المقالات النقدية

النّص الدّيني وجدليّة القراءات المعاصرة (الأحكام نموذجا)

نشر في مجلّة شذرات ثقافيّة (مجلّة مصريّة الكترونيّة لصاحبها وائل مجدي)، عدد (7)، الخميس 11 فبراير 2021م، ص: 2 – 6.

لقد درج القدامى في الجملة في التّعامل مع نصوص الأحكام تعاملا علويّا لاهوتيّا، ومع هذا تعددت دائرة الإلزام من الوجوب والحرام حتى النّدبيّة والكراهة، ثمّ هل الأصل في الإلزام الوجوب أم النّدبيّة، فهل نحن بحاجة إلى قرينة لرفعه إلى الوجوب أو خفضه إلى درجات أقل، وهكذا فيما يتعلّق بآيات السّلب والحرمة.

وفي بدايات التّدوين نجد مالك بن أنس الأصبحي [ت 179هـ]، يقول: “لم يكن من فتيا النّاس أن يقال: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول: أكره هذا، ولم أكن لأصنعه، والنّاس يكتفون بذلك”[1]، “كانوا لا يقولون حلال ولا حرام إلا لما في كتاب الله تعالى”[2].

ومع كون النّصوص الرّوائيّة الأصل فيها ظنيّة الثّبوت والدّلالة، والنّص القرآني الأصل فيه ظنيّة الدّلالة لا الثّبوت، ويعني هذا اتّساع دائرة الرّأي والاجتهاد، وضيق دائرة القطع أو ما تسمّى دائرة الدّين، إلا أنّه – كما يبدو – بعد شيوع أصول الشّافعي [ت 204هـ] حدث مع مرور الوقت جمود في الآلة ذاتها، ثمّ في مزاحمة النّص الظّنيّ ثبوتا للنّص القطعيّ ثبوتا؛ لتساوي دائرة الظّنيّة دلالة، وبالتّالي توسع دائرة النّسخ والتّخصيص والتّقييد وغيره للظّني ثبوتا، والتّراتبيّة أصبحت رقما في الجملة من حيث ذكر الأدلّة الإجماليّة لا واقعا من حيث الهيمنة والتّصديق.

فلمّا نأتي مثلا إلى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأفَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة/ 180]، وإلى رواية: [لا وصيّة لوارث]، لا قيمة للتّراتبيّة هنا، حيث الهيمنة للرّقم الأقل [الرّواية] على الكتاب، فلا وصيّة لوالدين أو لقريب وارث، خاصّة وقد رفع العديد النّهي في الرّواية إلى دائرة الإلزام، وحاول بعض الجمع أنّ الوصيّة تصح إذا كان الوالدين غير مسلمين وكذا القريب الوارث مثلا، لكن الهيمنة أصبحت هنا للرّواية الظّنيّة.

ومن القراءة الأصوليّة إلى القراءة المقاصديّة والمصالحيّة، وتوسّع دائرة التّعليل، حيث لازم بعد النّص زمنا، وتوسع الظّرفيّة مكانا، وظهور نوازل جديدة، بعضها لها مثيل يقاس عليه لعلّة متعديّة من الأصل إلى الفرع، فاتسع دائرة القياس، وبعضها لها مثيل لعلّة قاصرة فتوسعت دائرة العلل من النّص إلى الاستقراء، وبعضها لا مثيل له فتوسع دائرة الاجتهاد بشكل أكبر، مع توسع دائرة الفقه ذاته، ليشمل مجالات متعددة.

وبعد أكثر من ألف سنة من عصر النّص، وتشكل المذاهب الفقهيّة التّسعة [الإباضيّة والزيديّة والحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والجعفريّة والظّاهريّة والإسماعيليّة]؛ نجد إرثا كبيرا من الموروث الفقهي، لا يكاد تساويه أمّة من الأمم قديما وحديثا، إلا أنّه مع توسع الفقه قابله جمود في الآلة والنّقد والمراجعة، مع توّسع دائرة الإلزام الّذي قابله الأحاديّة في الرّأي خصوصا بعد الصّحوة الإسلاميّة وما تبعها من حراك سياسي [الإسلام السّياسي إن صح التّعبير].

أمّا بالشّكل العام داخل الخط الإسلامي سنجد مدرستين متناقضتين: مدرسة القرآنيين والّتي تضيّق من دائرة النّص الظّنيّ الثّبوت، وتوّسع من دائرة قطعيّ الثّبوت، وهي درجات ليس مجال ذكرها هنا، أهمها مدرسة التّصديق والهيمنة، ومدرسة العرض في الجملة، ومدرسة القرآن وكفى ونحوها.

يقابل هذه المدرسة السّلفيّة الّتي توسّع من دائرة النّص الظّنيّ الثّبوت، ولهذه أيضا اتّجاهات متدرجة، منها المتوسّعة في درجة الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم (القرون الخيريّة)، ومنها دون ذلك.

وهاتان المدرستان يماثلهما في التّكوين في النّص التّوراتي مبكرا، مدرسة القرائين المكتفين بالأسفار الخمسة، وهي مصدر الهيمنة والتّصديق، ومدرسة الفريسيين (السّلفيّة والتّقليديين اليهود).

بطبيعة الحال لا زالت المدارس الفقهيّة التقليديّة باقية، وفي داخلها تجاذبات تقليديّة سلفيّة، وقرآنيّة إصلاحيّة، إلا أنّ التّشكل العام حاليا ولو على المستوى الأكاديمي، أو المثقف الدّيني كما يسميه البعض، هو ليس الرّجوع فقط إلى الهيمنة والتّصديق القرآني، ولكن التّعامل مع النّص كنص من حيث القراءة والتّفكيك.

فالنّص ابتداء يدور بين التّاريخيّة والتّاريخانيّة، فالتّاريخيّة “مذهب يقرر أنّ القوانين الاجتماعيّة تتصف بالنّسبيّة التّاريخيّة، وأنّ القانون من نتاج العقل الجمعي”[3]، والتّاريخانيّة “تعتبر التّاريخ مبدأ وحيدا لتفسير كلّ الظّواهر المرتبطة بالإنسان بما فيها الدّين، فالتّاريخ يكفي نفسه بنفسه”[4].

ويرى محمّد النّعيميّ [معاصر] فيما يبدو له أنّ “الفرق بين التّاريخيّة والتّاريخانيّة في أنّ الأولى تربط الظّواهر والحقائق والمعتقدات والنّصوص الدّينيّة بزمن نشأتها التّاريخيّة، بينما ترى الثّانية أنّ هذه الأحداث تتطور مع التّاريخ نتيجة ارتباطها بالظّروف التّاريخيّة، والقول بتاريخيّة النّص يعني أنّ النّص حادث في زمن معين، ومتعلق ببيئة معينة، وأحداث معينة، فهو يعالج أوضاع تلك المرحلة الزّمنية من عمر التّاريخ وأحداثه، وهو ليس معنيا بالأحداث والأوضاع الّتي بعد تلك المرحلة الزّمنيّة”[5].

ويندرج هذا فيما يتعلق بنصوص الأحكام تحت سؤال هل النّص في ذاته مطلق أم نسبيّ، فإذا كان محمّد باقر الصّدر [ت 1980م] يرى إنّ “الغلو في الانتماء بتحويل النسبيّ إلى مطلق” و”حينما يتحوّل النّسبيّ إلى مطلق إلى إله … يصبح سببا في تطويق حركة الإنسان”[6]، فإنّ الإشكاليّة تبقى ذاتها، فالقول بظرفيّة النّص ابتداء من حيث [الظّرفيّة التّاريخيّة النّسبيّة/ السّنة التّدبيريّة] يعطي مساحة أوسع للتّعامل مع النّص واستمراريته، فالنّص المفتوح دلالة فيما يتعلّق بحياة الإنسان ومعاشه وضعه في محيطه النّسبيّ والظّرفيّ يتماشى مع مرونته وبقائه، فلمّا نزل بروح الظّرف الواقع فيه، ومع تغير الظّرف تبقى روحه ليتماثل مع حكم مثيل له يناسب الظّرفيّة الأخرى.

ويقول صادق جواد [معاصر]: “عندما نقول إنّ المبادئ لها صحة وثبات مستدام فهل نقول إنّ للأحكام كذلك؟ فالأحكام لمّا كانت متسقة مع المبادئ في حينها لم تعد متسقة في حين آخر، فإذا كان لابدّ من تغيير أو تطوير فيكون في الأدنى أي الحكم وليس المبدأ، فالأحكام جوانب إجرائيّة تتحرك بما تفيء بمتطلبات المبدأ”[7].

فهناك فرق بين التّحويل وبين الابتداء، فجعل النّص في ذاته نسبيا، ولا يحمل الإطلاق إلا بقرينة أو قرائن واضحة؛ يجعلنا نتعامل مع النّصوص بشيء من المرونة الأوسع فضلا عن الالة، ولكن جعل النّص مغلقا ومطلقا من حيث الابتداء، هذا قد يجعل منّا البحث عن نص آخر أو نحتاج إلى شريعة أخرى لتلائم ظرفيّة وتاريخيّة كلّ زمن، فلمّا ارتفع وجود الشّرائع لزمنا البحث عن الرّوح الّتي يستطيع بها العقل تكييف الأحكام وفق الظّرفيّة المعاشة بما يحقق الغاية من المبادئ الّتي يعيش بها المجتمع الإنسانيّ.

ولهذا يرتبط بهذا جدليّة لاهوتيّة النّص وأنسنته، وبعيدا عن النّظر حول النّص من حيث قطعيّة النّسبة من الظّنيّة فهذا مبحث آخر يبقى السّؤال: هل لاهوتيّة النّص ترفع الأنسنة مشاركة لا أثرا؛ لأنّ الكلّ متفق أنّ الغاية الأثر وهو الإنسان، فهل النّص بمعنى أنّه “حاكم على الواقع مؤثّر فيه، متفاعل مع مستجدّاته، لا يتأخر عن الواقع أبدا، حيث أنّ الواقع متأخر على النّص، فالمتأخر البشري والكوني لا يجوز أن يحكم المتقدّم الإلهي، أي لا يمكن للواقع أن يكون حاكما على النّص، فالنّص القرآني موجها من الله تعالى إلى البشريّة، منذ بدء النّزول إلى اليوم وغدا، وإلى أن تقوم السّاعة”[8].

أو أنّ الغاية من الأحكام مرتبطة بالأنسنة، “وإنّما ينظر إليها لأنّه بها تكون صيانة الإنسان، فهي إنسانيّة عامّة، ولها صحة وثبات مستدام”[9] أي من حيث الغاية المرتبطة بالمبادئ، لكون الأحكام متحركة، والمتحرك مرتبط بالأنسنة، والثّابت هو المبدأ، فالتّعامل مع الأحكام كونها متحركة لا يتعارض من اللّاهوت، ولا يبطل النّص، بقدر ما هو طاعة للمنزِل، وتحقيقا للمنزَل، من خلال تحقيق روح النّص لا حرفيّته.

وهذا الفريق يقابل رأي من يرى أنّ الأنسنة في التّأويل لا في النّص؛ لأنّ النَص يبقى كما هو، ونحن نتعامل مع كونا مفتوحا قابلا للتّأويل، وهنا يأتي دور الأنسنة، أي بمقدار ما يحقق كرامة الماهيّة الإنسانيّة، ويتوافق مع الظّرف المجتمعي.

أمّا الأنسنة عند شيلر [ت 1805م] على المذهب الّذي استخدمه في مؤلفاته، ويرتبط بحكمة بورتاغوراس [ت 411ق.م] بمعنى: “الإنسان هو المقياس لكلّ الأشياء”[10]، فهذا يتوافق مع الإنسانويّة لا الإنسانيّة؛ لأنّ الأول في الجملة ليس في ميزانه النّص اللّاهوتي، فجميعها نصوص تأريخيّة ظرفيّة من حيث النّسبة ومن حيث الظّرفيّة، أمّا الإنسانيّة فمعناها حضور البعد الإنساني في التّعامل مع ظرفيّة النّص.

ولهذا أرى حضور الأنسنة من حيث التّأويل، والتّعامل ظرفيّا مع النّص من حيث الابتداء، وبهذا نستطيع التّعامل مع النّص بمرونة أكبر فيما يخدم المجتمعات الإنسانيّة، ولعلّ هناك مناهج مطروحة في قراءة النّص لا يتّسع لها المقام كالحاكميّة والعلمويّة والتّجريبيّة وما بعد نظريات الفيزياء الحديثة.


[1] القيرواني: أبو محمّد؛ كتاب الجامع لأبي محمد القيرواني، تحقيق محمد أبو الأجفان، وعثمان بطيخ، ط مؤسسة الرسالة، بيروت/ لبنان، الطبعة الثالثة، 1406 هـ/ 1985م، ص 148.

[2] المصدر نفسه، ص 148.

[3] النّعيميّ: محمّد سالم؛ القراءة الحداثيّة للنّص القرآنيّ وأثرها في قضايا العقيدة، ط مصر العربيّة للنّشر والتّوزيع، مصر/ القاهرة، الطّبعة الأولى، 2016م، ص: 108.

[4] المصدر نفسه، ص: 109.

[5] المصدر نفسه، ص: 109.

[6] الصّدر: محمّد باقر، نظرة عامّة في العبادات، ط دار التّعارف للمطبوعات، لبنان/ بيروت، الطّبعة الرّابعة، 1405هـ/ 1985م.ص: 23.

[7] العبري: بدر بن سالم؛ مع المفكر العماني صادق جواد وحديث الفكر والفلسفة. مرقون.

[8] النّعيميّ: محمّد سالم؛ القراءة الحداثيّة للنّص القرآنيّ وأثرها في قضايا العقيدة، مصدر سابق، ص: 121.

[9] العبري: بدر بن سالم؛ مع المفكر العماني صادق جواد وحديث الفكر والفلسفة. مرقون.

[10] النّعيميّ: محمّد سالم؛ القراءة الحداثيّة للنّص القرآنيّ وأثرها في قضايا العقيدة، مصدر سابق، ص: 134.

السابق
جواب حول أنسنة النص وأنسنة التأويل
التالي
مستقبل التّنوير في العالم العربي بين الأنسة والهويّة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً