اطلعتُ على منشور الأستاذ سعيد جداد وما يتعلّق بالإباضيّة، ولستُ هنا مدافعا عن الإباضيّة، أو مهاجما لجداد، فالإباضيّة كأي مذهب بشريّ من مذاهب المسلمين، وتراثهم كأي تراث، ليس وحيا يوحى، ولا كتابا مقدسا، فكلّ مذهب، وكلّ تراث، فيه إضاءات جميلة يستفاد منها، وفيه وقفات سلبيّة يقف المتأمل والنّاقد معها، وأشرت إلى هذا في كتابي الأخير “فقه التّطرف” في مقال نشرته سابقا بعنوان قصاصات الكتب الصّفراء!!
على أنّه مع احترامي لما ذكره سعيد جداد، إلا أنّ العديد من كلامه يحوي مغالطات عدة، وطبعا لن أتطرق إلى قضيّة تكفير بعض الصّحابة والبراءة منهم، والتّكفير هنا ليس بالمعنى الملي، وهذا للأسف شذّ فيها فئة من المتقدّمين، إلا أنّ منهج جمهور الإباضيّة الوقوف لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وهو منهج أطبق عليه الإباضيّة، فهم يعتزون بعثمان [ت 35هـ]، ويسمون أبنائهم باسمه تيمنا، وبعلي بن أبي طالب [ت 40هـ]، وغالب فقههم من كبار الصّحابة عنه، وبالحسن [ت 50هـ] والحسين [ت 61هـ]، بل حتى أنّهم وقفوا مع معاوية [60هـ] وعمرو بن العاص [ت 43هـ] موقفا منصفا، حتى نشأت أجيال لا تعرف الخلاف، ولا يُذكر لهم ذلك، فلمّا قامت وزارة التّراث بإخراج بعض المدونات، كالسّير والجوابات، أخرِجت بلا نقد ولا إعادة تقييم، فانتشرت بعض القصاصات، كما تنتشر قصاصات المذاهب الأخرى كالقول بتحريف القرآن عند الشّيعة، مع أنّ الشّيعة حاليا قاطبة يؤمنون بالقرآن من الجلدة إلى الجلدة، وكالقول بتكفير أبي حنيفة عند الحنابلة، مع أن الحنابلة يجلّون أبا حنيفة حاليا، ولو ذكر بسوء لقام عليه عامتهم، ولو ذكرنا نماذج من كلّ لطال بنا المقام!!
أمّا قضيّة قتل الصّحابة فلعلّه يريد قتل الإمام علي بن أبي طالب من قبل عبد الرّحمن بن ملجم [ت؟]، على أنّ هذه الحادثة وقعت ولم يكن شيء حينها يسمى إباضيّة، ثمّ ابن ملجم لا علاقة له بالإباضيّة رأسا، على أنني لا استبعد قتل علي من قبل القرشيين أنفسهم المعارضين للشّيخين وبني هاشم، كما قتل عمر ونسب مقتله إلى أبي لؤلؤة المجوسيّ، ومقتل سعد بن عبادة ونسب قتله إلى الجن، وما نسب من مديح إلى ابن حطان [ت 84هـ] له لا يستبعد من أن يكون من قبل الانتحال لشهرة الانتحال السّياسيّ والافتخاريّ حينها، ولو صح لم يلتفت إليه إلا عند أصابع قليلة، ومات هذا الأمر بمرور الزّمن!!!
المغالطة الثّالثة: خروج الإباضيّة على الدّولة الأمويّة، وفي الحقيقة هم لم يخرجوا، لأنّ الدّولة في عمان قديمة التّأريخ؛ وأقرها النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – والخلفاء من بعده، وممّن خرج على الأمويين الصّحابة من آل البيت وصغار الصّحابة، فخرج عليهم الحسين بن علي حتى قتل في واقعة كربلاء الأليمة، وعبد الله بن الزّبير بن العوام [ت 73هـ] في الحجاز، وثورة كبار التّابعين كثورة زيد بن علي زين العابدين [ت 122هـ] في عهد هشام بن عبد الملك [125هـ] سنة 121هـ، وثورة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب [ت 131هـ] سنة 127هـ، نعم كان للخوارج صولات كغيرهم، وما نسب للإباضيّة من ذلك، على أنّ الثورات ضدّ الأمويين كان الكلّ مشترك فيها، ولم تتبلور نظريّة المذاهب بقوّة حينها، وكثرة الخروج لسبب الظّلم الّذي أحدثه الأمويون بالنّاس، بيد أنّه في عمان كانت لهم دولتهم منذ القدم وحتى يومنا هذا!!
المغالطة الرّابعة: الخروج على الدّولة العباسيّة: وهذه لا علاقة لها بالمذهب؛ لأنّ الأمويين خرجوا وكوّنوا دولتهم في الأندلس وهم أشاعرة مالكيّة مثلا، كما أنّ الإباضيّة كوّنوا دولتهم في عمان وشمال أفريقيا، وكذلك السّلاجقة، وكان لهم قوّة في بغداد، وهم أشاعرة سنة، بل أنّ العباسيين هم من أغاروا على عمان، وفعلوا بها ما فعلوا، كما في عهد قائدهم محمد بن بور [ت؟]!!
المغالطة الخامسة: الخروج على الدّولة العثمانيّة، وهذه مغالطة أخرى؛ لأنّ الوجود العماني والإباضي قبل، ولم يخرجوا عليهم، بل استعان العثمانيون بالعمانيين وقت الامتداد السّعودي الأول، والسّعوديون خرجوا على العثمانيين وهم سنة، ومحمد علي بك [ت 1848م] شبه استقل في مصر وسورية، والمغرب العربيّ كانت مستقلة، وهؤلاء سنة، بل حتى السّلطان عبد الحميد الثّاني [ت 1918م] في مذكراته يذكر من أسباب ضعف العثمانيين هذا الامتداد!!
المغالطة السّادسة: ما يتعلّق بزنجبار، وخروج الأفارقة عليهم، والعمانيون ليسوا ضحيّة، بل شاركهم اليمنيون الحضارمة، كما أنّ الإباضيّة ليسوا ضحيّة لوحدهم بل شاركهم أيضا الشّوافع السّنة، فالأفارقة والبريطانيون لم يفرّقوا بين عربي وعربي، ولا بين إباضي وسني، فالجميع كان ضحيّة!!! على أنني لا أبرئ العمانيين والعرب من بعض الحماقات والأخطاء، لكن لا ننسى أيضا كان لهم دورا كبيرا في نهضة أفريقيا وتطور الحضارة فيها منذ فترة مبكرة جدا!!
المغالطة الأخيرة: لا يجوز أن نسيء إلى مذهب بأخطاء بعض أفراده، كما لا يجوز أن أسيء إلى الدّين أو فكر معين بما ارتكب من ينتسب إليه، وإلا لما خلا فكر ولا مذهب من إساءة، فكون وجود إباضيّة أجرموا وأفسدوا، فهناك من كلّ المذاهب من أفسد وأجرم، بل من كلّ الملل والأديان، فإذا سلّمنا أنّ من الشّخصيات العمانيّة أفسدت، فلا يكاد تخلو دولة بمثلهم، فهل ننسب ذلك إلى مذاهبهم، بل حتى من الشّخصيات الاشتراكيّة والعلمانيّة والقوميّة واللّبراليّة من مارست الفساد!!
وختاما وإن كنت لا أعرف الأستاذ العزيز سعيد جداد عن قرب، لكن إثارة المذهبيّة لا يخدم أي مصلح بحال، بل يضع البلاد بلاقعا، والطّائفيّة إذا ظهرت أكلت الأخضر واليابس، ولنا في البلاد القريبة عبرة وأسوة، ونبي الله شعيب عليه السّلام قال في دعوته: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فمبتغى الإصلاح لا يدعو إلى نشر المذهبيّة أو إثارتها بحال، على أنّ النّقد العلميّ مفتوح للجميع، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى!!!
فيسبوك 1439هـ/ 2018م.