المقالات الفكرية

الصّحوة الإسلاميّة والانسداد الفكريّ والسّياسيّ

جريدة عمان، الثّلاثاء 26 ذو الحجّة 1445هـ/ 2 يوليو 2024م

يعتبر عام 1979م من الأعوام المهمّة في تأريخ المنطقة، ففيه وقعت حادثة الحرم أو ما تسمّى بحادثة جهيمان العتيبي (ت 1980م)، وفيه انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ، وعلى إثرها قامت الحرب العراقيّة الإيرانيّة، واستمرت ثمان سنوات.

جهيمان العتيبيّ امتداد للفكر الدّينيّ في التّفكير والتّعامل مع الماضي، وتأثر بالإحياء الرّوائيّ والحديثيّ الّذي قاده محمّد ناصر الدّين الألبانيّ (ت 1420هـ/ 1999م)، وقد أحدثت آراؤه جدلا في المدينة المنوّرة خصوصا عند طلاب الجامعة الإسلاميّة، ممّا أدّى إلى إخراجه من المملكة، لهذا تبنى أتباع جهيمان العديد من آرائه الفقهيّة، كالصّلاة بالحذاء، وعدم قول الصّلاة خير من النّوم في الأذان الثّاني، وتطوّر الأمر إلى التّعامل ظاهريّا مع روايات أشراط السّاعة وخروج المهديّ، والاعتداد بالمنامات لكونها رؤى صادقة، وأنّها انطبقت مع ظاهر الرّوايات على محمّد بن عبد الله القحطانيّ (ت 1979م)، واعتبروه المهديّ المنتظر.

ويعتبرهم بعض الباحثين امتدادا لإخوان بريدة، ولمّا تمكن الأمر في عهد الملك عبد العزيز آل سعود (ت 1373هـ/ 1953م)، وقرّب الجماعات الإسلاميّة ذات الخطّ المنفتح على المدنيّة والتّحديث كالإخوان المسلمين بدأ التّزاوج بين التّيار السّلفيّ والتّيارات الحركيّة، لتظهر لاحقا التّيارات الصّحويّة والسّروريّة والقطبيّة.

جهيمان استخدم فكرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولكن تحت مظلّة الاحتساب وليس الدّولة، فأسّس “الجماعة السّلفيّة المحتسبة” مستغلّا مباركة من عبد العزيز ابن باز (ت 1420هـ/ 1999م)، لتحصر الدّولة لاحقا مؤسّسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تحت مظلّتها، إلّا أنّه تضخم بذاته مع مرور الوقت، واصطدم مع طبيعة التّحديث والتّفكير في المجتمع.

في المقابل طوّر الخمينيّ نظريّة النّائينيّ (ت 1355هـ/ 1936م) في حلّ الفراغ السّياسيّ الّذي سبّبته النّظريّة الشّيعيّة بعد الغيبة الكبرى، ولكن هنا تحت مظلّة ولاية الفقيه، والّذي له النّيابة المطلقة عن المعصوم أي المهدي، لتتشكل حكومة إسلاميّة ثيوقراطيّة كبديل عن الاتّجاهات اللّبراليّة واليساريّة.

لهذا بعض الباحثين يربط الصّحوة الإسلاميّة بهذا العام، فانتصار الثّورة الإيرانيّة أعطت نفسا إسلاميّا وحركيّا، استخدمته السّياسات الخليجيّة ابتداء كورقة في القضاء التّوجهات اليساريّة ظاهريّا، ورأوا الاكتفاء بالتّحديث عند الحدّ الماديّ الأدنى دون التّوسع في المطالبات الحقوقيّة والسّياسيّة، فاحتوت التّيارات الدّينيّة لكن تحت مظلّتها الرّسميّة.

في هذه الفترة الاتّجاهات السّياسيّة في الخليج أمام ثلاث تحدّيات: الأول التّخلص من الفكر المتشدّد الّذي نتج عنه جماعة جهيمان العتيبيّ، والثّاني: مواجهة الاتّحاد السّوفييتيّ في صيغته الشّيوعيّة والمنظمات اليساريّة، والثّالث الخوف من تمدّد فكرة الثّورة الإيرانيّة، لهذا كان الإخوان المسلمون من المؤهلين لهذه الفترة، لقوّة خطابهم وانفتاحهم على الحركات الأخرى من حيث معرفة تشكلّاتها ونواياها، ولما يملكونه من قدرة كتابيّة وخطابيّة، ولمواجهة تصدير إيران للثّورة، والّذين مالوا في الابتداء معها، ثمّ انقلبوا عليها، ممّا بدأ الانقسام الطّائفيّ في المنطقة.

في هذه الأجواء تمازجت السّلفيّة مع الإخوان فظهرت الصّحوة، أو ما يسميها بعضهم بالسّروريّة أو القطبيّة، إلّا أنّ العديد من الكتّاب الإسلاميين يرفضون ربط الصّحوة بهاتين الحادثتين، فيرى هاشم عبد الرّزاق الطّائيّ في كتابه التّيار الإسلاميّ في الخليج العربيّ أنّ “الصّحوة الإسلاميّة، وحركة إصلاح وتجديد إصلاح وتجديد الفكر الإسلاميّ الحديث، الّتي عمّت معظم مناطق العالم الإسلاميّ؛ هي ردّ فعل للغزو الاستعماريّ الغربيّ لبلاد المسلمين”، في حين يرجعها القرضاويّ (ت 2022م) في كتابه الصّحوة الإسلاميّة وهموم الوطن العربيّ والإسلاميّ إلى أنّها “امتداد وتجديد لحركات إسلاميّة، ومدارس فكريّة وعمليّة، انقرض بعضها، ولا يزال بعضها قائما … منهم دعوة محمّد بن عبد الوهاب، ومحمّد بن عليّ السّنوسيّ، ومحمّد بن أحمد المهديّ، وجمال الدّين الأفغانيّ، وعبد الرّحمن الكواكبيّ، ومحمّد عبده، ومحمّد رشيد رضا، وسعيد النّورسيّ، وحسن البنا، وأبو الأعلى المودوديّ، وعبد الحميد بن باديس، ومصطفى السّباعيّ، وسيّد قطب”.

عموما استخدم الخطاب الدّينيّ في هذه المرحلة ضدّ الاتّجاهات الأخرى خصوصا اليساريّة والّتي كانت في المواجهة، وأكثر تنظيما داخليّا وثقافيّا، وتمدّدت إلى الأقليات المذهبيّة الأخرى كالإباضيّة والزّيديّة، وحتّى غير الدّينيّة، فهناك صحوة مسيحيّة أرثذوكسيّة مثلا في مصر أيام البابا شنودة الثّالث (ت 2012م).

فحالة الصّحوة لم تعد خصوصا من منتصف الثّمانينات وحتى بداية الألفيّة الثّالثة حالة سنيّة سلفيّة أو شيعيّة خالصة خصوصا في جوّها الأخباريّ، بل أصبحت حالة إسلاميّة بشكل كبير، في محاولة لأسلمة الدّولة والمعرفة، وتمازجت مع أفكار المذهبين الإباضيّ والزّيديّ، حيث تشكلهما التّأريخيّ كان سياسيّا بشكل كبير، فيرى عبد الحليم محمود (ت 1978م): “أمّا رأيهم في الإمامة – أي الخوارج – فإنّه هو الرّأي الّذي يؤيد الاتجاه الحديث” أي مع جماعات الإخوان المسلمين، ويتمثل هذا “أنّ الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حرّ صحيح يقوم به عامّة المسلمين لا فريق منهم”، “فليست الخلافة في قريش كما يقول غيرهم، وليست لعربيّ دون أعجميّ، والجميع فيها سواء”، كما أنّ الفكر الزّيديّ قائم على فكرة الثّورة منذ مقتل الإمام زيد بن عليّ (ت 122هـ) والّذي خرج على الأمويين، وهذا خلاف الاتّجاهات السّنيّة والشّيعيّة الأخباريّة، فالأولى مالت إلى طاعة الحاكم وعدم جواز الخروج عليه متمثلة في أهل الحديث، والّذين أثروا في الاتّجاهات الكلاميّة السّنيّة الأخرى كالأشاعرة، والثّانيّة مالوا إلى الإنزواء بعد الغيبة الكبرى كما أسلفنا.

ثمّ بعد الانفتاح على نظريّات الدّولة والحكامة في الغرب، وسقوط الخلافة الجامعة للكلّ، ولو تحت مظلّة أن يكون الحاكم متغلّبا، ولو كان غير عادل أو ملتزم دينيّا، لكنّه رمز جامع للكل، وما لازم سقوط الخلافة من تكوّن الدّولة القطريّة أو الوطنيّة، ثمّ تعدّد التّجارب السّياسيّة، جميع هذا أحدث شيئا من الانسداد التّأريخيّ والتّراثيّ، ليولد من رحم الواقع توجهات إسلاميّة حركيّة، اصطدمت في منظومتها السّياسيّة مع الدّولة القطريّة.

هذه التّجربة بحاجة إلى قراءة تفكيكيّة ونقديّة من جديد، وليست بحاجة إلى عنف يتولد عنه عنف أشدّ كما حدث في عهد جمال عبد النّاصر (ت 1970م)، وقد رأينا العديد من القراءات النّاقدة في ذلك في العقدين الأخيرين، ولكن نحن اليوم بحاجة إلى منظومة سياسيّة وآمنة تعطي مساحة واسعة من الحريّات والدّعم الماديّ في التّفاعل البحثيّ والنّقديّ، بعيدا عن الغايات المصالحيّة، كانت دينيّة أو مذهبيّة أو سياسيّة.

السابق
يوم عرفة والعقول الثّلاثة
التالي
شيراز  وما بقي من شهادة التّأريخ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً