المقالات الفكرية

ثالوث تخلّف المجتمعات

جريدة عُمان، 4 مارس 2025م

شاع سابقا أنّ ثالوث التّخلّف هو الجهل والمرض والفقر، حيث تعاني العديد من دول العالم من حالة غير إنسانيّة نتيجة صراعات أهليّة وماضويّة، ولأسباب ارتفاع مستوى عدم تحقّق المساواة والعدالة، وسوء إدارة الموارد، ولكن لا يمكن أنّ نجعل التّخلّف يعود إلى الجهل والمرض والفقر في حدّ ذاتهما، فهذه الثّلاثة مصاديق تدلّ على التّخلّف، ونتيجة لهذا التّخلّف وليست هي سبب التّخلّف؛ لأنّ للجهل اقتضاءات أدّت إليه، لأسباب صراعيّة أو احترابيّة أو إداريّة، وكذلك المرض والفقر، ومن خلال تأملي في العديد من المناطق الّتي تنخفض فيها العدالة غير الإنسانيّة، وتتمدّد فيها حالات انخفاض تحقّق مصاديق المساواة والعدالة، أرى أنّها لا تتجاوز ثالوث الدّين والسّياسة والثّقافة، وليس الجهل والمرض والفقر.

فأمّا الدّين فعندنا النّصّ وما بعد النّصّ، وكثيرا ما يشكّل الإنسان في تأريخه فهومات النّصّ، ومع مرور الزّمن يدخلها في الدّين، وتأخذ حيّزا في تفكيره وعقائده، وتشكّل مذاهبه وطرقه، فعندما كان يتعامل مع النّصّ أنّه جاء لتحقيق مقاصد الإنسان الكبرى في الوجود، أصبح المدار هو الانتصار للذّات أو المصالح السّياسيّة والطّائفيّة والمذهبيّة، كما أنّ قيم النّصّ المطلقة والمرتبطة بذاتيّة الإنسان الواحدة، والأصل أن يرقى العقل الدّينيّ في تحقّق مقاصدها، نجد أنّه يرهن مصاديق القيم للتّأريخ والمذهب والظّرفيّ، فيعيش الإنسان في ظلّ خطاب دينيّ وفق ظرفيّة لا علاقة لنا بها، ولكنّها لأسباب تأريخيّة أصبحت من الدّين ذاته.

فعندنا نحن – غالب المسلمين – أنّ النّصّ المقدّس توقف عند إكمال الدّين ذاته في عهد النّبيّ الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم -، والمتأمل في هذا النّصّ نجد المتّعلّق بحركة الحياة نسبته قليلة جدّا، وغالبه مجملا أو معلّلا، لترك مساحة واسعة للعقل البشريّ في التّدافع لبناء الإنسان، وتحقيق مقاصد قيمه الواسعة، فمفهوم الدّولة والحكامة مثلا لا نجد لها تلك الحرفيّة في النّصّ الأول؛ لأنّها متحركة، وكذلك في التّشريعات القانونيّة، والمعاملات البشريّة.

ولمّا كان الرّومان ثمّ خلفهم المسيحيون يسجلون حولياتهم، ويركزون على الأحداث والصّراعات السّياسيّة كالحروب وتعاقب الملوك والحكّام، مع ذكر بعض الجوائح والأحداث الكبرى، لكنّها لا تلتفت بشكل كبير إلى الجانب الحضاريّ والثّقافيّ، وتختصر قرون الأمم في هذه الصّراعات، والأمر ذاته لمّا خلفهم المسلمون، ودوّنوا حوليّاتهم، حتّى فيما يتعلّق بالسّيرة النّبويّة، ركّزوا على الحروب والمغازي والصّراعات السّياسيّة، ويكاد أنّ هذه الأمم ينعدم لديها أيّ شكل من الحضارة، وتعدّد الثّقافة، إلّا ما ذكره لاحقا غيرهم كالأدباء والشّعراء، ويستلهم من الاجتهادات الفقهيّة، وبعض معالم الرّوايات الحديثيّة.

ثمّ لا توجد إشكاليّة في هذا، إذا استطاع العقل الدّينيّ أن يمايز بين النّصّ وبين الأحداث السّياسيّة، ولو ارتفعت عنها مصاديق الحضارة والثّقافة والّتي تعنى بالإنسان بشكل أكبر، الإشكالية عندما تتحوّل هذه الصّراعات السّياسيّة إلى الدّين نفسه، ويصبح بدل الالتفات إلى قيم الإنسان لتحقيق كرامته وإنسانيّة، ندور وفق شخوص التّأريخ، كما يحدث اليوم في تجسيد مسلسلات تأريخيّة آخرها الجدل حول مسلسل معاوية بن أبي سفيان، والّذي عادة ما تعرض هذه الأفلام والمسلسلات التّأريخيّة لأجل انتصارات طائفيّة ومذهبيّة، يجعل العقل الإسلاميّ والعربيّ يعيش تلك الحقبة وفق صراعتها السّياسيّة، لتشغله عن مشاكله الإنسانيّة الكبرى اليوم، وتحقّق رؤية الإنسان في البناء الحضاريّ، والتّعدّيّة الثّقافيّة وفق اللّحظة الّتي نعيشها.

هذا الأمر ذاته في الجدليّات الكلاميّة، والاجتهادات الفقهيّة، فلها أسبابها التّأريخيّة، وطبيعتها المتحرّكة وفق الأدوات العقليّة، والظّروف الزّمكانيّة، وتشكّل مذاهب كلاميّة وفقهيّة وغنوصيّة، فهي حالة طبيعيّة تدلّ على سعة المتحرك ما بعد النّصّ ذاته، لا أن يتحوّل هذا المتحرّك إلى نص مغلق يعوق حركة نهضة الإنسان، ويجعله يعيش في صراعات كلاميّة، وخلافات فقهيّة، تحولت إلى دين متراكم بسبب الاجتهاد البشريّ، والّذي سيكون هذا الدّين المتراكم تأريخيّا لا نصيّا سببا مؤديّا إلى صراعات سياسيّة وأهليّة تؤدّي بشكل طبيعيّ إلى الجهل والمرض والفقر، وليس إلى الإحياء والبناء وتحقيق مقاصد القيم الكبرى وفق زمنيّة ومكانيّة اللّحظة وليس الماضي المنتهي بظروفه الزّمكانيّة.

الدّين بهذه الصّورة المتراكمة يؤثر في الاجتماع البشريّ، كما أنّه سيؤثر بشكل طبيعيّ في المتحرّك السّياسيّ، فهنا يأتي ثاني الثّالوث وهو السّياسة، والّتي في الأصل أن تتحرّر من الماضي لتهذّب أدبيات الماضي ليعيش واقعه، وأن تعنى بقيم الإنسان الكبرى لتحقيق مصاديق كرامته وإنسانيّته، لنجد اليوم العديد من السّياسات تكون سببا كبيرا في تخلّف المجتمعات، وقيده إلى طيش الخلافات والصّراعات الأهليّة، والأصل في السّياسة أن تكون خارج صندوق المكونات الدّينيّة والمذهبيّة والثّقافيّة، منطلقة من ذاتيّة الإنسان الواحدة والمتساوية لتحقيق العدالة في ضوء المحافظة على المواطنة الواحدة والمشتركة، بيد أنّها تحصر ذاتها في صندوق الطّائفيّة، للحفاظ والتّقرب مع هيمنة طائفة ما لها الغلبة لسبب ديمغرافيّ أو تأريخيّ أو ماديّ، فتضيق سعة السّياسة لأنّها دينت، كما أنّها تفسد الدّين ذاته، ويحدث التّزاوج السّلبيّ بينهما، والّذي يساهم بشكل كبير في غياب قيم الإنسان وذاتيّته الواحدة، وجرّه إلى مصاديق مؤديّة إلى الجهل والمرض والفقر.

هذا الأمر ذاته ينطبق على الثّقافة، وهي في الأصل واسعة ومستقلّة في الوقت ذاته، وغايتها الإنسان، فهي راصدة وناقدة للدّين التّأريخيّ والسّياسات المستندة إليه، والخطاب المترتب عليهما يعتبر ضمنيّا خطابا ثقافيّا، بيد أنّه إجرائيّا إذا استقلّ الخطاب الثّقافيّ يتهذّب هذان الخطابان؛ لأنّ الخطاب الثّقافيّ دائرته أوسع، وينطلق من قاعدة مستقلّة، فإذا كان المثقف مصالحيّا لا ينطلق من غاية الإنسان، ودوره المستقل في تحقّق قيم الإنسان، متجاوزا الماضي إلى الحاضر، والأنا إلى الذّات الإنسانيّة، هذا المثقف إذا لم يحافظ على هذا الخطّ الرّأسي، لن يكون بينه وبين من يحيي صراعات ماضويّة، أو يريد أن يحافظ على وجوده ومنافعه وشهرته باسم الطّائفة أو المذهب أو الدّين أو المجتمع؛ لن يكون بينهما فارقا إلّا في الأدوات المستخدمة، ويكون أيضا أداة للسّياسة السّلبيّة القائمة على تكريس التّخلّف، ثمّ تكون الثّقافة هنا ثالوث التّخلّف المؤدّي إلى الجهل والمرض والفقر تماما.

السابق
المطاعم في نهار رمضان وقضيّة تقنين فتحها لمن يباح له الفطر
التالي
معرض مسقط للكتاب وضيف الشّرف
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً