمد بعد مجمع نيقيّة [325م] في 25 ديسمبر في نهاية كلّ عام، إلا أنّ الخلاف بسبب التقاويم لم يحلّ المشكلة، فالكاثوليك يحتفلون في 1 مايو، وبعض الأرثوذكس 14 مايو، والأرثوكس في مصر 6 مايو!!
وبما أنّ المسيحيّة امتداد لليهوديّة في العهد القديم، فكان أهمّ الاحتفالات سبعة رئيسة كما في سفر اللّاويين الإصحاح 23، عيد الفصح، وعيد الفطير، وعيد الباكورة، وعيد الأسابيع، وعيد الأبواق، وعيد الكفارة، وعيد المظالّ، وسنجد التّحول في المسيحيّة من الجانب الطّقوسيّ كما عند اليهود إلى الجانب الرّمزيّ المتعلّق بالسّيد المسيح كما في العديد من الجوانب الأخرى.
أمّا عيد الفصح فهو يعود أصله إلى خروج بني إسرائيل من مصر في عهد موسى – عليه السّلام -، وظلّ التّقليد فيه باقيا عند المسيحيين في 14 نيسان، أي في 21 مارس، وعلى اختلاف التّقاويم قيل 3 إبريل وقيل غير ذلك، ويسمونه بالقيامة أي قيامة السّيد المسيح بعد صلبه بثلاثة أيام، ويقع بعد الصّوم الكبير الّذي يمتدّ لأربعين يوما.
وعيد القيامة يشبه عيد الفطر عند المسلمين، حيث يكون بعد نهاية الصّيام، لذا يقترن به عيد الفطير، ويكون اليوم السّابع لعيد الفصح، وسببه عند اليهود أنّهم لمّا خرجوا من مصر أخذوا العجين دون أن يتخمّر، فجسّدوا هذه الذّكرى في هذا العيد، لذا يأكلون في هذه الأيام السّبعة الخبز غير المخمّر، والمسيحيون يحتفلون به، إلا أنّهم نقلوه إلى رمزية السّيد المسيح الّذي تحمل خطايا النّاس وأخطائهم وهو بلا خطايا، فالخطايا تشبه خمير الخبز!!
وعيد الأسابيع يكون بعد سبعة أسابيع، أي خمسين يوما، ويكون بعد الحج، ويقدّم فيه قربان الحصاد، وهو قريب من عيد الأضحى عند المسلمين.
وأمّا عيد الباكورة أو الحصاد فهو عيد الشّكر على حصاد الحنطة شكرا لله، فيجعلون جزءا منها للمعبد والكاهن، ويرمز عند المسيحيين كما في إنجيل يوحنا إلى باكورة السّيد المسيح، الإصحاح 12 آية 24: اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.
أمّا عيد الأبواق فهو قريب أيضا من عيد الأضحى عند المسلمين، وما يقترن قبله من وقفة عرفة وطقوس الحج، وفيه البكاء على الخطايا والتّوبة، وسمي بالأبواق لضربها في هذا اليوم، وفيه شعيرة الذّبح والقربان، تذكارًا للكبش الّذي ذبحه إبراهيم بدلا من إسحق [إسماعيل عند جمهور المسلمين].
وعيد الكفارة قريب من عيد الفطر عند المسلمين، إلا أنّ اليهود يصومون فيه يوما واحدا من الغروب وحتى الغروب من اليوم الثّاني، ويمتنعون فيه عن الطّعام والشّراب والاغتسال ودهن الرّأس ولبس الأحذية والعلاقات الزّوجيّة، وينقطعون للعبادة والتّذلل، في المسيحيّة تحوّل إلى رمز المسيح الّذي خلّص خطايا العالم بكفارة دمه!!
وعيد المظالّ مشتق من المظلّة ويكون بعد عيد الباكورة، وفيه يضعون المظلّات أثناء العيد، وتحوّل إلى رمزيّة المسيح عند المسيحيين لكونه نور العالم.
إلا أنّ لليهود أعيادا أخرى كعيد الغفران، وللمسيحيين أعيادا أخرى أيضا مستقلّة من أهمها عيد الغطاس ويوم الجمعة الكبير الّذي يسبق عيد الفصح كما عند الأرثوذكس.
وظهرت حاليا بعض الطّقوس عند المسيحيين وتقوّت بسبب السّياحة والمال كالجمعة السّوداء.
وقد تأملت أكبر الأعياد الطّقوسيّة عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، ووجدتها إمّا مرتبطة بالصّيام أو القربان، وهذا مبحث آخر يحتاج إلى تدليل، لا يتسع الوقت له هنا.
وبعد هذه اللّمحة البسيطة ننتقل إلى القضيّة الأخرى وهي حكم تهنئة غير المسلمين بطقس الميلاد، وسبق أن كتبت جوابا عنه سابقا ونشرته في صفحتي على الفيس، وأدرجته في كتاب فقه التّطرف، أعيد نقله هنا.
من المعلوم لكلّ أمّة من الأمم، ولكلّ ملة من الملل، ولكلّ دين من الأديان وقفات في عامهم إمّا قوميّة أو دينيّة، يفرحون فيه، ويستحضرون ماضيهم ومنطلقاتهم الدّينيّة والقوميّة.
ومن هؤلاء النّصارى (المسيحيون) جعلوا في غالبهم 25 من آخر شهر ميلادي يوما مذكرا بميلاد عيسى المسيح، وهو ما يسمى بالكريسمس، ثم تطورت فيه طقوس كطقس شجرة الميلاد، وبابا نويل وصلاة القداس وخبز الفطير ونحوها.
وهذا لا يهمنا كثيرا، ولكن يهمنا هذه الصّورة: لو كان لواحد منا زوجة نصرانيّة، هل يعقل أن يرفض تهنئتها يوم عيدها، وهل يحرم على أولادها من أبيهم المسلم تهنئة أمهم؟!!!
ثمّ لو كان لي جار سريلانكيّ نصرانيّ، أزوره ويزورني، أسامره ويسامرني، هل يعقل حرمة تهنئته في عيده الدّينيّ؟
كذلك لو كان لي زميل فلبينيّ في العمل، ونعمل وإياه سويا، إلى هذه الحد يأمرني ديني بالجفاء في تهنئته في عيده؟
لقد حاولت البحث عن دليل صريح فلم أجد، إلا من باب المقاصد وهو الاعتراف والإقرار بما عندهم، وكذا أدخلها بعضهم في قضيّة الولاء والبراء!!!
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
ويقول الله تعالى متحدثا عن البر: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
البر في القرآن ليس التّظاهر بالصّلاة والشّدة والغلظة فالله غنيّ عن هذا؛ ولكن البر تحقيق للتواصل الاجتماعيّ، والذي يتجاوز المسجد إلى بناء الإنسان ككل!
ولهذا أمرنا الله بالبر مع الإنسان الّذي لم يقاتلنا، ولم يعتدِ علينا، وهو بتعريف اليوم الإنسان المدنيّ الّذي لا ذنب له!
والبر يتجاوز إلى احترام هذا الإنسان وطقسه، ولو كان مبتدعا، أو يحمل من الشّركيّات الظّاهرة، وأمرنا بالقسط معه، وعدم سبه وإكراهه.
فإذا جاز ذلك في إظهاره واحترامه، دلّ على جواز ما دونه وهو تهنئته في عيده، وإدخال البهجة في قلبه، بالكلام الطّيب أو الابتسامة أو الهديّة، كأنّ يدخل الأولاد إلى أمهم النّصرانيّة الفرحة بمناسبة عيدها، وكذا الجار إلى جاره، والصّديق إلى صديقه!!!
وهذا أكبر دعوة لهم إلى الدّين الخالص الّذي لا يكره النّاس، ليجدوا فيه العالميّة، ويدركوا فيه معاني الإنسانيّة في حقيقتها!
أما دعوى الرّضا أو التّدرج أو الإظهار فلا علاقة له، فهذا شيء قلبيّ يعود إلى الفرد ذاته، لا إلى التّعامل المجتمعيّ! فالله أمر بحفظ صوامعهم وكنائسهم ولو في الحرب، وأعطى الأمان لأحبارهم وقسيسهم، وهو أكبر درجات الإظهار؛ فكيف يحرم على ما دونه!!!
كذلك ربطه بالبراءة أيضا لا علاقة له، فالبراءة لا تعني الجفاء والغلظة؛ ولكن تعني التّرابط لكلّ ما يؤثر على المجتمع والإنسان بالبراءة منه، كالوقوف صفا ضدّ حركات هدم الإنسان وإرهابه وقتله بأيّ شكل من الأشكال، والبراءة ليست ضدّ البر، بل الولاية تعمّق البر والإحسان إلى الناس ولو اختلفوا دينا أو جنسا!!!
إنّ بناء جيل مسلم ينفتح على أخيه الإنسان لرابطة القيم الكبرى، يجعل الأمم الأخرى تدرك قيمة هذا الدّين الّذي بحق جاء لبناء الإنسان واستعمار الأرض صلاحا لا دمارا!!!
هذا ما أراه في هذا المسألة، وأحترم الرّأيّ الآخر جملة وتفصيلا!
صحيفة شؤون عمانيّة 1439هـ/ 2018م