نشرت المقالة في كتاب: الشّيخ حسن الصّفار: عالما … مفكرا …. مصلحا [بأقلام عدد من الفقهاء والمفكرين والأدباء]؛ إعداد عبد العظيم حسين الصّادق، ط الانتشار العربيّ، الإمارات – الشّارقة، الطّبعة الأولى، 2022م، ص: 91 – 104.
عرفتُ سماحة الشّيخ العلّامة حسن موسى الصّفار، السّعوديّ موطنا، الإماميّ مذهبا، منذ أكثر من عشرين عاما، وأنا أقرأ في بعض نتاجه العلميّ والمعرفيّ، ثمّ تعرّفت عليه أكثر في الشّبكة العالميّة (الأنترنت) من خلال موقعه على النّت، ثمّ من خلال مقابلاته في الفضائيات، حيث وجدت عالما لا ينظر إلى الآخر المختلف أنّه مختلف عنه، دينا كان أم جنسا أم مذهبا، بل ينظر إليه قبل كلّ شيء أنّه إنسان يشاركه في بناء هذا الوجود، مستلهما من وصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب – عليه السّلام -: “النّاس صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق”.
كما رأيت فيه إنسان الوحدة الإسلاميّة، حيث تجسّدت فيه ليس كعادة الرّسميات الّتي لا تتجاوز حدود المؤتمرات، بل كان مشروعا اشتغل عليه ولا يزال يشتغل – أمدّ الله في عمره – في تحقّقه، وأصدر لذلك العديد من الكتب منها على سبيل المثال: العقلانيّة والتّسامح: نقد جذور التّطرف الدّينيّ، فقد تطرّق فيه إلى موضوعات أكثر جرأة ممّن يتغنى بالتّسامح كحالة إعلاميّة، لا كمشروع وحدوي، ومن هذه الموضوعات مثلا موضوع الخطاب الدّينيّ حيث يركز على حالة الشّعبويّة ومدى خطورتها لأنّها “تثير المشاعر العامّة للنّاس؛ لكونها تتوجه إليهم بطريقة غير منتظمة، تتخطى العقلانيّة والوقائع، وتعمد إلى تضخيم بعض الأمور، للوصول إلى نتائج تناسب الرّغبات أو الأهداف المطروحة”، أي الّتي تلق قبولا جماهيريّا وشعبويّا، فيتم تسويق الخطاب الدّينيّ لهذا الغرض بطريقة بعيدة عن الواقعية والعقلانيّة.
كما تطرّق إلى موضوع التّكفير، وربطه بالهوّيّة الدّينيّة، فيرى أنّ الانتماء الدّينيّ في أصله العام مربوط بثلاث مسارات: المسار الأول حريّة البحث والتّساؤل عن الأسئلة الوجوديّة، ليصل إلى درجة “الاطمئنان النّفسيّ، والاستقرار الفكريّ”، وهنا أشار إلى الرّأي الآخر في قضيّة المرتد، وهو أنّه “يوجب القتل حين يكون التحاقا بمعسكر العدو، أمّا إذا كان مجرد تغيير فكريّ عقديّ فلا يستحق ذلك”.
والمسار الثّانيّ “تأمين المستقبل والمصير الأخرويّ، حيث يعتقد الإنسان أنّ تدينه سبيل خلاصته ونجاته في الدّار الآخرة”، وعليه تكمن خطورة التّكفير هنا أنّه “يكون افتراء على الدّين حينما لا يكون في محلّه، وللنّتائج المترتبة عليه تجاه من يصدر ضدّه”، لهذا في الكتاب يتطرق إلى قضيّة جدليّة وهي: لمن نعيم الجنّة؟، فيرى أنّ العقاب الأخروي ليس مرتبطا بدين أو مذهب، وإنّما مرتبط بإقامة الحجّة وفق العدل الإلهيّ، وهذا يستند إلى الوجدان والبرهان، فأمّا الوجدان باعتبار “أنّ الإنسان بفطرته السّليمة يرفض معاقبة من لم تقم عليه الحجّة”، وأمّا البرهان “فلأنّ ممّا يستقل به العقل هو الحكم بقبح مؤاخذة الّذي لم تصله الحجّة”، وهذا ينطبق مع النّهج القرآنيّ، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء/ 15]، ولهذا يرى أنّ أغلب البشر اليوم قاصرون عن معرفة الحجّة لا مقصرون، “فالعالَم اليهوديّ والنّصرانيّ كالعالَم المسلم، لا يرى حجّة الغير صحيحة، وصار بطلانها كالضّروريّ له”، فصار أغلب النّاس بسبب البيئة وقدراتهم قاصرين لا مقصّرين، والقاصر لا يستحق العقاب.
وهنا مثلا يضرب مثلا بالشّهيد مطهري [ت 1979م] حول المسيحيين [النّصارى]، حيث يقول: “رغم أننا نعتقد بطروء التّحريف عليها – أي المسيحيّة -، لو تنظرون إلى المدن والقرى والرّهبان ورجال الدّين فيها، فهل إنّ كلّ راهب فاسدٌ وإنسان سيئ؟، والله، إنّ بينهم نسبة السّبعين إلى الثّمانين في المائة هم أشخاص أتقياء، يملكون حسّا إيمانيّا وإخلاصا، وكم علّموا النّاس التّقوى، ونشروا الصّلاح والإخلاص والطّهارة باسم المسيح ومريم، ولا ذنب لهؤلاء النّاس، وسوف يدخلون الجنّة، وأساقفتهم كذلك أيضا”.
والمسار الثّالث الحماية الاجتماعيّة، فاختلاف دينه ومذهبه لا يرفع عنه الاعتبار والحماية الاجتماعيّة، “فيتمتع بمكاسب وامتيازات العضويّة”، مرورا “بعصمة دمه وماله، وطهارته، وحمله على الصّحة في أقواله وأفعاله …..”، ولهذا يرى أنّ “نعم الله شاملة ومتاحة [لجميع البشر]، على اختلاف أعراقهم وأديانهم”.
ومن خلال لقائي مع سماحته كما سيأتي ذكره يرى أنّ العديد من المصطلحات ظرفيّة ومنها مصطلح التّكفير، ونحن “لسنا مقيدين كثيرا بالمصطلحات، لو وجدنا أنّ هناك مصطلحا في القرآن وفي السّنة، لكن أصبحت الظّروف غير مناسبة لاستخدام هذا المصطلح؛ لا مشكلة في أن يكون هناك مصطلح آخر، مثلا: نحن الآن حينما نعبّر عن شخص تُوُفّي بأنّه “هلك”، هذا مصطلح سيء عندنا، فلا نقول “شيخ فلان هلك”، بينما القرآن الكريم يستخدم هذه الكلمة في نبي الله يوسف – عليه السّلام – {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر/ 34]، فإذا قد يكون هناك مصطلح في وقت من الأوقات متداول، في وقت آخر تكون هناك ظلال سيئة لهذا المصطلح، نحن لسنا مجبرين على استخدام مصطلح له ظلال سيئة، يمكننا أن يكون عندنا مصطلح جديد”، وعليه ممّا سبق ندرك مدى تأثير التّكفير على الهوّيّة الدّينيّة خصوصا إذا ضاق وترتب عليه إقصاء دينيّ ومجتمعيّ ومدنيّ من جهة، واتّسع في إطلاقه بلا ضوابط من جهة أخرى كما عند بعض الجماعات المتطرفة.
ومن الموضوعات المهمّة الّتي تطرق إليها الكتاب موضوع سننيّة الاختلاف، وربطه سماحة الصّفار بالتّفكير الملازم لعمل العقل؛ لأنّ التّفكير في نظره ينتج اختلافا، لهذا يرى “أنّ البعض يزعجه اختلاف الآراء، ويتمنّى لو أنّ أبناء المجتمع يكونون نسخة واحدة في أفكارهم وآرائهم، لكن الاختلاف نتاج طبيعيّ لعمليّة التّفكير، وإذا أردنا النّاس ألّا يختلفوا في الرّأي؛ فعلينا أن نصرفهم أو نمنعهم عن التّفكير، بأن نحظر عليهم التّفكير، أو نقنعهم بالاعتماد على من يفكر عنهم، وإذا تنازل الإنسان عن التّفكير فقد تخلى عن أهم ميزة لإنسانيته، ويكون حينئذ أسوأ من سائر الحيوانات”.
ويرى “إذا كان التّفكير يؤدي إلى اختلاف الرّأي؛ فإنّ ذلك ليس أمرا سلبيّا سيئا، بل هو أمر مفيد؛ لأنّه يثري المعرفة، ويوصل إلى الرّأي الأفضل، ويبين ثغرات الآراء، وهو ما يدعو إليه الدّين، ويؤكد عليه”.
لهذا ينقد الصّفار بعض المتدينين عندما “يتصوّرون أنّ ما يؤمنون به من أفكار، وما يعرفونه من أحكام، وما يمارسونه من طقوس وشعائر؛ هي حقائق دينيّة صلبة، لا تقبل المسّ والتّغيير، ولا يصح مناقشة شيء منها، ويرون أنّ من يخالفهم الرّأي في شيء منها، فهو منحرف مبتدع ضالّ مضلّ، وقد يخرجونه من الدّين أو المذهب”.
وعليه “إنّ رفض الاعتراف بمشروعيّة الرّأي الآخر، والسّعي لفرض رأي واحد على النّاس؛ هو الأرضيّة الخصبة للتّطرف، ونموّ توجهات القمع والعنف، وهو ما أوصل ساحتنا الإسلاميّة لتفريخ حركات العنف والإرهاب”، “وإنّ رفض أيّ فكرة أو رأي لا ينبغي أن يقود إلى نصب العداوة لصاحب ذلك الرّأي، فلو أطلق إنسان رأيا أو فكرة خطأ وفق تقويمك، فمن حقّك أن ترفض ذلك الرّأي، لكن ذلك لا يعني أن تعادي صاحب الرّأي، أو تتبنى موقفا عنيفا ضدّ مطلق الفكرة”.
وبما أنّ التّفكير حالة ملازمة للعقل؛ لهذا يخصص الصّفار موضوعا مستقلا حول التّلازم بين الدّين والعقل، فيرى أنّ بعض المتديّنين “حينما تناقشهم حول آرائهم وأفكارهم وممارساتهم على ضوء العقل والمنطق؛ يغلقون باب النّقاش والحوار، على أساس أنّ قضايا الدّين تعبديّة، وأنّ دين الله لا يصاب بالعقول”، لهذا “تدور في أوساط بعض المتديّنين أفكار تخالف العقل والمنطق، هي أشبه بالأساطير والخرافات”، “فمن ينتسب إلى الدّين، ويحمل شعاره وعنوانه، ويمارس عباداته وطقوسه، لكنّه غير مستخدم لعقله، ولا مستثمر لفكره؛ فإنّ تدينه سيكون مبتورا ناقصا، بل مشوّها قاتما”.
ويرى “من مظاهر تهميش العقل في أوساط المتديّنين الجمود على فهم الأسلاف للدّين، ولا شك أنّ الظّروف متغيرة، والحياة متطوّرة، والأسلاف فهموا الدّين حسب مستواهم، وضمن ظروف عصرهم وبيئتهم، ونجد أنّ منهجيّة الدّين قائمة على مراعاة التّطوّر، لذلك تجددت الشّرائع عبر الأنبياء، مع أنّ الدّين في جوهره واحد”.
لنجد كتابه السّابق صدورا وهو “الطّائفيّة بين السّياسة والدّين”، يعالج موضوع الطّائفيّة بشكل أعمق وفق كتابات في مناسبات مختلفة، منطلقا من أنّ العلاج يبدأ من الدّاخل، وليس رهين نظرية المؤامرة، لأنّ “محاولات العدو إنّما تحصل وتنجح من خلال المنافذ الموجودة في واقعنا وأوضاعنا، وهي الأرضية الخصبة الحاضنة لبذور الفتنة، الّتي يسقيها وينميها العدو”، وتشتدّ الطّائفيّة عندما يلازمها انسداد سياسيّ يقصي الآخر، ويحجب المشاركة السّياسيّة، مع سياسات التّمييز، وارتفاع العدل بين الجميع، ليلازمه التّعبئة المذهبيّة المؤججة للخلاف والصّراع بين المختلفين في المجتمع الواحد، فتحدث بهذا القطيعة الاجتماعيّة بين أتباع المذاهب كالزّواج والتّزاور والدّفن مثلا.
ويتبع هذا الكتاب كتاب “التّسامح وثقافة الاختلاف: رؤى في بناء المجتمع وتنمية العلاقات”، وإذا كان الكتاب السّابق يركز على الطّائفيّة وهي حالة سلبيّة، فهذا الكتاب يركز على التّسامح، وهي حالة إيجابيّة، منطلقا من معالجة المرض المانع من تحقق التّسامح، متمثلا في العداوة والحسد، ليدخل في أدبيات ثقافة الاختلاف واحترام الآخر، وثقافة الاعتذار وبناء مجتمع متسامح ومتعايش.
بعد هذا التّعارف المعرفيّ، والتّتلمذ على يديه معرفيّا عن طريق كتبه ونتاجه وخطبه، شاء القدر أن يشرّفني سماحته متواضعا في منزلي في ولاية السّيب بمحافظة مسقط، بتأريخ 27 ربيع الثّاني 1439هـ، يوافقه 15 يناير 2018م، لأسجل مع سماحته حلقة حواريّة يوتيوبيّة في قناتي المتواضعة (أُنْس)، بحضور مجموعة من الأخوة الباحثين العمانيين، وكان الحوار حول “تأملات في بعض قضايا التّفكير الدّيني”، ونشر الحوار كاملا في مسارات في ثقافة التّنمية والإصلاح في جزئه العاشر، والّذي ينشره مكتب سماحته في القطيف، وذكر في مستهل اللّقاء علاقته بعمان، فقد جاء إلى عمان وعمره حوالي سبعة عشرة سنة، قائلا: “دعيت إلى الخطابة لإلقاء محاضرات دينيّة، وبقيت أتردد على مسقط من سنة ١٩٧٤م إلى ١٩٧٨م، وكنت أقيم الجماعة والجمعة في مسقط، وألقي المحاضرات في مطرح، والحمد لله بالتّعاون مع مجموعة من الشّباب الواعين من أهالي مطرح، تمّ تأسّيس مكتبة باسم مكتبة الرّسول الأعظم على سطح مسجد الرّسول الأعظم على كورنيش مطرح، وتمّ إصدار نشرة شهريّة بعنوان “الوعي”, ننشر فيها مقالات الشّباب النّاشئين الّذين أسّسنا دورات لتعليمهم على الكتابة والاهتمام الثّقافيّ …. والحمدلله تربى منهم مجموعة من المثقفين الذين استمروا في أفق الثقافة والفكر وأعتبر أن تجربتي في العمل الاجتماعّي نشأت وتأسّست في هذه البلاد الطيبة “سلطنة عمان” وفي مسقط ومطرح بالذّات”.
ومن الابتداء ذكر علاقته التّواصليّة مع الرّموز الدّينيّة والثّقافيّة في عمان، حيث يقول: “وأتذكر على هذا الصّعيد زيارتي للمفتي السّابق للسّلطنة الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ – رحمة الله عليه -، وفوجئت بتواضعه مع أنّي كنت صغيرا في السّن، وكان هو كبيرا وفي مقام المفتي، وله شخصيّته العلميّة، استقبلني بحفاوة وبتشجيع، وأعجبتني جدّا أخلاقه الطّيبة، كما رأيت إحاطته في المجال العلميّ والفقهيّ لآراء المذاهب المختلفة، وأيضا كانت لي علاقة من ذلك الوقت مع مفتي السّلطنة الحاليّ سماحة الشّيخ أحمد الخليليّ – حفظه الله -، واستمرت العلاقة معه من لقاءات في المؤتمرات الّتي كانت تنعقد في الخارج، وكان يشارك فيها، وأنا كنت أشارك فيها، ولا زلت أكن له الكثير من الاحترام لفضله ولعلمه وللفكر التّسامحيّ الّذي يطرحه، أيضا تعرفت آنذاك على فضيلة الشّيخ سالم بن حمود السّيابيّ، وكان قاضيّا في المحكمة في مطرح، وجلست معه في أكثر من لقاء، ودعاني إلى منطقته في عمان الدّاخل، وذهبنا إلى هناك، وكنّا في ضيافته مع مجموعة من الأخوة الشّباب، وأعجبني تواضعه وخلقه وعلمه وأدبه لأنّه كان أديبا، وتعرّفت على ولده الشّيخ هلال والّذي كان في السّلك الدّبلوماسيّ فيما بعد، حينما تعرّفت عليه كان في إدارة المطبوعات، وبعد ذلك أصبح في السّلك الدّبلوماسيّ، وزرته قبل سنوات حينما كان سفيرا في دمشق”.
وفي الحوار تحدّثنا حول جدليات عديدة، وعلى رأسها آلية الجمع بين البراءة والدّائرة الإنسانيّة، فيرى سماحته أنّ “البراءة من أعداء الدّين الّذين يكونون في موقع العداوة، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة/ 8]، ولا يجتمع التبّري مع البِرّ والقسط، وقد استعمل مصطلح “البر” الّذي استعمله مع الوالدين، بر الوالدين، نعم، نحن نفارقهم فكريّا وعقديّا وسلوكيّا فيما يرتبط بالسّلوكيات المخالفة لديننا، أما القيم الإنسانيّة العامّة فهي مشتركة بين أبناء البشر ، وإن كانوا من ديانات أخرى”.
وتطرقنا كذلك إلى رواية الفرقة النّاجية، حيث يرى أنّ حديث “الفرقة النّاجية” فيه “إشكالات كبيرة في سنده , وقد ورد بعدّة إسناد، ولكن لا يوجد سند واحد من الأسانيد الّتي ورد بها هذا الحديث يكون سندا صحيحا معتمدا, وإذا تجاوزنا مسألة السّند, فإنّ هناك إشكالا في المتن, الحديث إذا قرأناه كلّه, وأنّ الفرق كلّها هالكة, أو كلّها في النّار إلا فرقة واحدة, هذا خلاف ثقافة الدّين في إشاعة الثّقة بين أبناء الأمّة الاسلاميّة ببعضهم بعضا, وخلاف ما نقرؤه من سعة رحمة الله سبحانه وتعالى, إذا اعتقدنا بهذا الحديث أنّ كلّ غير المسلمين لا يدخلون الجنّة, وضمن المسلمين لا يدخل من المسلمين إلا فرقة واحدة؛ فما الحاجة إلى جنّة كعرض السّماوات والأرض, لا نحتاج إلى جنّة بهذه السّعة, ولا نحتاج إلى حديث عن رحمة الله بهذه السّعة” أيضا.
كذلك تطرق في الحوار إلى ضرورة “وجود مصالحة بين المسلم وبين العصر الّذي يعيش فيه, المسلم إذا عاش في عصر يتصادم معه في كثير من قضايا الحياة, إمّا أن ينكفئ على نفسه، ويعيش العزلة والانغلاق, وإمّا أن تضطرب وترتبك حياته, نحن نجد في المجال السّياسيّ كثيرا من الدّينيين والإسلاميين كتبوا ضدّ الدّيمقراطيّة، وتحدّثوا ضد الانتخابات, لكن عملا الآن كثير من البلدان الإسلاميّة, وحتّى من تتّجه باتّجاه الحكم الدّينيّ مثل الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران, قبلوا الدّيمقراطيّة كممارسة”.
ثمّ التقينا مرة أخرى في ديوانيّة تجمع الميثاق الوطنيّ لصاحبها الأستاذ أبي عمار نبيل المسقطيّ في دولة الكويت بمنطقة الدّسمة، يوم الثّلاثاء 24 شعبان 1439هـ، يوافقه 8 مايو 2018م، في ندوة مشتركة حول التّسامح، تجربة عمان أنموذجا، وضيوف النّدوة سماحة حسن الصّفار من السّعوديّة، والأستاذ خميس العدويّ وكاتب المقالة من عمان، وأدارها الأستاذ حسن الخواجة من الكويت، وبيّن سماحته في كلمته أنّ “التّسامح اكتسبت في الثّقافة الحديثة معنى أوسع من اللّغة العربيّة والتّراث الإسلاميّ، بحيث تقبل الرّأي الآخر وتعترف به، ولا تعتقد أنّك تحتكر الحقّ والحقيقة، فلك الحق أنّ تعتقد ما تراه حقيقة، ولكن من حق الآخر أيضا له الحقّ أن يعترف به، ويرى أنّ هذا المصطلح شاع في أروبا بسبب هيمنة الكنيسة المتحالفة مع السّلطات الحاكمة في أروبا حينها، فجاء المصطلح لنقل المجتمع الإنسانيّ من الهيمنة والتّعصب الفكريّ والثّقافي والدّينيّ، ثمّ قرر أنّ ديننا وقرآننا يدعو إلى التّسامح والاعتراف بالآخر، وترك الحساب لله؛ لأنّه فرق بين القاصر والمقصّر والمعاند، ومع هذا كفل للجميع حقّ الاعتقاد”، وقد كتبتُ حول النّدوة واللّقاء في الرّحلة الكويتيّة، والّتي أضفتها في كتابي إضاءة قلم، الحلقة الأولى حول التّعايش.
ثمّ التقيت به مرة أخرى في فندق سفير انترناشيونال في الصّفاة بدولة الكويت في ذات الرّحلة صباح الخميس 26 شعبان 1439هـ، يوافقه 10 مايو 2018م، وسجلت معه حلقة حواريّة يوتيوبيّة على قناتي أُنْس حول تأملات في وحدة وإنسانيّة الصّيام، ودوّنتها في الرّحلة الكويتيّة المشار إليها آنفا، وبيّن سماحته فيها “أنّ من رحمة الله تعالى أن جعل شعائر المسلمين موحدة من صلاة وصيام وحج، وهذا الشّعائر توحد المسلمين؛ لأنّهم يتّفقون في فرضيتها، ويتّفقون بنسبة كبيرة في تفاصيلها العمليّة، والخلافات في مسائل فرعيّة ومحدودة، فمن المساوئ أن نترك المشترك الكثير، ونركز على المختلف القليل، والعقل يدعو إلى التّركيز حول المشترك”.
وبيّن أيضا أنّ “الإنسان تكوينا يمر بحالتي جدل: حالة جدل داخليّ؛ لأنّه لا يقرر رأيّا إلا بعد جدل مع نفسه، مع عقله وشهوته، وحالة جدل خارجي بينه وبين الآخرين، إلا أنّ الجدل يكون أحيانا هادفا، كهدف الاستفادة من الآخرين، أو بهدف إفادتهم لفكرة وصل إليها، وهناك جدل غير هادف كجدل الانتصار للذّات، أو استعراض العضلات”.
وحول مصطلح الغزوة والسّبي والجزية المرتبط بواقعة بدر الكبرى في رمضان في السّنة الثّانية من الهجرة، يرى “أنّ المشكلة أنا نريد أن نقرأ أحداث الماضي بلغة وعقليّة وثقافة اليوم، فالمجتمعات البشريّة في مسيرة تطوّر تصاعديّة، فهذه المصطلحات والأحكام وفق بيئة وزمان معين، وللحروب أيضا ثقافات وأعراف يتوافقون عليها حينها بين جميع الأطراف والقبائل، واليوم نعيش عصرا متقدّما فيه منظمات دوليّة لها قوانينها ومواثيقها حول الحروب، فيجب أن نلتزم بها بصيغتها الإنسانيّة المعاصرة”.
ثمّ التقيت بسماحته في منزله في الجزيرة بمحافظة القطيف بالمملكة العربيّة السّعوديّة يوم الأربعاء 4 شعبان 1440هـ، يوافقه 10 أبريل 2019م أثناء زيارتي المعرفيّة إلى البحرين، وحدث بيننا نقاش في قضايا معرفيّة ووحدويّة، وكتبت عن الزّيارة في الرّحلة البحرينيّة المضافة في كتابي إضاءة قلم، الحلقة الثّانية حول التّعارف.
وآخر لقاء مع سماحته وفق تأريخ كتابتي لهذه المقالة أنّه شرفنا في جلسة حواريّة معه على قناتي اليوتيوبيّة (قناة أُنْس) حول المثقف وإنتاج المعرفة الدّينيّة، بتأريخ 23 ربيع الأول 1442هـ/ يوافقه 9 نوفمبر 2020م، عن طريق برنامج ZOOM، وحضرها جمع جيّد من عمان وخارجها، وقضيّة ربط المثقف بالمعرفة الدّينيّة نجد القليل من تطرق إلى هذا المبحث، وهو مادّة خصبة للدّراسة وفق ما يمكن تسميته بالمثقف الدّينيّ.
وكما يرى سماحته أنّ المؤسّسة الدّينيّة تنطلق “من مناهج تعليميّة تتمحور حول النّص الدّينيّ، وغالبا ما تكون هذه المناهج تقليديّة متوارثة”، لهذا تبالغ “في الحرص على الأصالة والموروث الدّينيّ”، ومراعاة الأعراف، لذا يكون “انفتاحها محدودا على تطوّرات الحياة، ومعطيات العلوم الحديثة”، فهي تعيش “هموم المجتمعات القديمة، وبلغة العصور السّابقة”، لهذا ظهر في العصر الحديث “شريحة من الأكاديميين في مختلف التّخصصات العلميّة، ومن حملة المعارف، والمهتمين بقضايا الثّقافة والمجتمع”، فأصبح هناك مزاحم ومنافس للمؤسّسة الدّينيّة في الاهتمام بالمعرفة، وإنتاجها بشكل عام، ولهذا المثقف اليوم أمام طريقين: “إمّا الابتعاد عن الاهتمام بالشّأن الدّينيّ، وتركه لأهله”، “أو التّصدي لإنتاج ثقافة دينيّة مختلفة، وممارسة دور النّقد للمؤسّسة الدّينيّة ونتاجها المعرفيّ، ممّا يدخله في صدام مع جمهورها العريض”.
لهذا يدعو سماحته للخروج من هذا يتمثل في “المنافسة الإيجابيّة مع المؤسّسة الدّينيّة”، مقترحا عدّة وسائل، منها الانفتاح على مصادر المعرفة الدّينيّة، والتّواصل مع المؤسّسة الدّينيّة، من خلاله يقدّم نقده وتقويمه ومقترحاته، والتّصدّي لإنتاج معرفة دينيّة؛ لأنّ نتاجه “سيكون إضافة نوعيّة مهمّة للسّاحة الفكريّة والاجتماعيّة”.
خلاصة ما تقدّم ندرك أنّ سماحة الشّيخ حسن الصّفار وهو العالم الفقيه، والمفكر الحر، لمّا يتحدث يتحدّث عن تجربة حياة مليئة بالمراجعات والتّأمل ونقد الذّات، كما أنّه لا يتحدّث وهو في مكتبه منعزلا عن النّاس، فهو اجتماعيّ واسع الخلطة بالنّاس، حيث أنّه خطيب ورمزيّة دينيّة وثقافيّة اجتماعيّة، له مشاريعه الاجتماعيّة والثّقافيّة، ويعتبر الرّمزيّة الشّيعيّة الأكثر حضورا في السّاحة الخليجيّة عموما، “بجانب له مبادرات عمليّة في الذّهاب إلى الآخر وزيارته، كزيارته لسماحة الشّيخ عبد العزيز بن باز [ت 1999م]، مفتي المملكة العربيّة السّابق، وأكبر قامة علميّة سلفيّة في العقود الأخيرة، وسماحة المفتي الحالي للمملكة الشّيخ عبد العزيز آل الشّيخ، كما زار شخصيّات علميّة أخرى كالشّيخ عوض القرني [معاصر]، ومعالي الوزير السّابق محمّد عبده يماني [ت 2010م]، والمفكر إبراهيم البليهي [معاصر]، وغيرهم كثير”، وله زيارته إلى الرّموز الدّينيّة في عمان كما أسلفنا، فضلا عن العالم الإسلاميّ، ورموز ممّن يشتركون معه في المّذهب، ولم يقتصر حضوره مع الرّموز الدّينيّة التّقليديّة، بل له حضور واسع مع المثقف والباحث والعالم من كافّة الأطياف والتّوجهات الفكريّة والمعرفيّة.
كلّ هذا أعطى لسماحة أفقا واسعا في قراءة الآخر، والنّظرة إليه، ولمّا زرت مكتبته في القطيف رأيت فيها من الكتب المعاصرة والعلميّة والدّوريّات وكتب الأديان، فهي منفتحة على الجميع فكرا ودينا ومذهبا، لهذا أرى سماحته ابتداء مدرسة فكريّة مستقلة، قبل أن يكون منضويا تحت الخطّ الإسلاميّ في المدرسة الإماميّة، له آراؤه المستقلة، وتجديده الفكريّ، ونقده الموضوعيّ المنطلق من نقد الذّات قبل الغير.
بيد أنني أيضا أرى الحسّ الإنسانيّ والوحدويّ ملازما لسماحته، فهو إنسانيّ في تعامله مع النّص الدّينيّ من خلال مدرسة الأنسنة من حيث التّأويل، أي بمعنى حضور النّزعة الإنسانيّة في تعامله مع تأويل النّصّ الدّينيّ، وتجاوز أمر التّطبيقات الفقهيّة العمليّة إلى مراجعاته حتّى العقديّة، كالولاء والبراء، والحكم على المختلف بالجنّة والنّار.
بجانب الحسّ الوحدويّ الشّموليّ من حيث الجنس البشريّ، والهوّيّاتيّ من حيث المدارس والمذاهب الإسلاميّة، والقطريّ الإجرائيّ من خلال الدّولة الوطنيّة القطريّة الواحدة، فهو ينطلق دائما من مفردة الوحدة بين الجميع تحت مظلّة الذّات الإنسانيّة الواحدة، وما ينطبق على ذلك من مصاديق قيم العدل والمساواة والحريّة، ليؤسّس العديد من المفردات الإيجابيّة كالحوار والتّعايش والتّسامح، كما يعالج العديد من المفردات السّلبيّة كالطّائفيّة والتّطرف والتّعصب والإقصاء.
لهذا من الجميل أن يحتفى بسماحته، نظير ما قدّمه من جهد كبير في خدمة المجتمع الإنسانيّ عموما، والمجتمع الإسلاميّ خصوصا، وأن يعنى بالمفردات الإيجابيّة الّتي قدّمها في علاج ما يمر به العالم الإسلاميّ خصوصا من نفرة وتضادّ وتكفير وتطرف، وما يأمله الجيل المقبل أن يعيش عصرا أكثر تنورا وتقدّما، يعني بذاتيّه كإنسان، قبل أي هوّيّات أخرى كسبيّة ينتمي إليها.