مجلّة نسور عمان، وزارة الدّفاع – عمان، عدد (44)، ديسمبر 2023م، ص: 36 – 39.
يعيش العالم الإنسانيّ اليوم وفق دول قطريّة، ذات بعد إجرائيّ، ووفق منظومة حقوقيّة إنسانيّة واحدة، ومواثيق دوليّة متعارف عليها، هذه الدّولة القطريّة لها حدودها الجغرافيّة المرسومة، لكنّها لطبيعة الاختلاف التّكوينيّ والكسبيّ ليست ذات هويّة واحدة، بل ذات هويّات متباينة ومتعدّدة.
فهناك الاختلاف المناطقيّ، من الجبل إلى السّهل، ومن تنقلات البداوة إلى تجمعات الحضر، ومن بساطة القرى إلى تعقد المدن، هذا الاختلاف المناطقي ينتج عنه اختلاف في اللّهجات والعادات والتّقاليد ، وطبيعة الأكل واللّباس والفنون، كما أنّ الإنسان بعد ولادته يكسب من بيئته مفردات لغته، وعقائد دينه، وطقوس مذهبه.
هذه الهويّات المتباينة حالة صحيّة في المجتمعات الإنسانيّة عموما، وفي الدّولة القطريّة خصوصا، بها يتشكل جمال لوحة الوجود، وبها يدرك الإنسان الجمالَ الإلهيّ، ولو أراد الله لخلق النّاس على صورة واحدة، وجعلهم يعيشون وفق دين ومذهب واحد، لكنه شاء أن يجعلهم مختلفين، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 – 119].
كما أنّ بناء الوجود، وإصلاح الأرض قائم على الاختلاف، ولو كانوا على صورة واحدة لفسدت الأرض، فمن الاختلاف في المواهب والميولات والقدرات؛ استطاع الإنسان عمارة الأرض، وكشف سننها، وتسخيرها في خدمة الإنسان، كما أنّ هذا الاختلاف لا يستغنى عنه وظائفيّا، فهناك من هو معنيّ بالعقل والمعرفة والبحث، وهناك من هو معنيّ بالحدود والجيش وحفظ الأمن، وهناك من هو معنيّ بالاقتصاد والاستثمار والتّجارة، ولهذا قيل قديما: الوحدة والقوّة في التّنوع، فكلّما كانت الأمّة أكثر تنوعا؛ كانت أكثر قوّة وثراء في مختلف الجوانب.
لهذا ليست الإشكاليّة في الاختلاف؛ وإنّما الإشكاليّة في الخلاف، فهناك من يريد أن يجعل النّاس على صورة واحدة، عرقيّة أو دينيّة أو مذهبيّة، هذا يؤديّ إلى الصّراع، وهو من أكبر أسباب الحروب والفساد في الأرض، كما أنّ هناك من يلغي الآخر، أو لا يعتني به، ولا يستثمر الاختلاف الكامن فيه، فهذا يؤدّي إلى الاستبداد، وحرمان الآخر من حقوقه الطّبيعيّة لخصوصيّات هويّاتيّة، فينتج عنه السّخط، كما ينتج عنه الضّعف الأمنيّ والاستثماريّ والاجتماعيّ.
وفي السّابق كانت الأرض فضاء واسعا للإنسان، يستطيع الإنسان بخصوصيّاته العرقيّة والدّينيّة والمذهبيّة والثّقافيّة الانزواء بها بصورة أكثر انشراحة، وأمّا اليوم فالعالم متداخل، والخصوصيّات مكشوفة، والمنافع متداخلة، والعالم جغرافيّا محدود بدول إجرائيّة قطريّة.
لهذا أصبحت المواطنة حالة ضروريّة لاستقرار الدّول القطريّة وتقدّمها؛ لأنها تقوم على بُعدين: ماهيّة الأنسنة، والتّعدّيّة العوالميّة، فأمّا ماهيّة الأنسنة هي المقابلة لتعدّد الهويّة، أي كما أنّ التّعدّديّة والاختلاف حالة تكوينيّة وكسبيّة طبيعيّة، إلّا أنّ هذا تكوينا يتكوّن في ماهيّة واحدة، وكسبيّا ينطلق من ماهيّة واحدة، بمعنى أنّ المواطنين في الدّولة القطريّة من حيث الابتداء متساوون في ماهيّتهم، لا فرق بين أبيض وأسود، ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين مسلم وغير مسلم، ولا بين عربيّ وعجميّ، جميعهم من حيث الابتداء على ماهيّة إنسانيّة واحدة، وهي الّتي عبّر عنها القرآن الكريم بالنّفس الواحدة، أو كما يرى بعضهم بالفطرة الواحدة.
ويرى صادق جواد سليمان (ت 2021م) أنّ “للحقوق منظومتان: منظومة حقوق الإنسان، ومنظومة حقوق المواطنة، وبالنّسبة للأولى ليست لأيّ دولة معينة، فهي عالميّة لها مواثيقها وأدبيّاتها، ولا يصح لأيّ دولة التّدخل فيها، وإنّما عليها الموائمة من خلال المرجعيّة العالميّة، وأمّا حقوق المواطنة فيدخل في هذه الدّولة، ولهذا نجد حقوق المواطنة تختلف من دولة إلى دولة، عكس حقوق الإنسان، والمعادلة كلّما كانت حقوق المواطنة وافية من حيث تلائمها مع حقوق الإنسان كلّما كانت أقرب إلى الإنسان وحقوقه وكرامته، فعلى الدّول أن تنظّم حقوق المواطنة في تلائم مع حقوق الإنسان؛ لأنّ حقوق الإنسان أكثر سعة”، وحقوق الإنسان هنا بمعنى تماثلها مع الماهيّة الإنسانيّة المشتركة بين البشر جميعا.
وأمّا بُعد التّعدّيّة العوالميّة، فالتّعدّديّة كما أسلفنا حالة طبيعيّة، تكوينيّة كانت كاللون أم كسبيّة كالعادات والتّقاليد، إلّا أنّ هناك أيضا عوالم نعيشها في الدّولة القطريّة الواحدة، فنحن لا نعيش في عالم واحد، وإنّما في عوالم أحيانا متباينة، وقد تتباين في الأسرة الواحدة، فأنت إذا خرجت من بيتك تجد عوالم من النّاس، كل في فلك يسبحون، فهناك العشرات في المساجد والملاعب والأسواق والمطاعم والسّينما والمزارع وعند السّاحل والأماكن الثّقافيّة، ونحن كذات نشكل نقطة بسيطة من هذه العوالم المتعدّة والمعقدة في الوقت نفسه، أكثر من كونها هويّات فقط متباينة.
فكيف إذا خرجت من محدوديّة الدّولة القطريّة إلى فضاء الإنسان، تجد من العوالم المتباينة جدّا، فالحالة الإنسانيّة ليست حالة بسيطة، بل هي حالة شديدة التّعقيد، ومتداخل بشكل كبير إلى حدّ التّشابك المعقد في هويّاته وخصوصيّاته وعوالمه.
لهذا دولة المواطنة هي من تستطيع الجمع بين البُعدين، فمع انطلاقتها من الماهيّة الواحدة، وفق النّزعة الفردانيّة المشتركة كما يرى جون لوك (ت 1704م) أنّها تتمثل في “حقّ الحياة، وحقّ الامتلاك، وحقّ الحريّة”، إلّا أنّها قائمة أيضا على استثمار الهويّات والعوالم المتباينة بما يخدم الجميع، على مستوى الدّولة القطريّة، وعلى مستوى المجتمع الإنسانيّ ككل.
فدولة المواطنة تنطلق في دساتيرها وأمورها الإجرائيّة من المساواة إلى العدالة، فلا يمكن تحقّق العدالة بعيدا عن المساواة، كما أنّ المساواة تؤدّي تلقائيّا إلى العدالة، والمساواة تتماثل في بُعد ماهيّة الأنسنة، بمعنى الكلّ متساون في الحقوق والواجبات، والعدالة تتماهى مع بُعد التّعدّيّة العوالميّة، والمبنيّة على الكفاءة ومراعاة الفوارق باعتبار الأهليّة والقدرات، وليس باعتبار الهويّات والخصوصيّات، فالعدالة لا تعني إلغاء الآخر، ولا تنطلق من المحسوبيّات والرّغبات الذّاتيّة، ولكنها باعتبار المساواة تجعل الجميع سواء في الاستفادة منه وفق قدراته الذّاتيّة وإمكاناته الإبداعيّة.
وهذا كما يؤدّي إلى الأمن المجتمعي، والاستقرار القطريّ، والرّضا الاجتماعيّ؛ يؤدّي أيضا إلى خلق تقدّم اقتصاديّ واستثماريّ في الدّولة القطريّة، واليوم لم يعد العالم يتحدّث عن الاستثمار الصّناعيّ والماديّ فحسب، فهناك اليوم الاستثمار الثّقافيّ والدّينيّ والرّياضيّ والتّراثيّ والسّياحيّ والفنيّ، لهذا كلّما كانت الدّولة أكثر تعدّديّة هويّاتيّة؛ كانت أكثر قدرة على خلق حالة استثماريّة متنوّعة في البلد، وبالتّالي خلق الوظائف وتدوير المال، ممّا يعزّز الاقتصاد الوطنيّ ككل.
فالاستثمار السّياحيّ مثلا ينمو بشكل كبير إذا وجد في الدّولة القطريّة تنوّعا جغرافيّا، وتعدّدا ثقافيّا وديّنيّا وفنيّا، فضلا عن توفير بيئة حرّة لخلق إبداع سياحيّ يناسب جميع العوالم المتباينة، في الفنون والاستجمام والبحث والمعرفة.
فعُمان مثلا مهيأة بشكل كبير في الجانب السّياحيّ، ففيها تعدّديّة واضحة، من البحار والجبال والسّهول والوديان، وفيها تمايز مناخي، بجانب التّعدّديّة الهويّاتيّة في الفنون والموسيقى والملابس والعادات والتّقاليد، فضلا عن التّراث من تعدّد المساجد والأضرحة والقلاع والحصون والأماكن الأثريّة القديمة، هذا ممّا يساهم في رؤية عُمان 2040.
لتحقيق هذا لابدّ أن يفقه العقل الجمعيّ دولة المواطنة، وأنّها لا تتصارع مع هويّاته وخصوصيّاته، بل تحافظ عليها، وتمنع الآخر من التّعدّي عليها أيضا، ولكنّها في الوقت نفسه تجعل الجميع متساوين في الحفاظ على هوّيّاتهم وخصوصيّاتهم، وتستثمر تعدّديّتهم في خدمة المجموع على حدّ سواء، وإلّا حدث الصّراع والتّنافر كما يرى البرت أينشتاين [ت 1955م] في مقالته المنشورة 1934م “أنّ الجميع يسلّمون بأنّ الأغلبيّة تعامل الأقليات – على الأخص عندما يتسم أفرادها بعلامات بدنيّة مميزة – معاملة الكائنات الأدنى مرتبة، ومأساة هذا القدر لا تقتصر على المعاملة غير العادلة الّتي تتعرض لها الأقليات اقتصاديّا واجتماعيّا، بل أنّ المأساة الحقيقيّة لهؤلاء المنكوبين هي وقوعهم أنفسهم بالتّأثير الإيحائي للأغلبيّة فريسة لنفس هذا التّحيز، فيعتدون ويعتبرون أنفسهم كائنات أدنى مقاما، وهذا الشّر الوبيل يمكن مداواته عن طريق تنمية الرّوابط، وتربيتها تربية هادفة، وهكذا تنال الأقليات تحرّرها الرّوحيّ” .