أدار الحوار الصّحفيّ المصريّ حسن عبد الموجود، عدد (25)، الخميس 13 رجب 1445هـ/ 25 يناير 2024م، ص: 11 – 13.
حسن عبد الموجود: لماذا يذهب الكتّاب العرب غالبا إلى النّسيان بعد وفاتهم؟
بدر العبريّ: هذه المسألة ليست عامّة بالجملة، فهناك من الكتّاب العرب المنسيون في حياتهم قبل مماتهم، وهناك من يشتهرون بعد وفاتهم، ولكن بالجملة نسبة النّسيان هي الأغلب عندنا، لأسباب منها تعود إلى الجانب الإجرائيّ الرّسميّ ذاته، ومنها ما يعود إلى المؤسّسات الثّقافيّة، ومنها ما يعود إلى الكاتب ذاته، فأمّا الّذي يعود إلى الجانب الإجرائيّ الرّسميّ؛ فلا زال ينظر إلى الكاتب والباحث وما ينتجه من إبداع ونتاج، خصوصا في الإنسانيّات؛ ينظر إليه بصورة سطحيّة، سواء على مستوى المادّة، أو على مستوى الوقت، فكثير من الكتّاب المبدعين، والباحثين المنتجين يعانون من الوضع الماديّ، الّذي يجعلهم يضعون أعمالهم الكتابيّة والبحثيّة أقرب إلى الهامش في حياتهم، ممّا يشغلهم عن الظّهور، أو إظهار إبداعهم وترويجه، وبالتّالي يبقى في دائرة النّسيان، وهذا يقود أيضا إلى هدر أوقاتهم في توفير ضرورات حياتهم، فلا نجد الدّولة القطريّة مثلا في منظومتها تفريغ وتعريف – على الأقل – من وصل في دائرة الإبداع والعمق النّتاجيّ في المعرفة، وهذا ذاته تشجيع للسّائرين في ذات الطّريق، وفق رؤية واستراتيجيّة واضحة.
وأمّا الّذي يعود إلى المؤسّسات الثّقافيّة فهي كثيرا ما تعاني من الشّلليّة البرجماتيّة، فالشّلليّة بالمفهوم الطّبيعي التّعاونيّ حالة صحيّة وطبيعيّة في المجتمعات الإنسانيّة، لكن الشّلليّة البرجماتيّة الّتي تحصر العمل الثّقافيّ والإبداعيّ في ذوات معينة ومتكرّرة، ولو كانت أقل إبداعا وعمقا من غيرها؛ فهي حالة غير صحيّة، وتؤدّي ليس إلى تهميش آخرين، بل إلى نسيانهم، وإلى تهميش جوانب إبداعيّة عديدة لأنّها خارج نشاط اهتمامها، كذلك أيضا العديد من هذه المؤسّسات الثّقافيّة إشكاليّتها عندما تتقمّص دور الحكومة أكثر من الحكومة ذاتها، وخصوصا لما تُحصر في أفراد ليس همّهم العمل الثّقافيّ، بقدر ما يكون همّهم الظّهور، والرّغبة في كسب مناصب أعلى، أو الاستمرار في كراسي هذه المؤسّسات، فتهمش من له رؤية ناقدة أو الأقل محايدة لسلطات المجتمع أيّا كانت، ولأنّ الإبداع والعمق يولد وفق الرّؤية المستقلّة والنّاقدة؛ يجعل هذا بالضّرورة تهميش ونسيان العديد من المبدعين من الكتّاب والباحثين.
وأمّا الّذي يعود إلى الكاتب ذاته؛ يجعله يستسلم لهذا الواقع، وأحيانا فقط يكون ردّة فعل تذمريّ للواقع لا أكثر، فلا يبحث عن فضاءات أخرى تفتح له حضورا أكبر، خصوصا في واقعنا اليوم الّذي أصبح مجال الإبداع مفتوحا وفق التّقنيات المعاصرة، والقدرة على السّفر، والبحث عن واقع يظهر فيه نتاجه وإبداعه، فيرضى بواقعه السّلبيّ، ليجعله في دائرة النّسيان.
حسن عبد الموجود: كيف يمكن إحياء الأعمال المهمّة للكتّاب الرّاحلين، وكيف يمكن للمؤسّسات الثّقافيّة الرّسميّة والأهليّة استعادة أسمائهم وتعريف الأجيال الجديدة بإسهامهم؟
بدر العبريّ: بداية علينا أن نخرج من دائرة الاحتفاء إلى جانب الدّراسة والنّقد، فكثيرا ما يرحل عنّا كاتب أو باحث يحتفى به حين تأبينه ثمّ يصبح في طيّ النّسيان، وحتّى هذا الاحتفاء غالبا ما يكون مزدوجا حسب الشّلليّة البرجماتيّة كما أسلفت، كما أنّ النّقد وإن كان الأولى في حياته، لكنّه لا يتوقف بعد مماته، هذا النّقد يجعل الأمور في مسارها الطّبيعيّ، فبعض الكتّاب ما تركه لا يتجاوز النّسخ واللّصق والتّكرار، فلا جديد قدّم، ولا قديم نقد، ولكن لاعتبارات أسريّة أو دينيّة أو منصبيّة أو شلليّة يُجعل من العظماء، والعكس صحيح، فالعديد من المبدعين لا يلتفت إليهم حتّى على مستوى الاحتفاء، على أنّه لا مانع من الاحتفاء بالجميع من حيث الابتداء، ولكن دون مساومة على المعرفة، فيجعل كلّ شيء في موضعه، على أنّ تكريم المفكر والباحث والكاتب لا يتوقف عند الاحتفاء به حيّا أو ميتا، بل عند نقد فكره والبناء عليه، وهذا يقود إلى الشّق الثّاني من سؤالك، وهو ما يتعلّق بالمؤسّسات الثّقافيّة الرّسميّة والأهليّة، حيث هي من تعنى في الاهتمام بهذا التّراث أو النّتاج الّذي تركه الرّاحلون عنّا، من حيث حفظه والتّعريف به، ودراسته ونقده والبناء عليه، ليكون مادّة حاضرة للأجيال، كما أنّ الإبداع فيه لابدّ من نشره لأقطار أوسع، مع ترجمته ليصل إلى عوالم أكبر، وهذا ردّ لبعض جميلهم، وحسن صنيعهم.
حسن عبد الموجود: لك تجربة في غاية الأهميّة، وأقصد دورك في إحياء دور الكاتب العمانيّ الرّاحل صادق جواد سليمان، من خلال كتاب وفعاليات، لماذا فكرت في صادق جواد سليمان تحديداً وهل يمكن أن تكرّر التجربة مع آخرين؟
بدر العبريّ: لعل صادق جواد سليمان (ت 2021م) يمثل حالة تطبيقيّة لما ذكرناه سابقا، وهو يعود إلى ذاته لم يدّون أفكاره مع عمقها، وكان قريبا من شخصيّات فكريّة دوّنت كسهيل بشروئي (ت 2015م) وطه جابر العلواني (ت 2016م) ومحمّد شحرور (ت 2019م) وصبحي غندور (ت 2023م) وغيرهم، عدا مقالات متناثرة رفض بذاته طبعها في كتاب عدا في آخر حياته، والأصل أن تصدر هذه المقالات وما دوّنته من حوارات قبل مماته لولا سبق الأجل، وهذه المقالات جمّعها الأستاذ سعيد بن سلطان الهاشميّ، والأصل أن تصدر تقريبا عام 2016م، ولمّا أخبرت الهاشميّ برغبتنا في طباعتها مع الحوارات الّتي جمعتها أخبرني برفض صادق سابقا، فذهبت إلى صادق جواد، فأبدى موافقته، بل وبذاته راجع الحوارات وأثنى عليها، كما أنّ المرحوم صبحي غندور الّذي رحل عنّا قريبا، قد جمّع مقالات صادق جواد منذ نهاية التّسعينيّات من القرن الماضي، وأخبرني بنفسه، وهو صديق حميم لصادق جواد، أنّ صادق جواد كان رافضا لطباعتها، ولكن الأجل هنا سبق صبحي غندور أيضا فلم تطبع، ولا نعرف مصيرها الآن، خصوصا أنّ ما جمّعه الهاشميّ كان في السّنوات الأخيرة لصادق جواد.
وما جعلني اهتم بفكر صادق جواد سبق أن ذكرته في كتابي الإنسان والماهيّة، وفيه قراءة كاملة لفكره، ففكره يمثل حالة إنسانيّة متقدّمة في عمان، بل والوطن العربيّ، ويمثل حالة إنسانيّة واسعة وناقدة، ولتجربته السّياسيّة والتّأمليّة العميقة، ولثقافته الواسعة.
وأمّا عن الاشتغالات الأخرى فقد اشتغلت أيضا على تراث العلّامة عامر بن خميس المالكيّ (ت 1928م)، ويمثل حالة فقهيّة وعلمائيّة مهمّة، كما اشتغلت على تراث ابنه القاضي سعود بن عامر المالكي (ت 1982م)، وطبعت في ثلاثة كتب حتّى الآن، ولي اشتغال حاليا بمجلّة الغدير وجهود الشّيخ أحمد الفلاحيّ حولها.
مع خالص التقدير