التّجربة العمانيّة في التّعايش والتّسامح من أقدم التّجارب الإنسانيّة، فهي ليست وليدة اليوم؛ بل هي عميقة الامتداد في التّأريخ العمانيّ، منذ بداية الحضارة، وبداية الإنسان في هذا البلد الطّيب.
وهذا لا يعني عدم وجود ما يعكر هذا التّعايش، ولكن غالبه كان بسبب الخلاف القبليّ والسّياسيّ، ولم يسجل ما يعكر ذلك بسبب الخلاف الدّينيّ أو المذهبيّ أو الاختلاف الجنسيّ.
ولظهور التّعايش والتّسامح كقيمة مجتمعيّة أسباب على رأسها الجانب الفقهيّ المتسامح في الجملة، والّذي وجد بيئة سياسية تحتضنه.
وفي هذا البحث المتواضع، وبطلب مبارك من الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء للحديث حول التّسامح الفقهيّ في عمان، حيث حاولت التّركيز على التّسامح داخل المدارس الفقهيّة في عمان كدراسة وصفيّة سريعة، مع إسقاط ذلك على الحراك التّعايشيّ في عمان في الماضيّ والحاضر، وربطه بالجانب السّياسيّ، وأثر ذلك على العقل المجتمعيّ، راجيا أن أكون قدمت شيئا للمعرفة الإنسانيّة أولا ثمّ العربيّة والعمانيّة ولو شيئا بسيطا.
كتبه: بدر بن سالم بن حمدان العبريّ
ليلة الثّلاثاء 17 أكتوبر 2016م.
الموالح/ محافظة مسقط
المطلب الأول: خطوط عامّة للتّسامح الفقهيّ في عمان
أولا: مفردة التّسامح في التّعريف اللّغويّ والفقهيّ العمانيّ وتأريخيتها.
مفردة التّسامح بالمعنى المعهود حاليا لا نجدها في معاجم الّلغة عند العمانيين من حيث الأصل لأنّها لفظة متطورة في مصطلحها، وجاءت في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيديّ ت 170ه بمعنى المساهلة، فالمسامحة في الطّعان والعدو أيّ مساهلة، ورمح مسمّح أي مثقّف مليّن[1]، ولم اهتدِ إليها في كتاب جمهرة اللّغة[2] لابن دريد ت 321هـ.
وجاءت في المصادر غير العمانيّة نحو كتاب مختار الصّحاح للّرازيّ ت 660هـ، وفيه يذكر قريبا ممّا قاله الخليل أنّ المسامحة المساهلة، وتسامحوا تساهلوا، وفيه زاد أنّ السّمح والسّماحة بمعنى الجود أيضا[3]، وسبق الرّازيّ في جملة كلامه ابن فارس ت 395هـ في مجمل اللّغة[4].
وبيّن البستانيّ ت 1883م أنّ التسامح مصدر تسامح، وفي عرف العلماء استعمال اللّفظ في غير حقيقته بلا قصد علاقة مقبولة ولا نصب قرينة دالّة على ذلك، اعتمادا على ظهور الفهم في ذلك المقام[5].
أمّا بمعنى احترام عقائد الآخرين أيّ كتعريف له حده ومنتهاه فإنّي أراه متأخر ا ولا يكاد يستخدم بهذا المعنى لغويّا أو فقهيّا اصطلاحيّا، ويرى بعض الباحثين أنّ استخدامه بمعنى حريّة المعتقد يعود إلى القرن السّابع عشر الميلادي في أوربا[6].
ويرى هادي حسن حموديّ[7] أنّ هذه الألفاظ معانيها متداخلة وإن لم تستخدم بمعنى مصطلح اليوم، فالتّعارف أن يتأثر بعضهم ببعض، جاءت من (العرف) بفتح العين، وهو الرّائحة الطّيبة، والتّعايش يعني أن يساعد بعضنا بعضا في العيش، وأمّا التّسامح فأن يكون (س) متسامحا مع (ص) فيما يجوز فيه السّماح والتّسامح، أي أن يتسامح عن أخطاء يمكن التّجاوز عنها، ولاحظ أنّ (التّجاوز) من الصّيغة ذاتها[8].
ولفظة التّسامح لم ترد في القرآن الكريم، فهي لم ترد بهذه اللّفظة، ولكن جاءت بمعنى العفو كقوله تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ}[9]، وجاءت بمعنى الصّفح في قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}[10]، وجاءت بمعنى حريّة المعتقد في قوله سبحانه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[11]، وجاءت أيضا بمعنى التّعايش المجتمعيّ والحضاريّ في قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[12]، وجاءت بمعاني أخرى أيضا عديدة كالتّعارف وحريّة الطّقوس، والحفاظ على دور العبادة أيّا كانت، والجدال بالّتي هي أحسن.
أمّا التّسامح في الأثر فقد جاء بمعنى التّساهل، ومنه رواية: رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى[13].
عموما لفظة التّسامح كمفردة كما هي متداخلة؛ هي في الوقت نفسه متطورة حسب الاستعمال وتطوره الزّماني تقعيدا وتأصيلا.
ثانيا: التّعدد الدّينيّ والمذهبيّ في عمان.
عُمان تتميز بميزتين متناقضتين سابقا، الجانب البحريّ المنفتح على حضارات كبرى كحضارة الصّين وفارس والهند وما وراء النّهر، وجانب جبليّ منغلق على نفسه، وبعيد في الوقت نفسه عن مراكز الخلافة الإسلاميّة.
هذان البعدان سيولدان تعددا دينيّا في المنطقة، ويجعلهما أكثر تسامحا بسب الخلطة والمنافع الدّنيويّة، ولاشتراكهما في الأرض الواحدة، وهذا بدوره سيسقط على نتاج الجميع من خلال الفكر أولا، ومن خلال السّلوك التعامليّ ثانيا.
من هنا وجدت في عمان تيارات فقهيّة فعندنا المدرسة الإباضيّة ثمّ المدرسة السّنيّة، وغالب المدرسة السّنيّة شوافع فقها، ثم بنسبة أقل الأحناف، يليهم بدرجات قليلة المالكيّة والحنابلة.
والأغلبيّة من المدرسة السّنيّة غلب عليهم التّصوف، فكانت الزّوايا الصّوفيّة منتشرة عند الشّوافع خصوصا، إلا أنّها قلّت حاليا، وبدأ بعض أفراد المدرسة السّنيّة يميل إلى السّلفيّة.
كذلك عندنا الشّيعة الإماميّة وهم منتشرون كأقليّة على السّاحل كمطرح وبعض سواحل الباطنة.
وهناك بسبب التّجارة كان البانيان (الهندوس) والمجوس بنسب قليلة، كما وجد أيضا اليهود إلى فترات متأخرة جدا.
أما النّصارى (المسيحيون) فبعض الباحثين يميل إلى وجودهم في عمان قبل الإسلام، حيث يرى سالم بن حمد الحارثيّ ت 1427هـ أنّ العمانيين قبل البعثة كانوا على الدّين المسيحيّ[14]، ولكن هل استمر وجودهم أم لا، ولأي فترة، هذا يفتقر إلى البحث العلميّ، أمّا كسياحة وخلطة وتجارة فكان لهم وجودهم، وفي الفترات الأخيرة كانت الحملات التّنصيريّة، إلا أنّها لم تحقق أهدافها في الجملة، وتوجد لهم في عمان بعض الكنائس، كما يوجد للبانيان معابدهم ومحارق موتاهم.
كذلك اليوم بسبب التّجارة والتّجنيس يوجد بعض الأفراد من الذّكريين[15] والأحمديين (القاديانيّة)[16] والبهائيين[17] وهم أقرب إلى الأفراد القلائل جدا،وليسوا على شكل جماعات.
عموما العمانيون في الجملة مسلمون متعايشون بين طوائفهم، ولكن أيضا متعايشون لمن استقر معهم بسبب التّجارة، أو من زارهم بسبب السّياحة، وهؤلاء ولو كانوا من دين آخر، إلا أنّ التّعايش الإنسانيّ ظاهر جدّا كما سيأتي في المطالب التّاليّة.
المطلب الثّانيّ: قراءة في التّسامح الفقهيّ بين المدارس الثّلاثة في عمان
أولا: التّسامح في الفقه الإباضيّ العمانيّ.
تعتبر المدرسة الإباضيّة في عمان من أكثر المدارس تأليفا في الجانب الفقهيّ مقارنة بغيرها من المدارس الإسلاميّة في القطر العمانيّ، وفي الجملة توجد نصوص مبكرة تدل على التّسامح الفقهيّ في عمان، سواء كانت مع المدارس الإسلاميّة، أو حتى مع الأديان والملل الأخرى.
ومن هذه النّصوص انفتاحهم على المدارس الأخرى في الصّلاة خلفهم، فيقول الأزكويّ (توفيّ في أواخر القرن الثّالث الهجريّ أو بدايات القرن الرّابع الهجريّ): لا بأس من الصّلاة خلف قومنا في الجمعة وغيرها[18].
ويبين الأصمّ ت 631هـ الجواز بصورة أكبر حيث يقول: وقد أجاز المسلمون – أي الإباضيّة – الصّلاة خلف من يفرد الإقامة، ومن يسر لبسم الله الرّحمن الرّحيم، وخلف من يرفع يديه في الصّلاة بالتكبير، ومن يسلّم مرتين، ولم يروا ذلك زيادة ولا نقصانا؛ لأنّهم أجمعوا على أنّه إنّما تجوز الصّلاة خلف من لا يزيد فيها ولا ينقص منها، وهذه الخصال الأربع لا نعلم أنّ أحدا من المسلمين قال فيهنّ بنقض على من صلّى خلفه على ذلك[19].
وأصبحت من قواعد المدرسة الإباضيّة منذ فترة مبكرة: إذا دعوا إلى الصّلاة أجبناهم، وإذا دعوا إلى قتل النّفس المحرمة فارقناهم[20].
وما حدث من تعصب وتشدد وخلاف في بعض الأحيان فقد أرجعه إبراهيم بن سعيد العبريّ ت 1975م إلى سبب ضعف الخلطة[21] وما ينتج عنها من جهل وفرقة، لذا بين أنّه كثرت اليوم الخلطة، وخفت النّفرة، واجتمع بعضنا ببعض، فلا يناسب ذلك الا اتباع ما عليه السّلف ممّا ذكرناه أيّ من الألفة والصّلاة خلف بعض، وجواز الصّلاة معهم، والاقتداء بأئمتهم فيها جمعة وجماعة، حيث أقاموها في أماكنهم وجوامعهم، ولا نرى الامتناع والتّخلف عنهم؛ لأنّ الصّلاة عبادة لله، والدّعاء إليها دعاء إلى الله، فيا قومنا أجيبوا داعي الله، ولا تتخلفوا فتتخالف قلوبكم[22].
وبما أنّه تجوز الصّلاة والخلطة فيها، سيتحقق بذلك تعايش وتشارك في الحياة، كالتّداخل في الزّواج والمعاملات الماليّة، وفي جميع القضايا الحياتيّة، سواء بين المدرسة الإباضيّة والسّنيّة؛ بل وحتى بين المدرستين والمدرسة الشّيعيّة الإماميّة.
كذلك كان التّسامح الفقهيّ مع اليهود والنّصارى والمجوس والبانيان، والّذين شاركوا العمانيين ردحا من الزمن في وطنهم، وشاركوهم في معاملاتهم، وهذا ما سقط على عامة الناس وأفرادهم، وفي هذا يقول روبرت بنينج الّذي توقف في مسقط عام 1850م في طريقه من بلاد فارس إلى سيلان حيث يقول: أعجب مما عجبت منه هو الاحترام الكبير الذي يكنه مسلموا هذه البلاد – أيّ العمانيين – لذلك اليهوديّ[23].
وكذا الحال مع النّصارى والبانيان والمجوس، ومن ذلك فتوى وجهت لعامر بن خميس المالكيّ ت 1280هـ بشأن التّعامل مع النّصارى والبانيان والمجوس حول الأدوية والأشربة الّتي تشترى من النّصارى أو البانيان، مختوما عليها مائعة أو جامدة حيث قال: أمّا المائعات المختومة من النّصارى والبانيان أهل الذّمة ففي الحكم هي طاهرة، ولا بأس بها، والمجوس هم عبدة النّار، وأحسب أنّ البانيان منهم[24]، والله أعلم[25].
وقاس الفقهاء الإباضيّة المجوس والبانيان على حكم أهل الكتاب لكثرة الخلطة وهذا ما أفتى به ابن عبيدان ت (بعد 1104هـ) قاضي الإمام سلطان بن سيف اليعربيّ ت 1680م حيث أفتى في البانيان في صحار وهم من الهندوس بأنّهم يسن بهم سنة أهل الكتاب قياسا على المجوس، لعليّة عبادة غير الله، فالمجوس يعبدون النار وهؤلاء يعبدون الأوثان والبقر فالحكم واحد[26].
كلّ هذا ولّد تسامحا واستقرارا دينيّا لفترة طويلة من الزّمن، حيث لم يسجل بسببها صراع دينيّ في عمان في جملة تأريخها.
ثانيا: التّسامح في الفقه السّنيّ العمانيّ (الشّافعيّ والحنفيّ مثالا)
تعتبر المدارس السّنيّة بمختلف أطيافها الفقهيّة في عمان مقلّة في التّأليف، أو لم يحفظ أتباعها مؤلفات فقهائها وعلمائها، وخاصة ما يتعلق بجانب الفتاوى الفقهيّة، إلا أنّ التّسامح والتّعايش الحاليّ والتّأريخيّ يدل دلالة كبيرة على الفكر التّسامحي عند فقهاء هذه المدارس، سواء فيما بينها، أو فيما غيرها من المدارس والأديان الأخرى.
ووجدت نصّا قديما لحبيب بن يوسف الفارسيّ الصحاريّ المسقطيّ ت 1276هـ بشأن إمام مالكيّ يصلي بأناس بعضهم شافعيّ المذهب، وبعضهم مالكيّ المذهب، فهل يجب عليه مراعاة مذهب من يصلي خلفه من الشّافعيّة أو لا[27]؟ وحبيب من المدرسة الشّافعيّة، وبين الشّافعيّة والمالكيّة خلطة في شمال عمان.
فكان من جوابه الّذي يدل على تسامحه في آراء المدرسة المخالفة له فقها إذ يقول: أمّا المسألة الأولى فنحن ما نخوض فيها؛ لأنّ مبحثها فقه السّادة المالكيّة، فليراجع في ذلك عالم مالكيّ ثقة[28]، حيث احترم أصل المسألة، وأصل من يرجع إليها وخصوصيتها.
ومن المعاصرين فتوى عبد العزيز العوضيّ الشّافعيّ[29] مذهبا أيضا، فقد سُئِلَ أنّه نسافر لبلدان ﻻ نجد فيها مساجد لأهل السّنة كي نصلي فيها الجمعة وصلاة الجماعة، وإن طالت المدة فهل نصلي في السّكن؟ فأجاب: المسلم من أيّ مذهب فقهيّ إسلاميّ إذا سافر أو أقام في أيّ بلد في الأرض فيجب عليه أن يؤدي صلاة الجمعة والجماعة في أيّ مسجد من مساجد المسلمين، ويصلي خلف إمام المسجد الرّاتب من أيّ مذهب إسلاميّ من المذهب الثّمانيّة المعتمدة عقديّا وفقهيّا، وهي مذاهب أهل السّنة الأربعة (الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة) والإماميّة الجعفريّة والإباضيّة والزّيديّة والظّاهريّة[30].
وقال في الجواب أيضا: أمّا المسلمون فجميعهم سنة بمذاهبهم الأربعة أشعريتهم وسلفيتهم وأخوانيتهم وصوفيتهم وشيعة وزيديّة وإباضيّة، كلّهم مسلمون موحدون، الله جل جلاله ربهم، و الإسلام دينهم، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلّم نبيهم، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة[31].
وبالنسبة للأديان الأخرى يقول العوضي: ﻻ يجوز للإنسان أن يستهزئ أو يسخر بإنسان آخر مسلما كان أو كافرا من أهل الكتاب أو ملحدا، ﻻ في خلقته، وﻻ في دينه ومعتقده[32].
ومن النماذج المنفتحة في المدرسة الحنفيّة في عمان حاليا سعود الزدجالي[33]، حيث نادى بأهمية التّسامح تحت ظلّ القانون والدّولة المدنيّة، واهتم بنقد الذّات ومنه نقد المدرسة السّلفيّة والمدرسة السّنيّة عموما كنقده للمدارس الأخرى، بما يرجع التّسامح والتّعايش إلى هذا الدّين برفض التّطرف وتعريته وتفنيده[34].
ولهذا نخلص أيضا أنّ المدرسة السّنيّة بتياراتها الفكريّة والعقديّة منفتحة أيضا على التّسامح بين إخوانها من المدارس والتّوجهات في مجتمعنا العمانيّ.
ثالثا: التّسامح في الفقه الجعفريّ (الإماميّ) العمانيّ.
يكثر الشّيعة في عًمان بين أهالي المدن السّاحليّة وخصوصاً بين التّجار، كما يوجد فئة تسمى (خوجه أو لوتيّ) وهي فئة من الشّيعة نشأت في مدينة حيدر أباد في السّند، وهي موجودة في مطرح منذ عدة أجيال، وتعيش معظم أبناء هذه الطّائفة في مدينة مستورة منفصلة ضمن مدينة مطرح، ولها مسجدها الخاص على الشّاطئ[35]، كما يوجد من الشّيعة من قبائل أخرى كالبلوش والعجم والبحارنة وأفراد من قبائل أخرى ممن تأثر بالتّشيع.
ومن علماء الشّيعة العمانيين القدامى الأصولي والفقيه ابن أبي عقيل العُمانيّ (تُوفّي قبل سنة 369 ه) ويعتبر من منظري المدرسة الأصوليّة عند الشّيعة الإماميّة والّذي عاصر ابن الجنيد[36] ت(ق4) الملقب بالإسكافيّ، ويعبّر عنه وعن ابن أبي عقيل العمانيّ بـالقديمَين[37]، واستطاع الشّيخ المفيد (محمد بن محمد بن النّعمان) ت 413هـ تلميذ الإسكافيّ تطوير مدرسة القديمين لتدخل دور التّصنيف الأصوليّ في المدرسة الإماميّة[38].
عموما المدرسة الشيعيّة الإماميّة في عمان كانت متسامحة أيضا مع إخوانها من المدارس الأخرى، وكانت لهم القوة التّجاريّة قديما وحديثا، فمطرح ومسقط وسداب[39] مثلا تميزت بالتّناغم بين الشّيعة الإماميّة والسّنة والإباضيّة، وسر هذا التّناغم والتّجانس يظهر جليا من خلال تعايشهم ومحبتهم لبعضهم منذ القدم وحتى هذه السّاعة، وهو بذاته يحتاج إلى بحث ودراسة مستقلّة كتجربة عمليّة في التّأريخ الإنسانيّ فيما بينهم ومن وشاركهم من الأديان والملل الأخرى لكونها مناطق ساحليّة، وفي الوقت نفسه تعتبر من المدن التّجاريّة بسبب الميناء التّجاريّ.
هذا التّسامح شاركه الرأيّ الفقهّيّ المتسامح حتى اليوم عند مفكري وفقهاء الإماميّة، ولكون المصادر القديمة شحيحة لندرتها بالنّسبة للشّيعة العمانيين، إلا أنّ الكتّاب الشّيعة المعاصرين بينوا كأسلافهم أهمية التّسامح والوحدة الدّينيّة بين المدارس الإسلاميّة، وأهميّة الحفاظ عليه في مجتمعنا العمانيّ، يقول مشتاق بن موسى اللّواتيّ[40]: وهنا لابدّ من التّنويه، إذا كان مجتمعنا العمانيّ بكل أطيافه واتجاهاته يستظل بالتّسامح الدّينيّ والمذهبيّ، ويرفل بالتّآلف المجتمعيّ، بحيث غدا بحق أنموذجًا يشهد له كلّ زائر أو دارس من قريب أو بعيد، فإنّ هذا يفترض أن يضاعف من مسؤولياتنا في المحافظة على هذا الوئام والانسجام وتوريثه للأجيال القادمة[41].
ويقول في أهميّة نشر رسالة التّعدديّة والتّسامح الدّينيّ في البيت الإسلاميّ عموما: لقد بات ضروريّا إحلال مبادئ ومفاهيم وقيم كرامة الإنسان وحقوقه والمواطنة المتكافئة، وسيادة القانون، واستقلال القضاء ونزاهته، واحترام التّعدد الدّينيّ والمذهبيّ، والتّنوع الفكريّ والثّقافيّ، وبما يتوائم مع مرجعياتنا الفكريّة، بدل ثقافة التّعصب، وهجر المخالف لنا، وعدم الاعتراف به[42].
ويحث عباس آل حميد[43] المرجعيات الشّيعيّة العلميّة إلى توحيد كلمة المسلمين، ونبذ الفرقة من خلال التواصل الإيجابيّ الفاعل مع علماء ومفكري ودعاة بقية المذاهب الاسلاميّة[44].
ويدعو آل حميد إلى ضرورة إقرار الوحدة والانطلاقة الإنسانيّة بين النّاس جميعا لتحقيق مبدأ التّعايش حيث يرى أنّ الناس ينتمون جميعا إلى أصل بشريّ واحد، ويشتركون في حقيقة واحدة، وهي الإنسانيّة، وهم جميعا متساوون في تكوينهم وطبيعتهم كبشر، يعيشون في هذه الحياة، ويشتركون في المشاعر والميول والقابليات والاحتياجات الأساسيّة للفطرة[45].
نخلص ممّا سبق أنّ أتباع المدرسة الإماميّة في عمان لها نظرتها الفقهيّة والفكريّة المتسامحة أيضا مع المدارس والأفكار والمناهج الأخرى.
المطلب الثّالث: أثر التّسامح الفقهيّ في عمان
أولا: أثر التّسامح الفقهيّ مع الأديان في عمان.
كما رأينا سابقا أنّ العمانيين تعايشوا مع أجناس من أديان متعددة، ومنهم من استوطن عمان، واتخذها بلدا له، ولم يغير دينه، ومنهم من دخل الإسلام اقتناعا لا جبرا، ولم يسجل التّأريخ أيّ حادثة إجبار لتغيير الدّين.
فالهندوس (البانيان) تعايشوا مع العمانيين منذ فترة مبكرة، وكانت لهم معابدهم، ولهم الأماكن الخاصّة لممارسة شعائرهم في حرق الموتى، وكذا بالنّسبة للمجوس واليهود، أمّا النّصارى فلهم حتى اليوم كنائسهم، ويمارسون فيها طقوسهم بكل حريّة، يقول المبشر الإنجليزي ويليام جيفورد بالجريف ت 1888م في زيارته لعمان عام 1863م قال عن العمانيين: هم بطبيعتهم دون أدنى شكّ، حسب خبرتي بهم، الأفضل سَجِيّةً، والأحْسن مَعْشَرًا، والأكثر أنسًا، من جميعِ الأجناسِ العربيّة، التسامحُ بأقصى درجاتِه التي لا تُوجدُ حتّى في أوربّا، مَكفولٌ هنا لكلِّ الأجناسِ، والدّياناتِ، والعادات، المسلمون واليهودُ والمسيحيّون والهندوس جميعُهم يعبدون اللّه بحرّيّةٍ حسبَ معتقداتِهم، ويلبسون ما يشاؤون حسبَ عاداتِهم، ويمارسون الزواجَ ودفنَ الموتى، والمواريثَ، حسبَ تقاليدِهم الخاصّة دون قيدٍ، أو إزعاجٍ، أو مَنْع[46].
ويقول روبرت بنينج الذي توقف في مسقط عام 1850م في طريقه من بلاد فارس إلى سيلان: أعجب مما عجبت منه هو الاحترام الكبير الذي يكنه مسلمو هذه البلاد – أي عمان – لذلك اليهوديّ، إذا أنّي ما وجدت قطّ مسلما من قبل يبدي من الاحترام أدناه لأحد من جنس هذا اليهوديّ[47].
فهذا التّسامح مع أبناء الدّيانات الأخرى من أسبابه النّظرة الفقهيّة المعتدلة والمتسامحة مع المخالف سواء داخل المدرسة الإسلاميّة من حيث تعدد مذاهبها، أو مع الأديان الأخرى، ممّا أسقط تعايشا استمر لفترة طويلة من الزّمن.
ثانيا: أثر التّسامح الفقهيّ مع السّائح والتّاجر الأجنبيّ.
كما وجد التّسامح في التّعدديّة الدّينيّة والمذهبيّة ممّن اشترك في الوطن، وصار جزءا منه؛ أيضا كان التّسامح مع التّاجر والسّائح والّذي يأتي للبلاد لأسباب متعددة، كان الغالب في السّابق للتّجارة، وقد يأتي لأسباب أخرى كأسباب دينيّة تبشيريّة، أو أسباب اكتشافيّة جغرافيّة، وزاد اليوم معدل المجيء لأسباب السّياحة والتّرفيه.
وهؤلاء الّذين يأتون لأسباب كهذه من القدم وجدوا تسامحا دينيّا كبيرا وإن اختلفوا دينا، وفي هذا يقول المستشرق جون أوفنجتن الّذي زار عمان عام 1693م: إنّ هؤلاء العرب على قدر كبير من دماثة الخلق، يظهرون لطفا وكرما كبيرين للغرباء، فلا يحتقرونهم، ولا يلحقون بهم أذى جسديا، وهم على تشبثهم الثّابت بمبادئهم، والتزامهم الرّاسخ بدينهم؛ لا يفرضون تلك المبادئ وذلك الدّين على الآخرين، كما أنّهم لا يغالون بالتّمسك بها مغالاة تجرّدهم من إنسانيتهم، أو من حسن معشرهم، فالمرء يقطع في بلادهم مئات الأميال دون أن يتعرض للغة نابيّة، أو لأيّ سلوك فج[48].
ويقول الرّحالة البريطانيّ وليام هيود الّذي زار عمان عام 1816م عن العمانيين: وهم في غاية التّسامح، كما أنّهم، على حدّ سواء، بسطاء في تصرفاتهم، وقليلا ما يفرّقون في تعاملهم مع الدّيانات الأخرى[49].
والعديد من هؤلاء الّذين زاروا عمان لأسباب اكتشافيّة أو تجاريّة أو سياحيّة استوطنوا عمان لإعجابهم بالخلق العمانيّ، ومنهم دخل الإسلام طوعا لا عن إكراه، وهذا له علاقة بالنّظرة الفقهيّة المعتدلة، الّتي أسقطت أثرها على عامّة النّاس.
ثالثا: أثر التّسامح الفقهيّ في التّعامل السّياسيّ.
كما أنّ للفقه أثره على العامّة من النّاس؛ أيضا ظهر انسجام مع السّياسة في الجانب التّسامحيّ ليعطيه أكثر قوة، حيث لم تفرق السّياسة بين أحد من أبناء المجتمع على اعتبار المذهب أو الدّين في الجملة، ومثل هذا ما ذكره السّالميّ ت 1332هـ عندما أراد الغزاة البرتغاليون توقيع الصّلح مع العمانيين في عهد الإمام سلطان بن مرشد ت 1091هـ /1680م أول إمام للدّولة اليعربيّة، كان من شروطهم إرجاع جميع أوقاف الشّيعة الإماميّة في صحار[50]، والّتي أخذت بغير حق، مع أنّ الدّولة كانت فقها على المدرسة الإباضيّة.
كما أنّ التّسامح كان صورة واضحة في تعامل سلاطين عمان وملوكها، وهذا ما شاهده مثلا الرّحالة جيمز ريموند ويلستد في حكومة السّيد سعيد بن سلطان ت 1273هـ/1856م من سلاطين دولة البوسعيد، وذلك لما زار عمان عام 1833م حيث يقول: إنّ أهم ما تتسم به حكومة هذا الأمير – أي سعيد بن سلطان – هو بعدها عن ضروب القمع والاعتقال العشوائيّ، وسعة صدرها لكل المعتقدات، وتسامحها معها، وإبداؤها الكرم واللّطف الكبير لتجار أيّ بلد يفدون إلى مسقط ويقيمون بها[51].
ويسجل الرّحالة الأمريكيّ إدموند روبرتس شهادته عندما زار عمان عام 1833م حيث يقول: كلّ الديانات في مناطق نفوذ السّلطان، يعامل أتباعها بتسامح شديد، وليس هـذا فحسب؛ بل تقدم لهم الحماية الكافية بأمر من السّلطان، ولا توجد أية عقبات تمنع النّصارى واليهود، أو غيرهم من ممارسة شـعائرهـم الدّينيّة، أو بناء معابدهـم[52].
هذا التّسامح الدّاخليّ أسقط تسامحا في علاقته مع الخارج، خاصة في التّعامل السّياسيّ، فكانت العلاقة رائعة مع الدّولة البوذيّة في الصّين وشرق آسيا، ومع الهند وأديانها، ومع فارس ومذاهبها، متجسدا في احترام الآخر، ولو كانت الرّؤية الفقهيّة والسّياسيّة والدّينيّة مختلفة، ومثل هذا ما أمر به حبيب بن يوسف الفارسيّ ت 1276هـ مفتي الشّوافع في عمان حينها، أمر باحترام دولة العجم أيّ في جنوب إيران وباكستان ونحوها، وكان غالبهم على مذهب الأحناف، حيث يقول: سلطان بلدانكم سلطان العجم يصدق عليه اسم الإمام، فيجري فيه جميع ما قرروه من أحكام الإمام الأعظم في كتب الفقه، وإن كان فاسقا جاهلا مبتدعا فتنفذ جميع أحكامه الموافقة للحق[53].
كذلك كانت العلاقة العمانيّة مع حضارات أوربا كفرنسا وبريطانيا ومن ثمّ أمريكا كانت في قمة التّسامح، وتبادل المنافع بينهم.
فالتّسامح في الجانب السّياسيّ، والتصاقه بالجانب الفقهيّ كان نتيجته أن أصبح سجية عند العمانيين، وطبيعة في نفوسهم، يتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل، وأمّة بعد أمّة.
المطلب الرّابع: التّسامح والحراك المعاصر في عمان
أولا: التّسامح في الوضع الطّائفيّ في المنطقة.
تمر المنطقة في المرحلة الحاليّة بحالة اضطراب في التّشكيلة الدّينيّة، نتيجة الفهم الخاطئ للدّين في الدّاخل، وظهور تراكمات التّأريخ والتّراث إلى السّطح، لأسباب عديدة، وعلى رأسها إعادة طباعة كتب التّراث ونشرها مع عدم وجود نقد لمادة التّراث بما يلائم وثقافة تعايش المجتمعات، كذلك انتشار الفضائيّات والمواقع الالكترونيّة ثمّ ظهور وسائل التواصل الاجتماعيّ، مع استغلال الخارج لهذا الوضع، فظهر التّطرف بأشكاله المتعددة.
والفكر المتطرف المجتمعيّ والسّلوكيّ لا يقتصر عند جانب معين، فقد يتسع إلى قضايا كثيرة في الأسرة والمسجد والسّوق، وقضايا المرأة والأطفال وكبار السّن، والزّواج والمعاملات، واختلاف اللّون والمناصب بين النّاس، وغيرها[54]، ممّا سيهدد قضية التّسامح والتّعايش، ليحل محلّها الشّقاق والبغضاء كنتيجة من نتائج التّطرف.
وعليه ظاهرة التّطرف ترتبط دائما بالتّعصب الأعمى والانغلاق الفكريّ وعدم قبول الرّأي الآخر، الأمر الّذي يؤدي إلى سلسلة لا متناهيّة من العنف المضاد الّذي يؤدي إلى صراعات مدمرة داخل المجتمع، وأنّ الغلو في التّطرف يؤدي إلى عجز المجتمع في التّفكير عن حلول مبدعة لمشكلاته، وعن تطوير ذاته، ليصبح مجتمعا مضطربا وغير مستقل[55].
وعُمان بطبيعة الحال لا تعيش في المريخ، فهي تعيش في منطقة أصبحت اليوم ملتهبة سياسيّا وطائفيّا، بجانب سهولة التّأثير عن طريق الفضائيّات والشّبكة العالميّة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ.
من هنا نحن بحاجة إلى استراتيجيّة واضحة لتمكين دائرة التّسامح والتّعايش في الدّاخل أولا، والحفاظ عليه عقليّا وتربويّا وتقنينا مجتمعيّا، وفي الوقت نفسه نكون من الأدوات المصدرة للتّسامح في الخارج وبين الأمم والمجتمعات.
إنّ الرّضا والرّسوخ للواقع دون أخذ الحذر والحيطة، ومعالجة الواقع من الدّاخل، ونشر ثقافة التّنوير وحريّة الإنسان وفق القانون المنظم والعادل، قد نتأثر يوما ما بالخطاب الملتهب في المنطقة، خاصة وأننا نعيش حالة تعدديّة، وهي تزيد يوما بعد يوم!
ثانيا: التّسامح في ظلّ القانون المدنيّ والدّولة المدنيّة العمانيّة.
الدّولة المدنيّة في الجملة كناية عن التّطور البشريّ في سياسة الملك والقانون والحكم العام[56]، فهي عبارة عن اتّحاد أفراد يعيشون في مجتمع يخضع لنظام من القوانين، مع وجود قضاء يطبّق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل[57].
وعليه الدّولة المدنيّة تقوم على أربعة خصائص: خضوع الفرد لسلطة الدّولة والجماعة، والثّاني أنّها تتأسس على نظام مدنيّ من العلاقات الّتي تقوم على السّلام والتّسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، والثّقة في عمليات التّعاقد والتّبادل المختلفة، والثّالث أنّها تقوم على المواطنة العادلة لجميع الأفراد، والرّابع نظام الحكم فيها يقوم على الشّورى والدّيمقراطيّة[58].
فعمان بحكم السّلطان قابوس بداية من عام 1970م انتقلت من دولة مؤسسية ذات هياكل تقليديّة إلى دولة مدنية ذات مؤسسات وتنظيم قانوني معاصر، وهذه خطوة مهمّة للحفاظ على التّسامح والتّعايش في الدّاخل لتطور العقل البشريّ في نظام دولة المؤسسات والقانون.
لذا أصبحت ثقافة الدّولة المدنيّة بشقيها المؤسسيّ والقانونيّ ضرورة ملحة في مجتمعنا العمانيّ، وأنّ الصّيرورة المجتمعيّة في نظرية الدّولة نظرية متطورة وفق الزّمان والمكان، وأنّه لا تعارض بين الدّولة المدنيّة وبين الأديان ورسالات الأنبياء؛ لأنّ الله تعالى أعطى العقل البشريّ كامل الحرية في نظام الحكم وآلية الدّولة، وذلك خشية ظهور أصوات متطرفة تختزل الدّولة في نظام الماضي، وتكفّر الأنظمة الحديثة، نتيجة خطابات سطحيّة، ممّا يضر ورسالة التّسامح والتّعايش في المجتمع.
إنّ احترام القانون المدنيّ من جهة، والعدل في إنزاله من جهة أخرى، مع احترام حريات المعتقد والتّفكير والنّظر والإبداع، يعتبر صمام أمان لحفظ المجتمع وتجانسه وتسامحه لفترة زمنية طويلة.
ثالثا: الوضع المستقبليّ للتّسامح الفقهيّ في عمان.
من خلال ما تقدم، ومن خلال الاستقراء الفقهيّ والتّأريخيّ، نجد ارتباطا بين الفطرة العمانيّة والتّسامح بينهم أولا، وبينهم وبين غيرهم ثانيا، ولا يعني عدم وجود تصرفات سلبيّة في التّطبيق الزّمنيّ، أو عدم وجود نظرات سلبيّة في التّراث الفقهيّ، ولكنه لا يرقى أن يشكل منهجا بقدر ما يكون آراء جزئية لم يتقبلها المجتمع بفطرته التّعايشيّة والتّسامحيّة.
ولكن عندما نتحدث عن هذا ندرك أننا نتحدث عن فترة تأريخيّة عاشت عمان فيها التناقضين كما أسلفنا في المطلب الأول، تناقض عزلة الجبال وتناقض انفتاح السّاحل، مما ولّد تمازجا في التّعددية المذهبيّة والفكريّة والدّينيّة تحت رؤية فقهيّة متسامحة، وسلطة سياسيّة أسقطت هذا التّسامح وحافظت عليه ردحا من الزّمن.
إلا أنّ الفترة الحاليّة في الحقيقة أصبحت أكثر انفتاحا وتعدديّة، والأصل في التعدديّة طبيعة تكوينيّة في البشر، مما سيؤثر في طبيعة المجتمع العمانيّ وطبيعة تفكيره وعاداته وتقاليده.
ولكي لا ينحرف الخطاب المتسامح والمنفتح على الآخر، ليحل محلّه الخطاب الطّائفيّ والإقصائيّ؛ نحن بحاجة إلى رؤية واضحة للمستقبل، ينتج عنها استراتيجيّة مقننة، أكثر ممّا نحن بحاجة إلى مقالات وصفيّة، والتّغنيّ بما كنا عليه في الماضيّ.
وهذه الاستراتيجيّة تكون شاملة للخطاب الدّينيّ والإعلاميّ والسّياسيّ والتّربويّ، منطلقة من ورشات ومراكز أبحاث، ناقدة للذّات، واضعة الأمل والرّؤى للمستقبل، ذات انفتاح على الجميع وفق قانون منظم وعادل، ومؤسسات مدنيّة راقيّة وعادلة بين الجميع.
إنّ مدرسة التّسامح العمانيّة هي الآن بأيدينا، والحفاظ عليها أيضا بأيدينا نحن، لنحافظ عليها في الدّاخل قبل الخارج، ونقدمها للخارج كخطاب يعظّم ذات الإنسان، ويقدّم لهم رؤية تسامحيّة لها أبعادها الإنسانية على الأقل على المستوى العربيّ، ليعيش أكثر استقرارا وتسامحا.
من خلال البحث نصل إلى أنّ التّسامح طبيعة في الذّات العمانيّة، وتعمّقت أكثر لأسباب جغرافيّة جعلت المجتمع متمازجا ومتداخلا، كما أنّه بحكم البعد الجغرافيّ كان المجتمع العمانيّ بعيدا عن الصّراع الطّائفيّ في بعض مراكز دول الخلافة.
هذا التّعايش ظهر من خلال البعد الفقهيّ في كافة المدارس الإسلاميّة العمانيّة، وكان حالة طبيعيّة للكتابات العمانيّة اليوم في جملتها.
وساعد التّسامح الفقهيّ وجود سياسيات انفتحت على غيرها، وأعطتّ الحريّة الفكريّة والاعتقاديّة للجميع.
ثّم هذا التّسامح لم يكن محصور بين أتباع المدارس الإسلاميّة؛ بل كان صفة طبيعيّة مع أتباع الدّيانات الأخرى، كانت إقامتهم دائمة كمواطنة واشتراك في الوطن، أم مؤقتة بسبب التّجارة أو السّياحة أو الكشوفات والرّحلات الجغرافيّة أم لأسباب أخرى.
وخلصنا أخيرا أنّه لابد من الحفاظ على هذه القيمة في المجتمع العماني وفق استراتيجيّات ذات رؤية واضحة خاصة وأصبح مجتمعنا العمانيّ مفتوحا إعلاميا وتداخلا معرفيّا وسياحيّا على المجتمعات والأمم الأخرى، ومنها مجتمعات تشتعل بالصّراع الطّائفيّ.
[1] الإسكافيّ، الخطيب أبو عبد الله أحمد بن عبد الله: مختصر كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيديّ، تحقيق هادي حسن حموديّ، ط وزارة التّراث القوميّ والثّقافة – سلطنة عمان، الطّبعة الأولى 1419هـ/ 1998م، ج1 ص 340.
[2] يرجع إلى جمهرة اللّغة لابن دريد أبي بكر محمد بن الحسن الأزديّ، ط مكتبة الثّقافة الدّينيّة – بورسعيد/ مصر، لا طبعة، لا تأريخ.
[3] الرّازيّ، محمد بن أبي بكر عبد القادر: مختار الصّحاح، ط دار مكتبة الهلال، بيروت/ لبنان، الطبّعة الأولى 1983هـ، باب سمح، ص 312.
[4] ابن زكريا، أبو الحسين أحمد بن فارس، مجمل اللّغة، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، ط مؤسسة الرّسالة، الطّبعة الثّانيّة 1406هـ/ 1968م، المجلد الأول، ص 473.
[5] البستانيّ، المعلم بطرس: محيط المحيط، ط مكتبة لبنان، بيروت/ لبنان، ط 1983م، ص 426.
[6] المحرميّ: زكريا، مقالة عمان من التّسامح إلى الانسجام، مدونة زكريا المحرميّ، تاريخ الزّيارة: الاثنين 17 أكتوبر 2016 م – ١٥ محرم ١٤٣٨ هـ، السّاعة الثّامنة والثّلث مساء، http://www.drzak.net/index/?p=211.
[7] لغويّ وأديب عراقيّ معاصر، يعيش في بريطانيا، محقق العديد من الكتب، منها كتاب مختصر كتاب العين للإسكافي، وله أيضا العديد من الكتب في اللّغة والفكر والدّراسات الإنسانيّة.
[8] لقاء الكاتب مع الأستاذ هاديّ حموديّ، عن طريق الفيس بوك، يوم الأحد، 2/ أكتوبر 2016م، بداية من السّاعة العاشرة وأربع وخمسون دقيقة، عن طريق برنامج وسائل التّواصل (الفيس بوك).
[9] الأعراف/ 199.
[10] النّور/ 22.
[11] البقرة/ 256.
[12] الممتحنة/ 8.
[13] ينظر: صحيح البخاريّ، للإمام البخاريّ، الجزء الثّانيّ، كتاب البيوع، باب: السّهولة والسّماحة في الشّراء والبيع، ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف، حديث رقم: 1970، نسخة الكترونيّة.
[14] الحارثيّ: سالم بن حمد، العقود الفضيّة في أصول الإباضيّة، مطبعة إبراء – سلطنة عمان، الطّبعة الثّانيّة 2009م، ص 8.
[15] الذّكريون طائفة من الصّوفيّة السّنيّة المتأثرة بالفكر الباطنيّ، وسميّت بالذّكريّة نسبة إلى كثرة الذّكر، ومؤسسها المّلا محمد الأتكيّ في أواخر القرن العاشر الهجريّ في منطقة (مكران) في إقليم (بلوشستان)، وهناك نمت وقويت ثم انتشرت إلى المناطق المجاورة، ويقال إنّ الأتكيّ في البداية قال بالمهدويّة، ثمّ ادّعى النّبوة، ينظر: الفئة الذّكريّة وفتنتها في مكران، لعبد الغفار محمد الضّامرائيّ، ط دار الفتح للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الشّارقة- دولة الإمارات العربيّة المتحدة، الطبّعة الأولى 1415هـ/ 1994م.
[16] نسبة إلى غلام أحمد الّذي ولد في إحدى قرى مقاطعات البنجاب، ويرون أنّ غلام أحمد هو المهديّ الموعود، ويتبنون غالبا المذهب الحنفيّ فقها، وظهرت هذه الطّائفة في آخر القرن الثّالث عشر الهجريّ، القرن التّاسع عشر الميلاديّ.
[17] طائفة منبثقة من الشّيخيّة الإحسائيّة، نشأت في إيران في منتصف القرن التّاسع عشر الميلاديّ، ويرون أنّ الباب أو بهاء الله هو النّبي بعد محمد عليه الصّلاة والسّلام، حيث نسخ بعض الأحكام في القرآن في كتابه الأقدس والإيقان، وهما كتب مقدسة عند البهائيين.
[18] الأزكويّ: أبو جابر محمد بن جعفر؛ الجامع لابن جعفر، ط وزارة التّراث القوميّ والثّقافة – سلطنة عمان، لا تاريخ، ج2، ص 67.
[19] الأصمّ: أبو محمد عثمان بن أبي عبد الله؛ البصيرة، ط وزارة التّراث القوميّ والثّقافة – سلطنة عمان، لا تاريخ، ص 84.
[20] العبريّ: إبراهيم بن سعيد؛ الآثار العلميّة لسماحة الشّيخ العلاّمة إبراهيم بن سعيد العبريّ، المجلد الثّاني، جمع علي بن هلال العبريّ وجمعة بن ناصر الصارميّ وآخرون، ط جامعة السّلطان قابوس، الطّبعة الأولى 1436هـ/ 2015م، ، ص 21.
[21] ينظر: المصدر نفسه، المجلد 2، ج4، ص 24.
[22] المصدر نفسه، المجلد 2، ج4، ص 24.
[23] الحجريّ: هلال؛ عمان في عيون الرّحالة البريطانيين قراءة جديدة للاستشراق، ترجمة خالد البلوشيّ، ط الانتشار العربيّ، بيروت لبنان، والنّادي الثّقافيّ مسقط، الطّبعة الأولى، 2013م، ص 10.
[24] الصّحيح أنّ البانيان هم الهندوس، وليسوا هم المجوس، ومع هذا كان للمجوس وجودا في عمان قبل الهندوس بفترة أطول فيما أحسب.
[25] المالكيّ: عامر بن خميس؛ فتاوى وأجوبة الشيخ عامر بن خميس المالكيّ، تحقيق بدر بن سالم بن حمدان العبريّ، طبع مطبعة النّهضة، مسقط/ عمان، الطّبعة الأولى 1436هـ/ 2015م، ص 505.
[26] السّيابيّ: أحمد بن سعود؛ ورقة منظومة القيم القرآنيّ وأثرها في المجال الكلاميّ والأخلاقيّ، مقدمة لندوة مؤتمر تطور العلوم الفقهيّة، وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة – سلطنة عمان، مؤتمر الفقه الإسلاميّ: المشترك الإنسانيّ والمصالح، مرقون.
[27] الفارسيّ: حبيب بن يوسف؛ فتاوى العلامة حبيب بن يوسف الفارسيّ، طبعة مطبعة عمان ومكتبتها الحديثة، الطّبعة الأولى 1414هـ/ 1993م، ج 1، ص 180.
[28] المصدر نفسه: ج 1، ص 180.
[29] الدّكتور عبد العزيز العوضيّ، فقيه شافعيّ عمانيّ، من سكان ولاية شناص بمحافظة الباطنة، دكتوراه في الفقة من كليّة الشّريعة والقانون، جامعة الأزهر الشّريف، من كتبه قبض الأموال في عقود المعاوضات بين الحسيّ والحكميّ، والميسر في الأحكام الشّخصيّة.
[30] ينظر: صفحة الدّكتور عبد العزيز العوضيّ على الفيس بوك،
[31] المصدر نفسه.
[32] المصدر نفسه.
[33] سعود بن عبد الله الزّدجاليّ، باحث وكاتب عمانيّ، حاصل على دكتوراة في الفلسفة تخصص اللّغة العربيّة (السّيميائيات والتّداوليّات) من جامعة السّلطان قابوس، من كتبه: المواطنة في سلطنة عمان، ومن زوايا الفكر. للمزيد ينظر: دراسات تداوليّة في أصول الفقه، سعود بن عبد الله الزّجاليّ، ط دار الفارابيّ، بيروت – لبنان، الطّبعة الأولى 2016م.
[34] ينظر : صفحة الدّكتور سعود الزّدجاليّ على الفيس بوك،
[35] الشّيعة في عمان، مركز الأبحاث العقائديّة، نقلا عن كتاب عمان اليوم، إصدار وزارة الإعلام العمانيّة، تاريخ الزّيارة: الثّلاثاء 18 أكتوبر 2016 م – ١6 محرم ١٤٣٨ هـ، السّاعة السّادسة والثّلث صباحا، http://www.aqaed.com/shia/world/oman/.
[36] للمزيد ينظر: الصّدر: محمد باقر؛ المعالم الجديدة للأصول، ط دار التّعارف للمطبوعات، بيروت – لبنان، الطبّعة الثّالثة 1401هـ/ 1981م، ص 54.
[37] ابن الجنيد الإسكافيّ، موقع ويكبيديا، الزيارة: الثلاثاء 18 أكتوبر 2016 م – ١6 محرم ١٤٣٨ هـ، الساعة السادسة وأربعين دقيقة صباحا، https://ar.wikipedia.org/wiki.
[38] المعالم الجديدة للأصول، مصدر سابق، ص 54.
[39] من قرى محافظة مسقط.
[40] كاتب وصحفيّ شيعيّ عمانيّ، وباحث مهتم في الفكر العربيّ والإسلاميّ، ماجستير في الإدارة العامّة، كتب مقالات ثقافيّة في الصّحف المحليّة، وله مجموعة من البحوث في الدّوريّات المحليّة والعربيّة.
[41] اللّواتيّ: مشتاق بن موسى، مقال برامج الفتنة وأولويات الأمّة، جريدة الرّؤية العمانيّة، الأحد, 09 يونيو/حزيران 2013م.
[42] اللّواتيّ: مشتاق بن موسى، مقال نحو مراجعة التّراث وتعميق ثقافة التّسامح، الحلقة الثّانيّة، جريدة عمان، أكتوبر 2012م.
[43] عباس آل حميد كاتب شيعيّ عمانيّ، ومن المؤهلين مهنيا في مجال الاستشارات الإداريّة من قبل المجلس الدّوليّ لجمعيات الاستشارات الدّوليّة، وخبير في مجال الاستشارات الإداريّة والماليّة والرّقابيّة، من كتبه طريقك المهني وكتاب الاستراتيجيّة الإسلاميّة، للمزيد ينظر: طريقك المهني مدخلك لتطوير محفظة أعمالك، عباس آل حميد، لا ناشر، الطّبعة الثّانيّة 2012م.
[44] آل حميد: عباس؛ الاستراتيجيّة الإسلاميّة، كيف تساهم في النهّوض بالأمّة الإسلاميّة، لا ناشر، الطّبعة الأولى 2014م، ص 131.
[45] المصدر نفسه، ص 27.
[46] مقالة عمان من التسامح إلى الانسجام، مصدر سابق، تاريخ الزّيارة: الاثنين 17 أكتوبر 2016 م – ١٥ محرم ١٤٣٨ هـ، السّاعة العاشرة صباحا، http://www.drzak.net/index/?p=211.
[47] عمان في عيون الرحالة البريطانيين، مصدر سابق، ص 11.
[48] المصدر نفسه، ص 10.
[49] مقالة عمان من التّسامح إلى الانسجام، مصدر سابق، تاريخ الزّيارة: الاثنين 17 أكتوبر 2016 م – ١٥ محرم ١٤٣٨ هـ، السّاعة العاشرة صباحا، http://www.drzak.net/index/?p=211.
[50] السّالميّ: عبد الله بن حميد؛ تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، ط مكتبة نور الدّين السّالميّ، الحيل الجنوبيّة/ مسقط، ط 2000م، ج2، ص 10.
[51] عمان في عيون الرحالة البريطانيين، مصدر سابق، ص 217.
[52] مقالة عمان من التّسامح إلى الانسجام، مصدر سابق، تاريخ الزيارة: الاثنين 17 أكتوبر 2016 م – ١٥ محرم ١٤٣٨ هـ، الساعة الحادية عشر والنصف صباحا، http://www.drzak.net/index/?p=211.
[53] فتاوى العلامة حبيب بن يوسف الفارسي، مصدر سابق، ج2، ص 456.
[54] للمزيد ينظر بحثنا: فكرنا الإسلاميّ والقيم الإنسانيّة: النظّريّة والواقع، المقدم لمؤتمر التّطرف الفكريّ ومدى تأثيره على المجتمع العربيّ بالجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء – مسقط، بتأريخ: ٧-٨ ديسمبر ٢٠١٥. مرقون.
[55] الخواجة: محمد ياسر، التّطرف الدّينيّ ومظاهره الفكريّة والسّلوكيّة، نشر مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، المملكة المغربيّة، ص 1.
[56] الحكم البشريّ بطبيعته حكم متطور في قانونه ومعاملاته وطرق تفكيره، للمزيد عن التّطور السّياسيّ ينظر كتاب: تطور الفكر السّياسيّ لجورج سباين في خمسة أجزاء، ترجمة: حسن جلال العروسيّ، ط الهيئة المصريّة العامّة ط. 2010م.
[57] موقع: دولة مدنية. http://www.dawlamadaneya.com.
[58] المصدر نفسة. (بتصرف).