مجلّة الكلمة الجزائريّة، عدد 101، ص: 179 – 184.
من الظواهر العاصفة بعالمنا اليوم هي ظاهرة التطرف بجل أنماطها، هذه الظاهرة التي نجدها في تاريخ كل المجتمعات، حيث تستمد حيويتها من منابع شتى، الأفكار والمعتقدات الدينية والإنتماءات الاثنية و كذا الأيديولوجيات التي تتسم بالعنف و الصدام و إلغاء الآخر ككل !!
ونظرا لحساسية هذه الظاهرة كمسألة راهنة تهدد عمق وعينا كأمة تنتمي إلى دين سمته الأساسية السلام والتسامح و التعايش وأداته التفاعلية مع الآخر ككل، تتمثل في ثقافة الحوار و لغة العقل و الحكمة و التعامل بالتي هي أحسن، نحاول من خلال هذه الورقة تسليط الضوء على كتاب مهم و استراتيجي في مجال التأصيل لعلاقاتنا الجوانية والبرانية الفردية و الاجتماعية و الإنسانية، و لعل أهميته تتحدد في كون مؤلفه استطاع أن يقعد مسائل حساسة و يبسط مفهوما جدليا بامتياز من خلال انفتاحه الفكري و الثقافي و تخصصه العلمي، و تمكن باقتدار أن يبعث برسالة حضارية للقارئ العربي و المسلم و الآخر الديني والثقافي…
عنوان الكتاب : فقه التطرف للأستاذ الباحث العماني بدر العبري الصادر عن دار مسعى للنشر و التوزيع ضمن سلسلة إصدارات الجمعية العمانية للكتاب والأدباء سنة 2018 من القطع المتوسط، حيث يقع في 176 صفحة، توزع الكتاب ضمن افتتاحية وخمسة أقسام وخاتمة للكلام..
قبل ولوج آفاق هذا الكتاب المميز بموضوع وأسلوب مؤلفه المثير للوعي والتساؤلات المهمة في المطارحة والمناقشة ، لابد من التأكيد أن الأفكار الجدلية بحاجة إلى “شيء من الجرأة المعرفية و الجسارة الأدبية”، حيث يتصاعد التساؤل فيما إذا كانت حالة الازدواجية السائدة في مجتمعاتنا بين خطاب مثالي تسمعه و واقع مزري وسيء تعيشه والتي قامت بتفعيلها تغيرات سوسيوثقافية عميقة ومتعددة الأبعاد خلال العقود الماضية وتم دعمها سياسيا، ستنتقل إلى حالة انتظام بين الخطاب الثقافي العام و واقع إجتماعي تفرضه المتغيرات العالمية الجديدة؟
المفتتح:
استهل الأستاذ الباحث بدر العبري كتابه “فقه التطرف” بافتتاحية استظهر من خلالها الحالة الازدواجية التي أشرنا إليها والتي أفضت إلى العديد من الوقفات والمراجعات لتلافي العديد من العلل وأهمها علة التطرف والإرهاب، فكان لزاما التفريق بين النص الإسلامي الواضح و القطعي و بين النصوص المفتوحة و المتشابهة، ليجعل الأول حكما على الآخر[1]، وحدد عدة مرتكزات منهجية رائعة، سوف نلحظ أنه حاول قدر الإمكان الإلتزام بها على طول الأقسام، بل أكثر من ذلك وظف عدة أسئلة وأمثلة و نماذج لتأكيد ذلك النظام المنهجي الذي خصصه لحركية الأفكار في ثنايا الكتاب.
بعد ذلك خلص المؤلف إلى التعبير عن ماهية هذا الكتاب منهجيا على أنه رؤية تحليلية نقدية خاصة في جانب التطرف وعلاجه، و على أنها في الأصل مشروع بسيط ينقسم إلى قسم نظري تأملي و آخر تطبيقي كان نتيجة حوارات مع الشباب على شبكة التواصل الفيسبوك، اكتمل بعضها في مؤلفات طبعت[2]، وأخرى تنتظر الطبع، و منها بحوث فكرية و إسهامات بحثية شارك بها في مؤتمرات بالإضافة إلى ومضات في الفكر.
مما تقدم، قام المؤلف بلملمة ما يتعلق بقضية التطرف وما استوحاه من أسئلة الشباب فكانت في الأصل ثلاثين مقالا نشرها في أثير العمانية الإلكترونية، مع مقالات فيسبوكية وما سبق الإشارة إليه من بحوث و مقالات، عصارة ما عايشه خلال خمس سنوات الأخيرة، اختصرها في عنوان ” فقــــه التــطـــرف”، واللافت أيضا بالافتتاحية تذييلها بملحوظة وكأني بالمؤلف يدقق بكل أمانة و صدق وجدية لتنبيه القارئ مسبقا ببعض الثغرات، حتى لا يستغرق فيها دون التركيز والتفاعل مع الفكرة الأساسية و النواة المركزية ألا و هي “مقاربة ظاهرة التطرف و علاجها”، هذه أيضا إرهاصة إضافية للقيمة المنهجية و الماهية الثقافية للكتاب، مما يدفع نفسيا وفكريا القارئ إلى مطالعة المضمون بروح تشاورية تعمل على تفعيل فلسفة التفكيك والتنسيق المعرفي للفصول ليس بهدف النقد و لكن بمسؤولية النظر والاجتهاد على الأقل في الإدراك قبل محطة الإسهام في العلاج…
القسم الأول استهله الباحث بالتأسيس اللغوي ثم انتقل إلى الاصطلاح القرآني حيث أشار إلى أن مصطلح التطرف ورد في القرآن باصطلاح الغلو، ثم عرج بعجالة على أنماط التطرف واستند إلى نسبية التطرف التي يقول بها العديد من الناقدين[3]، مع مدى واقعيته، وصولا لماهية القيم الكبرى التي جاءت لحفظ ذات الإنسان، إلى أن انتهى به المطاف إلى المطلب المقاصدي وفق الضوابط الخمس، حيث كانت هذه جولة في رحاب المنطق، تمهيدا لتأسيس قاعدة كلية مشتركة عبر الإسهاب في القسم الثاني بحلقات نظرية مقاصدية تمهيدية متلازمة بوقفات واقعية تستهدف تفكيك علة التطرف وعلاجها من خلال كشف التمويه الازدواجي الحاصل بين الخطاب الديني المثالي والواقع الفردي والاجتماعي المتدهور باستمرار، استثنى من ذلك ضابط حفظ العقل حيث استنطقه مقاصديا أما الوقفة الواقعية كانت خاطفة بأسلوب أدبي يختصر راهن العقل في علاقاتنا عامة، بينما على سبيل المثال مع الضابط الأول حفظ الفكر مقاصديا يدعمها تطبيقيا بوقفات مع مشكلات تكفير المخالف،الإلحاد، توسيع دائرة الولاء والبراء وتكفير القوانين والأنظمة المدنية، الدولة المدنية، وعلى ذات النسق يواصل المؤلف مع ضابط حفظ النفس حيث يعقب بكل جرأة ومعرفة وروح علمية عالية وأخلاق رائعة في قراءة الواقع والفوضى العارمة التي زادته تشرذما وانحرافا وضمورا، حيث عرج على مسائل الجهاد وآيات القتال قرآنيا، و وقف بشجاعة على روايات “أمرت أن أقاتل الناس” و قتال الخوارج، والفكرة الخطيرة التي استوحاها برؤيته التحليلية النقدية تتمثل في تعامل الخطاب التراثي مع النفس من منظور ملي أو مذهبي خلافا للخطاب القرآني الذي اعتبر النفس نفسا بغض النظر عن توجهها أو دينها[4].
ودواليك مع ضابطي حفظ النسل والعرض وحفظ المال، حيث وفق الأستاذ الباحث بدر العبري في وقفاته من خلال نقد بعض العادات والسلوكيات الاجتماعية والاقتصادية السلبية التي تنافي ماهية الشرع ومقاصده بل تسيء إليه وتعطل قيمه الكبرى للأسف.
اللافت للنظر في هذا القسم من الكتاب أن المؤلف اجتهد في تنزيه الخطاب الديني الصحيح من العنتريات والتقليد الذي لا أساس له قرآنيا، فحاول تركيز فكرة أنه الخطاب الديني لابد أن ينتهج المقاصد في قراءة الواقع وإصلاحه لا الوعظيات المثالية التي لا علاقة لها بعمق المشاكل التي يعانيها الإنسان في مجتمعاتنا، هناك ملاحظة مقاصدية تتصل بالحرية، لعل المؤلف ضمها في سياق ضابط حفظ الفكر أو لعله قايسه عبر الضوابط الخاصة بالقسم الثالث عند بحث الدين والرأي، وهنا برز لي إشكال ضرورة التحديد للضوابط أنها عامة و هناك ما هو خاص أو جزئي فيها بالإضافة إلى اعتبارات الشرعية والأهمية، كما لا نغفل عن إشكال إنكار تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد يعني جدلية الحسن و القبح عقليين أم لا، و هذا كان ضروري بحثه في ضابط حفظ العقل ضمن الجدلية المقاصدية، لكن هذا كله كما سبق و أشرت ليس تعقيبا أو نقدا أو انتقاصا من مضمون المباحث وإنما تثمينا وتدعيما للاجتهاد و التجديد أكثر في هذا المجال و هذا الموضوع…
على خطى حثيثة استمر المؤلف بالقسم الثالث من كتابه بضبط المفاهيم وفق الضوابط لمفاهيم الرأي و التعدد والدين والعلاقات بينها، حيث استعرض المدارس الإسلامية بين أهل الرأي و أهل الأثر وعقب على هذا التقسيم التاريخي غير السليم بأنه تشويه مذهبي، و نبه إلى ضرورة التفريق بين قضايا الرأي و قضايا الدين، ودفعا للقارئ إلى ضبط فهمه و مقاربة موضوع تعدد الآراء في فهم الدين، ركز الأستاذ الباحث بدر العبري هذه الرؤية التقريبية بعدة نماذج واقعية وفي صميم يوميات و ثقافة مجتمعاتنا، منها ما هو وافد و آخر راكد، لينزل بكل هدوء في رحاب القسم الرابع الذي خصصه للتعايش و التعارف، فتدرج بكل أريحية في فلسفة التعايش والاختلاف الطبيعي، والرائع في هذا الفصل استنطاق سلبية التطرف من خلال منهج الأضداد، لإثارة وعي القارئ أو الملتبسة عليه المسائل، فمن أبعاد التعايش فتح المؤلف ملف التعارف قرآنيا واستعرض أبعاده ببراعة واللافت هي الجزئيات التي استشكلت فيما تقدم حولها، وأهمية تبيان أنماط المقاصد أو أنماط الضوابط و منها الخاص و الجزئي، فجزئيات التعارف أسست لوعي الأبعاد وكشف المغالطات حول قيمة التعارف التي من محركاتها الأساسية الحوار العلمي والنقد البناء و الانفتاح التبليغي. واختتم المؤلف هذا الفصل بعدة أمثلة للتعايش عبر التاريخ الإسلامي، ملاحظتي هنا الأفضل عنونة تلك الأمثلة بنماذج ونماذج القسم الثالث بالأمثلة، كما أنه من محفزات التعارف إضافة نماذج أخرى إلى نماذج وثيقة المدينة و العهدة العمرية ووثيقة الصلت بن مالك كالوثيقة العلوية لمالك الأشتر لما كان واليا بمصر، وهناك أيضا نماذج و مؤسسات معاصرة بالشام ومصر والعراق و السلطنة وأوزبكستان وغيرها من البلاد الإسلامية، مما يغني ثقافة التعارف…
آخر قسم خصه الأستاذ الباحث بدر العبري لأنواع التطرف و آثاره الكارثية والتدميرية للذات والاجتماع الإنسانيين، حيث استطرد بتفكيك نوع التطرف الفكري و الثقافي بعد اطلالته المقتضبة على التطرف الديني، وعرج على التطرف السياسي، ثم خلص إلى الآثار المتمثلة في التعصب للذات، ضياع الوقت والمعرفة، تزكية النفس والمذهب، البحث في قصاصات الكتب الصفراء (التراث)..
خاتمة الكلام هي زبدة البحث كله حيث نستوحي همة المؤلف و صدق جدّه واجتهاده و رحابة فكره و سعة صدره و جمال إنسانيته، متسائلا مع القارئ: إله المذهب أم إله الإنسان؟
كتاب “فقه التطرف” للأستاذ الباحث بدر العبري وجدته ذا طرح منهجي رصين عموما ودقة الملاحظات خصوصا في الوقفات و الأسئلة والإحالات النقدية بروح الإخاء والترشيد الإسلامي، لكن ميزة الكتاب الرئيسية هي التأصيل القرآني والأفكار الرحبة الصانعة للوعي الإنساني والباعثة للنباهة الحضارية ، وجدت هذا الكتاب أطروحة فكرية وجوهرة ثقافية ثمينة في زمن الفكر الإقصائي والأحاديات الفكرية، ببساطة لأنه تنويري بامتياز،على أمل أن تنقح بعض فصوله بما يتناسب ودخوله العالمية عبر الترجمة للغات أخرى تأكيدا لقيمة التعارف ومبادئ القيم الإنسانية الكبرى.
بلا شك هندسة التسلسل المنهجي للكتاب من خلال ذلك الكم الهائل من الأفكار التي كانت مبعثرة في ثنايا مؤلفات و بحوث و مقالات و مشاركات عبر وسائل التواصل الاجتماعي و تلك المدة الزمنية التي راكمت هذه الخميرة المعرفية والمقاربة الدقيقة للموضوع على أساس حقل من حقول المعرفة الإسلامية الذي يعتبر علم تأصيل الأصول أي مقاصد الشريعة، استطاع الأستاذ العبري وفق خريطتها أن يكامل بين معالم و أعلام و تاريخ و معارف ومبادئ و غايات و مقاصد، بتنسيق يجعل القارئ يستلهم ثقافة الحوار و قيمة التعارف وعمق التسامح و روح التعايش دون تعسف ولا تكلف و إنما بنزعة إنسانية بليغة تعكس الرحمة الإلهية والرحابة الإسلامية وتغني العقل والقلب ببصائر القرآن و جماليات الخلق المحمدي العظيم… هذا الكتاب عكس حقيقة:” أنه مع التطرف في الفقه و السلوك بشتى أنماطه الدينية- المذهبية والفكرية الثقافية والسياسية ليس بالإمكان فقه التطرف،لابد من عدالة متجاوزة لكل النرجسيات في عالمنا العربي و الإسلامي لإحياء الاعتدال الفكري والتعارف الحضاري الراسخين في مبادئ الإسلام الصغرى و الكبرى…
[1] فقه التطرف، الأستاذ بدر العبري ، ص 7، ط1 سنة 2018، دار مسعى للنشر و التوزيع.
[2] صدر للمؤلف كتاب بعنوان: القيم الخلقية والإنسان، وقد طبعته دار سؤال/ لبنان، وهو يعالج التطرف بالرجوع إلى القيم المشتركة بين البشر جميعا.
[3] كان يفترض ذكر على الأقل بعض الناقدين لتوجيه الباحثين إلى سؤال النسبية في ظاهرة التطرف، وهذه الملاحظة تتعلق بمضمون جزئية في الملحوظة التي أوردها المؤلف في افتتاحيته…ذكرتها لغرض استثمارها في تنقيح الطبعة القادمة بإذن الله.
[4] فقه التطرف ، ص 59 .