المقالات الإجتماعية

بين إعلام الأمس وإعلام اليوم

جريدة عُمان، 26 جمادى الثّانية 1447هـ/17 ديسمبر 2025م

الإعلام كجانب تواصلي بدأ مع تكوّن التّجمعات البشريّة، فهو لصيق بالإنسان، وتطوّرت وسائله من الإشارة، والتّواصل الشّفويّ، إلى الشّعر والكتابة، ثمّ كان التّحول الأكبر مع اختراع الطّباعة في منتصف القرن الخامس عشر الميلاديّ، ومن ثم في بدايات القرن السّابع عشر الميلاديّ ظهرت الصّحافة في ألمانيا، وفي نهاية القرن السّابع عشر الميلاديّ ظهرت المجلّات في فرنسا، واحتضنت الصّحف والمجلّات الأقلام بتوجهاتها اليمينيّة واليساريّة، والّتي غيّرت مسار العالم بظهور عصر الأنوار بعد عصر النّهضة، وأصبحت الأقلام قريبة من بعضها، وفي النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر اكتشفت الإذاعة، وفي الوقت نفسه اكتشف التّلفزيون، ليحدثا نقلة نوعيّة في الإعلام السّمعيّ والمرئيّ.

هذا كلّه أحدث تحولات في حركة الاجتماع البشريّ، ولازمه تطوّر مراحل التّنوير في المجتمعات البشريّة، لكن النّصف الثّاني من القرن العشرين، وبدايات الألفيّة الثّالثة وحتّى يومنا هذا؛ كان التّحول الأكبر في حركة اجتماعنا البشريّ، لهذا ارتبط الإعلام في هذه المرحلة بتطور حركة العولمة (الكوكبة)، وعاد المصطلح بقوة في تسعينات القرن الماضي، ويرجع بعض الباحثين أنّ العولمة بشكل تطوري بدأت مع بدايات عصر الأنوار، وظهرت مع النّهضة الصّناعيّة، إلّا أنّها ارتبطت العولمة في تحولنا الإعلاميّ الحالي بالفردنة والأنسنة بشكل أكبر.

إذا كانت العولمة هي كوكبة للعالم المتعدّد في عوالمه وانتماءاته السّياسيّة والثّقافيّة (الكوكب أو القرية الواحدة)، وتنوعه الاقتصاديّ والجغرافيّ، إلّا أنّ هذا لم يخرج عن الدّوائر الجمعيّة المؤثرة لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة بدرجة أولى، كان على مستوى الهيمنة بمفهومها الأوسع، أو الهيمنة بمفهومها القطريّ – الوطنيّ -، أو حتّى على مستوى الهيمنة بمفهومها المؤسّسي الضّيق، هذه جميعها كانت تفرض رؤية ثقافيّة معينة، وفق انطلاقاتها الأيدلوجيّة، أو رؤيتها السّياسيّة المحدّدة وفق الواقع، أو نتيجة أغراضها الاقتصاديّة في السّوق العام، فهناك خطوط متناقضة، لكنّها واضحة إعلاميّا بشكل عام، بيد أنّها لا تعطي صورة حقيقيّة مكتملة عن واقع المجتمعات البشريّة، فهناك الّذي لا يُظهَر إعلاميّا لأسباب وأغراض مختلفة، لهذا كانت العديد من المظاهر المجتمعيّة لا تُظهر إعلاميّا، أو لا يسمح لها بالظّهور أصلا.

هذه التّمظهرات الاجتماعيّة المتعدّدة والمتناقضة في الوقت نفسه ظهرت بشكل أكبر مع الإعلام الجديد؛ لأنّه تحرّر من هذه الهيمنة بمفهومها العام، أو بمفهومها المؤسّسيّ الخاصّ، لتتحول الهيمنة ذاتها إلى صور أخرى تختلف عن الصّور التّقليديّة السّابقة، فمن الخطأ اليوم ربط الهيمنة خصوصا بمعنى التّنظيم العام بتقنينات قانونيّة صرفة كما كانت قبل نصف قرن مثلا، حيث واقع تحول الإعلام الجديد يختلف تماما، إذ لا يمكن التّعامل مع هذا الإعلام هيمنة أو تنظيما بالمعنى المؤسّسيّ التّقنيّ الصّرف، بل لابدّ من فهمه والتّعامل معه بالشّكل الفردي الأوسع، فما كان محرما سابقا ظهوره؛ لا يمكن أن يجعل اليوم في دائرة المحرمات؛ لأنّ الواقع الفرديّ يتزايد بشكل أكبر اليوم، لهذا لابدّ من مراجعة مفهوم التّنظيم القانونيّ والمؤسّسي بعقليّة هذه المرحلة واقتضاءاتها الحاليّة، لا بعقليّة المراحل السّابقة.

ما نراه اليوم مثلا في المقاطع القصيرة (ريلز) في إنستغرام أو فيسبوك أو تك توك أو يوتيوب، هو ليس تمردا على الثّقافة الاجتماعيّة، أو تأثرا بثقافات أخرى، هو في الحقيقة جزء من الثّقافة المسكوت عنها، أو لأنّ الإعلام السّابق يتجنّب ظهورها إلّا على خجل، وكلّ من أدرك مرحلة الإعلام السّابق وعاش حتّى في القرى النّائيّة في السّهول وأقاصي الجبال وليس في العاصمة أو المدن الكبرى؛ يدرك تماما أنّ هذه الأشكال الثّقافيّة موجودة في المجتمع بشكل أو بآخر، الفارق أنّ الإعلام السّابق لكونه يحمل هيمنة قطريّة أو مؤسّسيّة خاضعة لقوانين المرحلة السّابقة؛ لا يظهر في الجملة العديد من هذه المظاهر الاجتماعيّة والثّقافيّة، بينما الإعلام الجديد لفردانيّته تحرّر من هذه القيود المؤسّسيّة أو القانونيّة، واستطاع أن يظهر ما كان محرّما بالأمس ظهوره.

لا يمكن لجيل المرحلة الإعلاميّة السّابقة أن يظهر نفسه أنّه كان ملائكيّا، وأنّ ما نراه اليوم في إعلام جيل (Z) تمرد على هذه الملائكيّة، هذا الجيل لا يختلف كليّا عن جيل (Y وX)، أو نسبة الاختلاف بدرجات ليست متباينة بشكل كبير، أقصد على مستوى التّمظهرات الاجتماعيّة، وليس على تطور الوعي، والتّطبيع مع واقع الظّرفيّة الحاليّة، الفارق أنّ جيل (Z) ولد على حالة إعلاميّة فرديّة استطاع أن يعبّر عن ثقافته الفرديّة ما لم يتهيأ ذلك للجيلين السّابقين بصورة فرديّة أكثر حريّة، كما استطاع أن يتلاقح مع ثقافات واسعة ويشاهدها بلا كلفة قطع تذكرة سفر، أو مخيال ما يذكر في الرّوايات والقصص، أو ما يشاهده على الشّاشة الصّغيرة مع ظهور الرّقيب عليها بشكل كبير حينها، فليس هناك تمرّد على ثقافة المجتمع، بقدر ما يوجد تحرّر لظهور ما كان محرّما ظهوره في السّابق.

أمام هذا التّحول الإعلاميّ ينبغي أن يتبعه تحول في التّفكير في التّعامل معه، هذا التّفكير لا يخرج عن واقعيّة المرحلة، مبتعدا عن الأبويّة الملائكيّة، أو عن هيمنة السّلطة المؤسّسيّة الواحدة ذات الصّبغة الشّموليّة، وإنّما ينقله إلى الهيمنة التّدافعيّة، بمعنى خلق التّدافع الإيجابيّ، كما في الواقع تماما، حيث اليوم الجانب الافتراضي يمثل العديد من تمظهرات الواقع بشكل حيّ، وليس عن طريق رمزيّات، أو صور مخياليّة، وإنّما ينقلها كما هي بتناقضاتها، تجاوزت “ما أريكم إلّا كما أرى”، أو أريد أن ينظر إليه من زاوية واحدة فقط، هذه الرّؤية العلويّة تتلاشي شيئا فشيئا أمام رؤى شعبيّة أفقيّة تُظهر الواقع كما هو، لا كما يُراد أن يُرى، هذا الواقع ندرك تماما وجوده، كما ندرك العديد من تمظهراته، وكما يتدافع معه واقعا بشكل طبيعيّ كتدافع الثّقافات والهويّات بطبيعتها، فينبغي التّدافع معه طبيعيّا في الإعلام الافتراضيّ ليتهذّب أيضا، وترك الملائكيّة والأبويّة المبالغ فيها، فلا يخرج التّنظيم عن هذا المقدار المتعايش مع فردانيّة الإعلام الجديد.

السابق
ذاكرة الصّور من المملكة المغربيّة Photo memories from the Kingdom of Morocco
التالي
Between Yesterday’s Media and Today’s Media
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً