المقالات الإجتماعية

الغش خطر يهدد المجتمع

الغش قرين الخيانة، بل هو من أكبر مظاهرها، وهو إظهار الشيء على غير حقيقته، أو إخفاء بعض عيوبه، أو التظاهر بما يخالف الحقيقة لمقاصد محددة، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

فقرن الله في الآية خيانة الأمانة بخيانة الله والرسول، فالخيانة أبعد من الخيانة الفكرية الدينية، إذ تتعدى إلى الخيانة السلوكية والعملية من خلال أبرز مظاهرها وهو الغش.

الغش الديني:

وهذا له مظاهر متعددة، وجوانب متشعبة، وأبعاد عميقة، ذكر الله تعالى فيه نماذج في كتابه، لا يمكن حصرها في هذا اللقاء، ولكن سنشير إلى بعض مظاهره.

من أكبر مظاهر استغلال الدين كطريق لكسب منافع دنيوية، وهذا يظهر كثيرا عند شيوخ الدين، وممن لهم حظ في فقه الشريعة، ولذا سمهاهم الله تعالى بالأحبار والرهبان، وهذا ليس خاصا باليهود، بل هو يعم الأمم جميعا، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.

وعليه سنجد التأكيد على هذا الغش بعدة مؤكدّات في الآية: [إنّ المؤكدّة؛ ولفظة كثيرا؛ ولام التوكيد: ليأكلون]، وعليه سيضطرون إلى الغش التحريفي للشريعة لتحقيق أكبر قدر من المنافع الدنيوية [وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] أي عن منهج الله تعالى، وهذه خيانة لله، ولأمانة الدين، كما يفعل من يستغل القرآن كذبا في علاج الناس، ومن يستدل بالآيات في غير محلها تقربا لصاحب سلطة أو جاهٍ أو مال.

ومن خيانة الدين هجر القرآن الكريم، قال سبحانه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا}، وجعل القرآن الكريم المهيمن والمصدّق محكوما لا حاكما، وحجز تدبره وهيمنته وتصديقه بكلام ينسب إلى الرسول أو الصحابة أو التابعين أو البشر من العلماء، فتم وضع حاجز عن الوصول إلى هيمنة ومصداقية القرآن، وهذه خيانة لله والرسول.

ومن الغش الديني أيضا النفاق، وهذه أسهب القرآن الكريم في ذكرها، وعلى رأسها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، فالتظاهر أمام الناس بالإيمان والتدين والتقوى، وفي الخفاء العصيان والفجور، وهذا هو لباس الرياء الذي حذّر منه الأنبياء.

ونختم حديثنا في الغش الديني بظاهرة استخدام الشريعة أو الدين كشعارات ظاهرية لكسب أكبر قدر من الناس، أو من أجل الاتكاء على الشعوب المتدينة، فيقولون مثلا: الشريعة الإسلامية، أو التسمي بأسماء التدين كقنطرة لتحقيق أغراض سياسية أو حزبية أو انتخابية ونحوها، وهذا من الغش الديني.

الغش السياسي:

السياسة في جوهرها تكليف للنيابة عن المجموع (الشعب) في تحقيق العدل والمساوة والحرية، وحفظ الناس في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، فهذه كلية في الحاكم، أو جزئية في الوزراء ومن تحتهم، وفي أي منصب أو جاه كمجلسي الشورى والبلدية.

وعليه يكون المنصب هنا تكليف لتحقيق مصالح الناس بالعدالة، بعيدا عن التوجهات الدينية والمذهبية والقبلية والجنسية.

إلا أننا نجد من يستغل هذه المناصب المخولة ظاهريا في خدمة المجموع، وباطنيا في خدمة الذات وأولي القربى.

مثال ذلك: تقريب الأفراد وتوظيفهم لا على أساس الكفاءة، وإنما على أساس القبلية والجنسية، وكذا الحال في توزيع الثروات والحكم بين الناس وما شابهه، وهذا هو الغش السياسي، وهو من خيانة الأمانة الموكلة للشخص كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

الغش الاجتماعي:

المجتمع برمته أمة واحدة، بداية من الوالدين وحقوقهما، نزولا إلى الأقارب والزوجية والجوار والأولاد والعمال والأصدقاء ونحوهم، ويجمل هذا قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}.

فالإنسان مهما كان وضعه الاجتماعي ونسبه له حقوق وعليه واجبات، وعليه أن يضع كلّ ذي حق في موضعه، فلا يجوز أن يستغل وضعه الاجتماعي في غش الناس وتحقيرهم، فالميزان واحد في المجتمع.

فلا يظلم مثلا أحد الزوجين الثاني باعتبار الجاه أو المال أو النسب، وكذا الحال في الجوار والصحبة وغيرها.

الغش المالي:

لقد مثل الله تعالى الإصلاح المالي من خلال قصة نبيه شعيب عليه السلام، والذي كان من أبرز مظاهر دعوته كما يقول سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

فشعيب عليه السلام عاش في أمة طغى فيها الانحراف المالي، والجشع البشري، لذا أمرهم إيجابا بالوفاء والقسط والعدل في الكيل والميزان، والسلب في عدم بخس الناس حقوقهم، وهذه قاعدة عامة تتفق والزمان والمكان، وتجعل المجتمع متزنا معتدلا.

وعليه كان من الوصايا العشر والتي أرساها جميع الأنبياء: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.

وعليه لا يجوز خداع الناس في كسب أكبر قدر من المال كالفوائد الربوية، والمعاملات الظلمية المغلفة بعقود شرعية، والرشوة، والاحتكار وغيرها كما حذّر سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.

فكسب المال، وقوة الاقتصاد أمر مطلوب، ولكن ليس عن طريق الغش وخداع الناس والكذب عليهم.

الغش العلمي والاختراعي:

وهذا من أكبر أنواع الغش، وأكثر ضررا على الأمة والإنسانية، وأصل هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.

ومن مظاهر هذا الغشِ الغشُ في الامتحانات والشهادات، وسرقة المؤلفات والاختراعات، ونسبة الإبداعات والتصورات العلمية إلى غير أهلها، واستغلال المناصب العلمية لغير أصحابها، وهذا ظلم كبير، وخطأ جليل، ضرره يعود على الإنسانية عموما.

خاتمة:

من خلال ما تقدم يتبين للقارئ الكريم خطر الغش، وليس له جانب واحد، بل ضرره يتغلغل إلى المجتمع ككل بجميع أفراده ولبناته، من هنا يجب الوقوف ضده وتعريته، والتحذير منه قانونا ووعظا وتربية وإصلاحا.

جريدة عمان 1434هـ/ 2013م

السابق
سؤال حول استجابة الرماة لأمر الرسول في أحد بين العقل والنقل
التالي
نعمة الغيث وإلقاء النفس في التهلكة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً