ورقة مقدّمة للجنة الفكر لفعاليّة في فرع الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالبريمي، رمضان 1440هـ.، مايو 2021م.
اعتبر القراءات التحليلية والنقدية للكتب دافعاً قوياً بالكتاب المقروء نحو المراجعة والتصحيح مما يعطيه مستقبلاً ناجحاً وربما أكثر بقاءً وإظهاراً، سواء كانت القراءة لإظهار مكامن الضعف فيه أو مكامن القوة، من هنا تأتي قراءتي لكتاب “فقه التطرف” للصديق العزيز الأستاذ بدر العبري، ولا أخفي عليكم إعجابي بهذا الكتاب، غير أن هذا الإعجاب لا يعني المدح والثناء والاحتفاء به فحسب بقدر ما هو قراءة نقدية في جوانبه الناقصة أو الضعيفة من وجهة نظري، ولعل تلك الجوانب لم يلتفت إليها الكاتب، أو لربما هي ليست بضعيفة في نظر مؤلفها بيد أنني كقارئ أنظر إليها برؤية أخرى، ولكل قارئ نافذة ينظر منها إلى الكتاب، وإذا نشر الكتاب فقد خرج من يد مؤلفه وأصبح ملكاً للقراء يقرأونه كيفما شاءوا.
يقال بأن الناقد بلا أصدقاء، ذلك لأنه يفقد أصدقاءه حينما ينقدهم، ولكن لمعرفتي بسعة صدر الصديق الكاتب بدر العبري فأنا أنقد كتابه لأني لن أخسر صداقته، لذا أقدمت لقراءة كتابه قراءة نقدية، وأرى أن بدر العبري يمثل في زماننا رائد التعايش والتعارف والتسامح والألفة، فهو عايش مختلف المدارس الإسلامية وسافر إلى مراكزها والتقى بشيوخها ومفكريها بل تجاوز ذلك وعايش بعض الأديان وسافر إليهم للتعرف عليهم عن قرب كالمسيحيين وجماعة شهود يهوه والهندوس والزرادشتية وأجرى معهم حوارات مسجلة في قناته اليوتيوبية، وزار بعض المعابد وتعرف على طرق عباداتهم، وغير ذلك كثير.
أولاً: وصف الكتاب
يقع الكتاب في 172 صفحة، وهو حجم مناسب لكل قارئ، ومصنف الكتاب في باب الدراسات، ولهذا وضع في أعلى الغلاف كلمة “دراسات” بينما هو في حقيقته مقالات كما ذكر الكاتب بنفسه ص8-9، ولربما كلمة “دراسات” ليست من وضع المؤلف بل من وضع الناشر، وكانت هذه المقالات في الأصل 30 مقالاً منشورة في أثير وصفحة المؤلف الفيسبوكية وغالب هذه المقالات من وحي ذهنه، فهي خواطر وآراء وليست مقالات بحثية، وأتمنى من الكاتب أن يوسع هذه المقالات في الفكر الديني ويحولها إلى دراسات بحثية يخاطب بها المختصين من المفسرين والأصوليين والفقهاء والمتكلمين، وذلك لأنه عندما نخاطب المختصين ونحلل دراساتهم وننقدها فحن نقلل من منابع التطرف والإرهاب؛ لأن كثيراً من الناس في عالمنا الإسلامي لا يفكرون وإنما يفكر عنهم فقيههم أو شيخهم أو قل رجل الدين إن صح التعبير أو آباؤهم ورؤساؤهم.
كما أن الكتاب هو خلاصة تجارب عايشها الكاتب خلال خمس سنوات، وهذا أمر حسن من وجهة نظري أن يخرج الإنسان تجاربه الكتابية أو مواقفه الحياتية في كتاب ليستفيد منها الآخرون، فما الحياة إلا تجارب نضيفها إلى تجاربنا، وبها نبني شخصياتنا وتتراكم معارفنا فتخرج في حلة جديدة مفيدة معطاءة.
عنوان الكتاب “فقه التطرف” وقد أصاب الكاتب في دقة العنوان إذ لم أجد شيئاً تناوله الكتاب خارج هذا العنوان، فالكتاب مقسم إلى ستة أقسام وهي: (ماهية التطرف، والضوابط الخمس، ودائرة الدين والرأي، وأبعاد التعايش والتعارف، ومن أنواع التطرف، ومن آثار التطرف) وكل هذه الأقسام تتناول مسائل وفتاوى وآراء فقهية فهي كلها من مسائل الرأي وليست من مسائل الدين مثلما يقسمها الأصوليون والفقهاء والمتكلمون.
أسلوب الكاتب سهل العبارة سلسل القراءة جريء الطرح والصراحة، بحيث يقرأه العالم والمثقف والطالب وجمهور الناس، كما أنه مقالات برؤية تحليلية للواقع ونقدية للتطرف من داخل البنية الفقهية، فهو لا ينتقد التطرف فحسب، بل يعقب ذلك بالعلاج المناسب مع مراعاة العصر الحاضر.
ثانياً: مضمون الكتاب
مضمون الكتاب مهم جداً وحيوي عصري، فهو يتناول قضايا حية في عصرها وواقعية في فقه التطرف، من مثل: تكفير المخالف والحكم عليه بالجنة والنار، والتوسع في دائرة الولاية والبراءة، وآية السيف وآية الجزية، والولاء والكفاءة في الزواج والتفريق بين قضايا الرأي وقضايا الدين، والغناء والمعازف واللحية والإسبال ومصافحة المرأة الأجنبية وعرفية اللباس وعيد الأم وعيد الحب ورفع الخلاف في مسائل الهلال وأبعاد التعايش والتعارف، وكل هذه القضايا مدار للعمل في عصرنا وهي حديث الزمن في الفتاوى الدينية والمجالس العامة والثقافية والإعلام.
وأنا هنا لا يمكنني أن أتناول كل الأقسام والقضايا في الكتاب وذلك لأن الكتاب ثري وحيوي، وخشية الإطالة المملة في التحليل والنقد، ولكن سأتناول بعضها في قراءة نقدية قسمين: ماهية التطرف والضوابط الخمس.
القسم الأول: ماهية التطرف
ذكر الكاتب عدة تعريفات للتطرف سواء كانت تعريفات لغوية أو تعريفات اصطلاحية معتمداً في ذلك على موقع المرصد العربي، بينما لم يذكر رأيه في المفهوم المرجح لديه، وهذا الأمر يترك القارئ بين تلك الأمشاج دون أن يدرك الفكرة الأساسية التي ينطلق منها مفهوم التطرف الذي ينقده المؤلف في كتابه، غير أننا قد نتسامح معه ونرى أنه يميل إلى تعريف المرصد العربي القائل بأنه (يستخدم للدلالة على كل ما يناقض الاعتدال، زيادة أو نقصاناً) غير أن هذا التعريف يوحي إلى أن الأمر نسبي، وبالتالي السؤال المهم هنا هل ما ينقده المؤلف في دائرة اجتهاد الفقهاء يعد تطرفاً أم هو أمر نسبي؟ فالفقهاء أو المقلدون لهم لا يعدونه تطرفاً بينما المؤلف يعده تطرفاً.
بالإضافة إلى أن المؤلف ذكر بأن القرآن الكريم لم يستخدم مصطلح التطرف ولكنه استخدم مصطلح الغلو في الدين، فإذا كان فكر الكاتب وكتابه ينطلق من الاعتماد على الخطاب القرآني أليس من الأولى أن يستعمل المصطلح القرآني لعنونة كتابه فيسميه “فقه الغلو”؟!
القسم الثاني: الضوابط الخمس
طرح الأستاذ بدر العبري الكليات المقاصدية الخمس وهي الكليات المعروفة في “مقاصد الدين” والتي وضعها الشاطبي في كتابه “الموافقات” في القرن الثالث عشر الهجري، وهذه الكليات المقاصدية هي “حفظ الدين والنفس والعقل والنسل أو النسب والمال”، بينما نجد الكاتب يسميها بـ”الضوابط الخمس” وأتفق معه في تسميتها بذلك، لأنها ليست كليات مقاصدية للشريعة أو الدين، فالمقصد حدده القرآن الكريم وهو الهداية والتبشير عندما قال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[1]، وإذا اعتبرنا تلك كليات مقاصدية للشريعة فنحن أبعدنا الهدف الأساس للقرآن وهو الهداية، وإذا أردنا أن نتجاوز ذلك ونفصل في هذه الهداية فهي هداية مبنية على القيم الإنسانية التي تبني الإنسان على أساس التآلف والمحبة، والمتتبع للآيات القرآنية يجد تجوّزاً كليات المقاصد هي العدل والرحمة والمحبة والتعاون والتقوى وغيرها من القيم والأخلاق.
فإذن حفظ “الدين والنفس والعقل والنسل أو النسب والمال” هي ضوابط كما سماها المؤلف، وهنا لي وقفة مع الكتاب حول هذه الضوابط.
1- حفظ الفكر، وهي التسمية الأَولى حسبما يراها المؤلف بدل التسمية الموروثة وهي “حفظ الدين”، وأتفق معه في ذلك، بيد أن الكاتب نسى أن السابقين حينما عبروا بـ”حفظ الدين” فهم ينطلقون من ثقافتهم السائدة، وكانت السائدة آنذاك الاهتمام بالدين والحديث عنه، وهو ما كان ينبغي الإشارة إليه ولو في هامش الكتاب.
بينما اليوم تعددت الثقافات والأفكار بل واندمجت بعضها مع بعض خاصة مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح ظهور التنوع الفكري هو السائد بدل الرؤية الدينية الواحدة، ولهذا الأستاذ بدر انطلق من هذه التسمية “حفظ الفكر” من ثقافة زمنه.
مع قاعدة “حفظ الفكر” وفي ص 17 يذكر المؤلف أن هناك تفسيرات خاطئة واستنتاجات سلبية لهذه القاعدة وقال: “وقد أشرت في كتابي “القيم” إلى نماذج منها” ثم ذكر هذه النماذج وهي: (قتل المرتد أو المخالف للدين، ونظرية الهجر للمخالف في المذهب وعدم صحبته والتسليم عليه، ونظرية عدم جواز التهادي مع غير المسلمين في أعيادهم، نظرية قتل المشرك غير الكتابي).
هذه النظريات طبعاً قام بشرحها ونقدها، من ص17وإلى ص19، وأرى الكاتب هنا يكرر نفسه أو يكرر ما ذكره في كتابه الذي أشار إليه وهو كتاب “القيم الخُلُقية والإنسان”، فذكر هذه القيم بنفس ما ذكره في كتابه “فقه التطرف”، فهي موجودة في كتابه “القيم” من ص125 وإلى ص127، مما يعني أنه قام بعملية نسخ ولصق، ولذا كان الأحرى له أن يشير إلى ذكرها مع ذكر الصفحات من كتابه السابق بدل أن يقوم بما قام به، أو أنه يضرب أمثلة أخرى وما أكثرها في كتب الموروث والفتاوى.
وقد أجاد المؤلف حينما وضع وقفات في هذا الموضوع وقام بنقد لها، وهي (تكفير المخالف والحكم عليه بالجنة أو النار، التطرف في الإلحاد، التوسع في دائرة الولاية والبراءة، تكفير القانون المدني والأنظمة المدنية)، وسأقف هنا مع الوقفة الثانية وهي: التطرف في الإلحاد.
هذا العنوان الكبير وهذه الوقفة يرجى منها التحدث عن تطرف الإلحاد أو تطرف الملحدين كما هو ظاهر من العنوان، غير أن المؤلف عدل عن ذلك إلى الحديث عن مفهوم الإلحاد قرآنياً ولغوياً وقديماً وحديثاً، ولم يتحدث عن تطرف الملحدين الذين يسبون الأديان ويستميتون في ذلك، نعم هو أشار إلى ذلك بكلام جميل عندما قال في ص26: “فكما لا يجوز سياسياً ودنيا ودينياً إقصاء الآخر بدعوى الإلحاد والتطرف في ذلك، فالأمر سيان بالنسبة ممن اتهم فلا يجوز له أن يسخر بالله أو الأنبياء أو الطقوس أياً كانت”، وكنت أتمنى من المؤلف ضرب أمثلة على ذلك مع التوسع في هذا الأمر ليتفق المضمون مع عنوان الوقفة.
وإذا كان يقصد من ذلك تطرف الملحدين فعلاً كان ينبغي منه أيضاً أن لا يعبر في الفقرة السابقة بعبارة (ممن اتهم) وإنما ينبغي أن يقول: (الملحدين). فالتطرف منبوذ مرفوض وهو سيان لدى الأديان أو الملحدين أو غيرها من الأفكار والنظريات وأصحاب التوجهات والأحزاب.
2- حفظ النفس، وهنا أيضاً أجاد الطرح في خمس وقفات وهي: (فلسفة الجهاد في القرآن الكريم، مع آية السيف وآية الجزية، مع رواية أمرت أن أقاتل الناس، روايات قتال الخوارج، منظومة تقسيم الناس ثلاثة).
في هذه الوقفات أريد أن أقف مع الوقفة الثالثة وهي: (مع رواية أمرت أن أقاتل الناس) والتي طرحها من ص 52 إلى ص54، جاء الكاتب برواية مدرسة أهل الحديث وذكر في الهامش بأنه: (متفق عليه وعند الأربعة من طريق أبي هريرة) وبما أن المؤلف ينتمي اجتماعياً إلى المدرسة الإباضية يفترض منه أن يعرض رواية المدرسة الإباضية ثم يشير إلى المدارس الأخرى، لكن لا نجد هنا إشارة إلى رواية الربيع بن حبيب والتي في الجزء الثاني من مسند الربيع بن حبيب في باب جامع الغزو في سبيل الله رقم الرواية 464 وجاءت بلفظ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها).
فالسؤال هنا لماذا لم يذكر المؤلف رواية الربيع مع أنه لا يهمه السند بقدر ما يهمه المتن، مع إشارته إلى أن من المعاصرين من أعلّ سند الرواية (ولو رواه البخاري ومسلم)؟ لماذا لم يقل ولو رواه الربيع بن حبيب؟ ألا يدل ذلك على أن الكاتب يُعنيه السند ويعتبر سند رواية الربيع أصح من سند روايتي البخاري ومسلم لهذا لم يتطرق إليها؟
أيضاً أقف قليلاً مع الوقفة الرابعة (روايات قتال الخوارج)، في ص56 بعدما ذكر الكاتب أن الأزمة ليست في الخوارج بقدر ما هي في أمرين: التراث، ولا توجد مؤسسات صادقة في غربلة هذا الموروث.
وأنا أتفق معه في ذلك، غير أن الأزمة أكبر من ذلك، فنحن أزمتنا أزمة فكر وقيم وعقل ومعرفة وعلم، وما الأمران اللذان ذكرهما الكاتب إلا جزءاً من هذه الأزمة الكبرى.
كما أنه يقول: “أتصور أننا اليوم بحاجة إلى مراجعة الذات ووجود مؤسسات تبتعد قليلاً عن الالتصاق بالمؤسسات السياسية الرسمية، وتبتعد عن الشعوب وتقف مع المعرفة والشهادة لله تعالى والانطلاقة القرآنية”.
السؤال هنا كيف لدول المؤسسات أن تبتعد عن المؤسسات؟ فكثير من الفوضى كداعش مثلاً انطلقت من الموروث وابتعدت عن دول المؤسسات؟
فالمجتمع المدني أصلاً قائم على المؤسسات، وهذه المؤسسات لابد أن تشرف عليها الحكومات لكي تسير وفق سياستها. كان ينبغي دعوة الحكومات إلى النظر إلى الموروث نظرة نقد ومراجعة وتحليل بوضع مؤسسات مختصة في ذلك بإشرافها.
وفي الوقت ذاته لا ينبغي أيضاً من دول المؤسسات أن تحجر الاجتهادات الفردية لمراجعة ونقد الموروث، بل عليها أن تحفز ذلك من أجل الإصلاح والتقدم والتطوير والتجديد، بل حتى مؤسسات الإفتاء هي مؤسسات حكومية وسياسية، فهي تتحرك وفق رؤية الدولة وسياستها وخطوطها العريضة.
لذا الابتعاد عن المؤسسات الرسمية والشعوب لا ينسجم مع معطيات الحاضر وإلا لصارت فوضى وعبث، ولكن على المؤسسات الرسمية والشعوب أن تتعامل مع الموروث وفق رؤية علمية ومعرفية عادلة لا وفق الأهواء والمصالح والفردانية.
3- حفظ العقل، إذا كان المؤلف وضع وقفات مع كل ضابط من الضوابط السابقة وتوسع فيها مع ذكر الأمثلة من الواقع والموروث، كان يفترض منه أن يفعل مع ضابط العقل كما فعل مع البقية، إن لم يكن ضابط العقل أوسعها وقفة وأكثرها أمثلة، غير أنه لم يتحدث عن العقل إلا اليسر ولم يجعل له وقفات.
وخاصة أن الأزمة التي هو يتحدث عنها هي أزمة فقه التطرف، وهذا الفقه يعني الفهم، إذن لدينا أزمة إغلاق للعقول والفهم وحبسها في دائرة ضيقة أو تأجيرها أو بيعها لأشخاص آخرين، فكما لدينا أزمة أخلاقية لدينا أزمة عقلية.
والأمر الآخر ذكر في المقاصد أولاً “حفظ الفكر” وهنا ذكر حفظ “العقل” فما الفارق بينهما؟
4- حفظ النسل والعرض، من الجيد هنا أيضاً أن المؤلف ذكر وقفتين وهما (الوقفة الأولى: استعباد البشر وسبيهم، والوقفة الثانية: الولاء والكفاءة في الزواج) غير أن المؤلف تحدث في بداية الحديث عن حفظ العرض والنسل حول تطبيقات الغِيبة بكلام عام عن المذاهب فيقول ص 68: “من ضمن التطبيقات السلبية رواية “لا غيبة لفاسق” ومنهم من يتوسع حتى يدخل التفسيق المذهبي الذي صنعه البشر نتيجة الصراع بين المذاهب، حيث كل فرقة لما عداها تفسق”، يفترض توضيح ذلك بالأمثلة الواقعية أو بضرب أمثلة من كتب الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، مع وجود أمثلة كثيرة في المدوّنات الأثرية، ومنها على سبيل المثال:
* رواية أحمد بن حنبل في مسنده: (الخوارج هم كلاب النار)، مع أن الرواية من حيث السند منقطعة فهي من طريق الأعمش عن ابن أبي أوفى، والأعمش لم يسمع من أبي أوفى.
* ورواية عن مالك بن أنس: (يكونُ في أُمَّتي رجلٌ يقالُ لهُ محمدُ بنُ إدريسَ أضرُّ على أُمتي مِنْ إبليسَ) وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات، فضرب الأمثلة من الواقع أو من الآثار يكسب مصداقية الكاتب فيما يطرحه، وبالإمكان إيجاد عذر للمؤلف في عدم طرحه للأمثلة وذلك من باب الابتعاد عن الحساسية بين المدارس الإسلامية، فلكي لا يتحسس أصحاب المذاهب من ضرب هذه الأمثلة، ولكن يمكن تفادي ذلك بتوضيح عدم صحة ما روي ونقده، أو عليه أن ينقل بعض الفقرات من كلام أهل الجرح والتعديل في تفسيق بعضهم البعض بسبب الخلاف المدرسي.
5- حفظ المال، وذكر هنا أيضاً وقفتين وهما: (أخذ أموال الناس للرقى وقراءة القرآن والتعاويذ، البنوك “الإسلامية” ومسمى الإسلام).
وهنا سأقف مع وقفة “البنوك الإسلامية” وقد أجاد نقد الممارسات الفقهية حولها وخلاف الفقهاء فيها، كما أنه انتقد مسمى”البنوك الإسلامية” مثلما انتقد مسميات أخرى كـ”الغناء الإسلامي، والثوب الإسلامي والشريط الإسلامي”، وكنت أتمنى لو أن المؤلف وسع الحديث حول هذه النقطة بل وحول البنوك عموماً لأنها من مهمات العصر التي ينخرط فيها الناس.
والملاحظة التي عندي حول مسمى “البنوك التجارية” والتي سماها المؤلف بـ”بالبنوك التقليدية” وفي الظن الغالب أن هذا الاسم ليس هو المسمى الرسمي لها، وإنما هذا الاسم هو نتاج الخطاب الديني المتطرف، فعندما أتت ما تسمى بـ”البنوك الإسلامية” في مقابل البنوك الأخرى أرادت أن تقصى ما هو على غير طريقتها، لأنها تنظر إليها بنظرة الريب والحرمة، فسمتها بالبنوك التقليدية، وهذا الاسم يوحي باستنقاصها إذ يحمل في باطنه الإقصاء المبطن، وذلك لإبعاد الناس عن التعامل معها في مقابل التعامل مع شيء إسلامي استغلالاً لعواطف المسلمين وترويجاً لنفسها باسم الدين.
وحينما نعود إلى مسمى البنوك في عمومها وخاصة المسماة في الخطاب المتطرف بالتقليدية فالمسمى الرسمي لها هو “البنوك التجارية” لا لأنها تمارس نشاطاً تجارياً، بل لأنها تقوم بتمويل النشاط التجاري مقابل فوائد لأجل معين، وأحياناً تسمى بـ”بنوك الودائع” لأنه يقبل الودائع من الأفراد والهيئات. وهذا المسمى بسبب نشأتها في انجلترا من قبل الصاغة، عندما كان الصائغ يحفظ موجودات الناس من الأموال في خزائن لديه ويسحب منها عند الحاجة مقابل اتعاب تدفع للصائغ ثم تطورت، وبهذا نشأت البنوك وسميت ببنوك الودائع أو التجارية.
فيا ليت المؤلف ابتعد عن إطلاق مسمى التقليدية على التجارية، وفي النهاية كلها تجارية سواء اندرجت تحت مسمى إسلامية أو تحت مسمى تقليدية، غير أن نبرة الإقصاء المبطن حاضرة في مسمى التقليدية والذي ينبغي أن يرتأي المؤلف عنه لينسجم مع نقده البناء لفقه التطرف.
[1] الإسراء/ 9.