المقالات الإجتماعية

دور التّعدّد الثّقافيّ في بناء مجتمع عمانيّ متعايش: عُمان أنموذجا

ضمن المشاركة في ملف التّنوع الثّقافيّ في عُمان … نموذج التّسامح والوحدة الوطنيّة على جريدة عمان

من إعداد فيصل العلويّ، 18 نوفمبر 2024م

المجتمعات بطبيعتها ليست على صورة واحدة، فلا يوجد هناك هويّة ثقافيّة واحدة بالمعنى الحرفيّ، نعم، قد تشترك في خيوط جامعة بينها، لكنّها من حيث الابتداء متباينة فيما بينها، ومنها المجتمع العمانيّ، فهو ليس على صورة وهويّة واحدة، ويعود ذلك إلى أسباب مختلفة، منها تباين التّضاريس في عمان، فمن البحر إلى السّهل والجبل والصّحراء والبادية والواحات، كما أنّ الانفتاح البحريّ في عمان، وفرت للعمانيين سهولة الهجرة والانفتاح على الخارج منذ القدم، فانفتحوا على حضارات بين الرّافدين والسّند وفارس وشرق آسيا، وأجزاء كبيرة من أفريقيا، كما حدثت هجرة عكسيّة أيضا إلى عمان، وامتزجت في المحيط العمانيّ، فكما أنّ هناك قبائل مهاجرة إلى الخارج، ولا زال لها وجود في المناطق الّتي أشرنا إليها، هناك من القبائل من استقرت في المحيط العمانيّ أيضا، وأصبحت جزءا من الهويّة العمانيّة الجامعة من حيث الانتماء الكلّي والمواطنة.

هذا جميعه شكّل لوحة ثقافيّة متباينة ومتعدّدة في عمان، فهناك لغات مختلفة، من الكمزاريّة والشّحريّة والمهريّة والبطحريّة والحرسوسيّة والبلوشيّة والأورديّة والفارسيّة والهنديّة السّنديّة وغيرها، بجانب اللّغة العربيّة الأم، وهي اللّغة الجامعة بين الكل، وهناك أيضا لهجات متباينة ومتعدّدة في عمان داخل اللّغة العربيّة نفسها، لها جماليّتها الصّوتيّة، ولها خصوصيّاتها المعجميّة.

كما شكّل لوحة جميلة من التّعدّديّة الثّقافيّة في العادات والتّقاليد، بما فيها الفنون المختلفة، المرتبطة بالأفراح والأعراس والمواسم الدّينيّة وسفر البحر والحجّ ومواسم الأعياد وغناء الأطفال والرّكبان، فضلا عن التّعدّدية في الملبوسات والمطعومات وبعض طرق الحياة وتقاليدها.

أيضا الانفتاح الّذي عاشته عمان بسبب البحر والهجرة سابقا، وبسبب العمل والسّياحة حاليا؛ أوجد تعدّديّة دينيّة ومذهبيّة، كما أنّ الانفتاح الفكريّ والمعرفيّ اليوم أوجد تعدّديّة معرفيّة وفكريّة، فنحن اليوم أمام فضاء مفتوح افتراضيّا وواقعيّا، فطبيعيّ أن تهاجر إلينا بعض الثّقافات المعاصرة، وهذا يعطي تنوعا ثقافيّا أيضا في الوقت ذاته.

كذلك التّأريخ الّذي مرت به عمان، وحضورها لآلاف سنين مضت، أوجد تعدّدية ثقافيّة في العمارة والمخطوطات والآثار البنائيّة، كالحصون والقلاع والأفلاج والقبور والأسوار والأدوات المعدنيّة والنّحاسيّة والفخاريّة والصّناعات التّقليديّة والخطوط والنّقوش وغيرها، فضلا عن أدوات الرّعي والبحر والتّنقل ونحوها.

التّعدّديّة الثّقافيّة ليست حالة سلبيّة، هي حالة طبيعيّة، منها ما تنقرض أو تضمحل، ومنها الّتي تهاجر إلى الخارج وتتفاعل مع مجتمعات أخرى، ومنها ما يُستقبَل لتتفاعل مع مجتمعاتنا، وتتثاقف مع هويّاته، ومن الثّقافات والهويّات ما تتثاقف داخل المحيط ذاته، فتندمج مع بعضها، أو تشكل هويّة وثقافة جديدة.

لهذا التّعدّديّة الثّقافيّة في البلد الواحد كما أنّها تعطي لوحة جماليّة، فالجمال في التّعدّد والتّنوع؛ هي في الوقت ذاته تعطي ثراء سياحيّا واقتصاديّا إذا ما أحسن استثماره، فالسّياحة الثّقافيّة لا تقل أهميّة عن السّياحة الطّبيعيّة، كانت سياحة فنيّة أم دينيّة أم ثقافيّة معرفيّة، أم كانت سياحة في الثّقافة بمفهومها الواسع والمتعدّد، ولا يقتصر هذا عند المتاحف والمهرجانات، بل هي حالة طبيعيّة يجدها السّائح من الخارج، والسّائح من أبناء الوطن ذاته، كما أنّها تخلق فرص عمل جديدة، وتشجّع على نمو واستقرار الاقتصاد الوطنيّ، حيث كثرة السّياحة بشكل عام، والسّياحة الثّقافيّة بشكل خاص، تعطي حراكا سوقيّا واقتصاديّا في المجتمع، على مستوى الفنادق والمطاعم وسيارات الأجرة والمترجمين والقائمين بالتّعريف السّياحيّ، وعلى مستوى الشّركات الصّغيرة والمتوسطة بما تقدّمه من خدمات، ثمّ على مستوى الثّقافة ذاتها، لتتحوّل إلى عنصر متحرك مرتبط بالنّفعيّة الفرديّة والجمعيّة.

في المقابل التّعدّديّة الثّقافيّة تعطي مادّة خصبة للسّينمائيّ والفنّان والكاتب والأديب والمترجم، فحضورها مادّة خصبة في الأفلام والسّينما والمغنى والشّعر والأدب والرّواية والقصّة، وتفتح أفقا واسعا للباحث والمفكّر والفيلسوف، ويجدها خصبة أيضا المهتم بالتّوثيق والإعلام، والمعنيّ بجماليّة تعدّد الثّقافات، فتهاجر معنويّا إلى الخارج بسبب الأفلام الوثائقيّة والسّينمائيّة والغنائيّة، ويقرأها العالم عن طريق الأدب بأنواعه، وعن طريق الصّورة، والتّحليلات الكتابيّة، خصوصا إذا ما ارتبطت بالتّرجمة إلى لغات مختلفة، فهذا يشجّع أيضا على معرفة البلد وثقافاته، وتسويق ذلك في الفضاء الخارجيّ، ممّا يشجّع على السّياحة، وكما أسلفنا هذا له أثره في  دعم الاقتصاد الوطنيّ.

كلّ ما ذكرناه سلفا له قيمتان مهمتان: القيمة الأولى تحقّق النّاحية الجماليّة، والقيمة الثّانيّة تحقّق النّاحية التّعايشيّة والتّسامحيّة، فإذا كان الجمال في التّنوّع، فكذلك الوحدة كامنة في التّعدّد، فكلّما كانت المجتمعات أكثر تعدّد كانت أكثر تعايشا إذا ما أدركت أنّ تعدّدها ثقافيّا لها صورة جماليّة، وهو انعكاس لوحدة ذاتها، فترتبط المواطنة بذات الإنسان الواحدة، وارتباطها بهذه الذّات يجعلها تحترم تعدّديّتها الثّقافيّة، وفي الوقت ذاته تستثمره إيجابا في الأبعاد الوطنيّة والاستثماريّة والسّياحيّة.

وعمان تحقّق فيها هذا لثلاثة أبعاد: الأول البعد الذّاتيّ والتّأريخيّ الّذي خلق في أفرادها بعدا انسجاميّا متقبّلا للآخر وثقافته وخصوصيّاته،  من ذلك ما ذكره زكريا المحرمي في مقالته في مدونته “عمان من التّسامح إلى الانسجام” أنّ المبشر الإنجليزيّ ويليام جيفورد بالجريف (ت 1888م) في زيارته لعمان عام 1863م قال عن العمانيين: “هم بطبيعتهم دون أدنى شكّ، حسب خبرتي بهم، الأفضل سَجِيّة، والأحْسن مَعْشَرا، والأكثر أنسا، من جميعِ الأجناسِ العربيّة، التسامحُ بأقصى درجاتِه التي لا تُوجدُ حتّى في أوربّا، مَكفولٌ هنا لكلِّ الأجناسِ، والدّياناتِ، والعادات، المسلمون واليهودُ والمسيحيّون والهندوس جميعُهم يعبدون اللّه بحرّيّة حسب معتقداتِهم، ويلبسون ما يشاؤون حسبَ عاداتِهم، ويمارسون الزواج ودفنَ الموتى، والمواريث، حسبَ تقاليدِهم الخاصّة دون قيد، أو إزعاجٍ، أو مَنْع”.

والبعد الثّاني تسامح سلاطينها مع المختلف، أسقط ذلك على باقي شرائح المجتمع، فلم يعهد عنهم تأريخيّا استبدادا في هذا الجانب، كما ذكر هلال الحجريّ في كتابه “عمان في عيون الرّحالة البريطانيين” أنّ الرّحالة جيمز ريموند ويلستد في حكومة السّيد سعيد بن سلطان (ت 1273هـ/1856م) من سلاطين دولة البوسعيد، وذلك لمّا زار عمان عام 1833م حيث يقول: “إنّ أهم ما تتسم به حكومة هذا الأمير – أي سعيد بن سلطان – هو بعدها عن ضروب القمع والاعتقال العشوائيّ، وسعة صدرها لكلّ المعتقدات، وتسامحها معها، وإبداؤها الكرم واللّطف الكبير لتجار أيّ بلد يفدون إلى مسقط ويقيمون بها”.

والبعد الثّالث البعد القانونيّ، فقد وقفت عمان موقفا صارما لكلّ من يثير النّعرات الدّينيّة والمذهبيّة والقبليّة، ومن يسئ إلى الثّقافات الأخرى، وهذا بدوره أعطى اطمئنانة أحدثت شيئا من الاستقرار الدّاخليّ، وبمرور الوقت تحوّل إلى ثقافة تعايشيّة وتسامحيّة، فهذه الأبعاد الثّلاثة عموما أوجدت مجتمعا متسامحا من داخله، وهذا لا يعني عدم وجود مؤثرات سلبيّة حاليّة، لكنّها ليست بتلك الصّورة الكبيرة، وفي الوقت نفسه يجب قراءاتها وتفكيكها حتّى لا تتحوّل إلى ظاهرة تؤثر سلبا في الاجتماع التّعايشيّ والسّلميّ في عمان.

السابق
سبيطلة والمراجعات المعرفيّة الإنسانيّة
التالي
العيد الوطنيّ وتحدّيات المستقبل
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً