جريدة عمان 1444هـ/ 2023م
معرض مسقط الدّوليّ للكتاب لم يعد ذلك المعرض شبه المحلّيّ الّذي ينتظره العمانيون بشكل خاص في العام مرة واحدة، حيث يتلهفون لنهاية شهر فبراير من بداية كلّ عام ميلاديّ جديد، فقد تجاوز المعرض هذه المحدوديّة ليصبح قبلة يأوي إليه الكتّاب والمثقفون والشّغوفون بالكتاب والقراءة من دول عربيّة وغير عربيّة، منهم من يأتي لدعوة، وغالبهم يأتي محبّا للمعرفة، ومكتشفا للثّقافة العمانيّة والخليجيّة.
افتتح معرض مسقط الدّوليّ للكتاب في دورته السّابعة والعشرين يوم الأربعاء الماضي، الثّاني والعشرين من فبراير، وافتتح في يومه الأول بفعاليّة قيّمة مع الإعلاميّة والصّحفيّة بارعة علم الدّين، حيث أدارها الصّحفي ورئيس تحرير جريدة عمان عاصم الشّيدي، فكانت فاتحة خير لبرنامج ثقافي ثقيل ومتنوع نفخر به، ولقامات عربيّة وغير عربيّة منها لأول مرة تشرّف بلدنا عمان، ومن هذه القامات إبراهيم أبو هشهش من فلسطين، ومحمّد أغير أقجا من تركيا، والمستشرق الأسبانيّ أغناطيوس غوتيريت، وآن عادل الصّافي من السّودان، والمفكر الرّوائي إبراهيم الكوني من ليبيا، ومحمّد عبد الحافظ ناصف من مصر، والهواريّ الغزاليّ من الجزائر، ونايف بن نهار من قطر، والرّوائي سنان أنطون من العراق، وعيسى مخلوف اللّبناني المقيم في فرنسا، وكاظم العنزي من السّويد، وشوقي العنيزي من تونس، وغيرهم كثير.
والجميل في الفعاليّات أنّها لم تقتصر عند اللّجنة الثّقافيّة المعنيّة بهذا الأمر، فقد توزعت على أكثر من أربع وعشرين مؤسّسة حكوميّة وأهليّة، بجانب عشر مبادرات، لتقترب الفعاليّات من مائة وأربعين فعاليّة ثقافيّة وأدبيّة وفكريّة واجتماعيّة واستثماريّة طيلة أيام المعرض، لهذا نجد هذا التّنوع والتّوازن الجميل في الفعاليّات.
وإن كان لي من رؤية نقديّة في هذا فيتمثل في أمرين: الأولى توثيق الفعاليّات، فوجود قامات كبيرة، جاءت من مسافات بعيدة، ومهما قدّمت من عمق، ومهما تفاعل معها الحضور؛ إن لم توثق تبقى حديث اللّحظة، وتذكر في التّأريخ كحدث عابر، ولكن إن وثقت، وكانت متاحة في يوتيوب خصوصا، أو موقع عين بوزارة الإعلام، فهذه تستفيد منها أجيال وأجيال، ولفترة زمنيّة أطول، ثمّ يستفيد منها الآلاف ممّن يصعب عليه الحضور، وأخصّ من هؤلاء الباحثين وطلبة الدّراسات العليا ممّن يرجعون إليها في أبحاثهم ودراستهم.
والثّاني أنّ بعض القاعات يصعب التّركيز فيها بسبب الضّوضاء، وقد يصاب الواحد بالصّداع لتداخل الأصوات، وقد رأيت في بعض المعارض الدّوليّة هناك حاجز زجاجيّ مرئيّ، أو يمكن جعل الحفلات الفنيّة والغنائيّة في الفضاء المفتوح؛ لأنّها لا تحتاج إلى تركيز المستمع كحالة المحاضرة، خصوصا ذات الثّقل المعرفيّ.
والمعرض بجانب الفعاليّات الثّقافية حوى الفعاليّات الفنيّة، من فنّ وموسيقى ومسرح وسينما ورسم ونقش ونحت مع الخطّ العربيّ، بجانب الورشات والمعارض الفنيّة والحفلات الغنائيّة، وسعيد جدّا أن أرى تلك المواهب الشّبابيّة والفنيّة تقدّم إبداعها الفنيّ بكل حريّة، في فضاء من الجمال والتّتوع والتّعدّد، ولا أنسَ هنا المبادرات الشّبابيّة والأهليّة الجميلة، ومنها مبادرة دعم الطّالب الجامعيّ، وهي مبادرة أهليّة يستفيد منها آلاف الطّلاب سنويّا، ويديرها طاقات شبابيّة، ودعمت هذا العام من قبل شركة فودافون عمان للاتّصالات، كما تشاركت سنويّا مع الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، كذلك لقت دعما وترحيبا من وزارة الإعلام الرّاعي الرّسميّ للمعرض، ومن قبل وزيرها الموقر معالي الدّكتور عبد الله الحراصيّ خصوصا، والّذي لا تمر ساعة إلا وتجده متنقلا بين أروقة وأجنحة المعرض، ومع الكتّاب والمثقفين والقراء، وعند الفعاليات متابعا ومتفاعلا.
وبالنّسبة لمبادرة دعم الطّالب الجامعيّ كنت أرجو أن تتوسع إلى الباحثين عن عمل، وإلى المسرحين، وذوي الدّخل المحدود، والأسر ذات الضّمان الاجتماعيّ، ولو في جناح آخر، فالكتاب لا يقتصر فقط ليسدّ الرّغبة القرائيّة، أو البحث عن المعرفة، فهو يحدث في النّفس حالة من السّعادة والرّضا، كما يحدث علاقة بين الطّفل والكتاب، وبين الأسرة والكتاب أيضا، لهذا خصّصت اللّجنة المنظمة ركنا خاصّا لمسرح الطّفل، وركنا آخر لمتحف الطّفل، تضمّن فعاليّات ومناشط متنوعة، كما لم تهمل العلوم والإبداع.
ولا أنسَ هنا أيضا مبادرة أكرم المعوليّ للإعاقة، والمبادرة تحت وسم خلا نقرأ، حيث قاموا بتجميع الكتب قبل المعرض، وتوفيرها لذوي الإعاقة، بحضورهم أو من ينوب عنهم، والمبادرة تحت دعم محمّد البرواني للأعمال الخيريّة، وهي تشارك أيضا في معارض عالميّة، فقد شاركت في ألمانيا ودبيّ، وقريبا في الرّياض.
وبطبيعة الحال الحديث عن المبادرات حديث طويل، وما ذكرته هو نموذج لا أكثر، ولكن يهمني هنا أيضا اختيار محافظة جنوب الباطنة كضيف شرف هو اختيار موفق، لما تمثله هذه المحافظة من تنوع جغرافيّ وثقافيّ وفنيّ، إلّا أنني أرجو أيضا أن تنفتح عمان في معرضها الجميل على الدّول الأخرى كضيوف شرف أيضا، لتهاجر الثّقافة، وتتلاقح بالثّقافة العمانيّة المتنوعة والمتعدّدة، ومن جهة أخرى يتعرّف العمانيّ على الثّقافات الأخرى عن قرب، بجانب تعرّفه على خصوصيّاته الثّقافيّة.
ويهمنا أيضا هنا الحديث عن الشّق المعرفيّ الآخر، وهو الكتابات العمانيّة الّتي أصبحت تتدافع بشكل كبير مع الكتابات العربيّة، في الفكر والفلسفة والتّأريخ والمسرح والنّقد والرّحلات والأدب والرّواية والقصّة وغيرها، بجانب كتب التّراث والمباحث الدّينيّة والاقتصاد والقانون والاجتماع وما شابه ذلك، وليس لديّ إحصائيّة دقيقة في الكتب العمانية الجديدة، لكن لا أستبعد أن تقترب من خمسمائة كتاب أو يزيد، وهو عدد جيّد مقارنة بسكان عمان، ويمثل تدافعا معرفيّا جميلت، مهما كان الكم من الكيف، ولكن لا ينتج الكيف المعرفيّ الرّأسي بدون تدافع كمّي.
وهذا ما قلته العام الماضي ونحن نحتفي بقرب افتتاح معرض الكتاب في دورته السّادسة والعشرين: “ولقد كان في العقود السّابقة حضور الكتاب الدّينيّ والتّراثيّ والأدبيّ أكثر بروزا من غيرها من المجالات الأخرى، أمّا في السّنوات الأخيرة برزت الكتابات النّقديّة والتّحليليّة في جميع المجالات، بما في ذلك الفكر والفلسفة والتّأريخ والأدب والسّياسة والاجتماع والتّراث وغيرها، ممّا يمثل نقلة نوعيّة، تجعل من الكتاب العمانيّ مساهما في نشر المعرفة والوعي في المحيط العربيّ والإسلاميّ خصوصا، والإنسانيّ عموما، هذا الحراك يساهم بشكل أكبر في الحفر بشكل رأسيّ في المعرفة، مع نشر الوعي أفقيّا لدى القارئ والباحث والعقل الجمعيّ عموما”.
ولعلّ من الإشادة هنا، لا ننسَ هنا جهود الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، والّتي ساهمت بشكل كبير في دعم الكاتب العمانيّ، فالكثير وأنا منهم شخصيّا أجد من الصّعوبة طباعة الكتاب، لارتفاع تكلفته الماليّة، خصوصا إذا كان هناك مشروع معرفيّ للكاتب يشتغل عليه، وليس كتابا أو كتابين لدراسة أو أطروحة، فهنا الجمعيّة سهلت ذلك للباحث العمانيّ بعد التّحكيم، لتصدر هذا العام أكثر من تسع وأربعين عنوانا في الفكر والدّراسات والتّأريخ والرّواية والأدب والرّحلات والحوارات وغيرها، لتكون إضافة مهمّة للباحث والقارئ العربيّ بشكل عام، لترتفع إصدارات الجمعيّة إلى أكثر من ثلاثمائة إصدار عمانيّ محكّم، رغم عمرها الصّغير.
الحديث عن المؤسّسات الأخرى كالنّادي الثّقافيّ ومركز النّدوة وذاكرة عمان وغيرها وإن قلّت أيضا يطول، ولا أريد أن أظلم أحدا، ولكن هذا من باب التّمثيل وليس الحصر، بيد أنّ العرس الحقيقيّ للمعرض هذا الالتقاء المتكرّر سنويّا مع الكتّاب والمثقفين من داخل وخارج عمان، فكما أسلفت؛ ونحن في الأيام الأولى، أجد حضورا ثقافيّا نوعيّا، فهناك قامات ثقافيّة زائرة ومنها موقعة عديدة، منهم مثلا خالد الجابر وصادق عبّادي وحسن مدن وأحمد فال الدّين وغيرهم كثير جدّا.
كما يجسّد المعرض هذه اللّحمة الكتابيّة والقرائيّة والثّقافيّة والفنيّة في داخل المجتمع العمانيّ، وأحاديث تطول عن القراءة والثّقافة والفنّ، وكأنّك في جنّة معرفيّة عشقها أبو حيّان التّوحيديّ يوما ما، ليعيش فقط مع كتب الجاحظ، وإذا كانت مكّة تجبى إليها ثمرات كلّ شيّ، فمعرض الكتاب يجبى إليه صنوف متنوعة من المعرفة، ومن أصحاب المعرفة، ليعيد سوق صحار وعكاض من جديد، فهنيئا لعمان ولكلّ عاشق للمعرفة وسائح لأجلها هذا العرس الثّقافيّ الجميل، وشكرا لوزارة الإعلام ووزارة الثّقافة واللّجان المنظمة هذا التّطوير الملموس والواضح.