ملحق عمان الثّقافي 1444هـ/ 2022م
يرى غطاس عبد الملك خشبة [معاصر] في مقدّمته لكتاب رسالة في علم الموسيقى للصّفديّ [ت 764هـ/1363م] أنّ الموسيقى في الأصل “لفظ يونانيّ معرّب، يُطلق على فنون العزف، لا على آلات الطّرب”، ويرى غطاس أيضا في مقدّمته لكتاب الموسيقى الكبير للفارابيّ [ت 339هـ/ 950م] أنّ “الموسيقى صناعة في تأليف النّغم والأصوات ومناسبتها وإيقاعها، وما يدخل منها في الجنس الموزون والمؤتلف، والكميّة والكيفيّة”، إلا أنّها أصبحت تطلق على الآلة ذاتها، واشتهرت الآلة في التّراث الدّينيّ الإسلاميّ بالمعازف، ومن الموسيقى كان علم الموسيقى، والموسيقى النّظريّة، والموسيقولوجيا ونحوها.
والموسيقى ملازمة للغة، وكامنة فيها، وتتجاوز المفردات المعجميّة إلى روح الجملة المتولّدة من هذه المفردات، لهذا نجد النّصّ القرآنيّ مثلا نصّا موسيقيّا في جمال سياق مفرداته، كما نجد ذلك في الشّعر والأدب عموما، ويذهب عبّاس محمود العقّاد [ت 1964م] أبعد من هذا: “يقولون إنّ الموسيقى هي اللّغة العامّة، وهذا قول حق، ولكنّه أجدر أن يكون وصفا لخاصّة من خواص الموسيقى هي الّتي جعلتها لغة النّاس أجمعين، يفهمونها على اختلاف اللّغات بسليقة فيهم ليست بالقوميّة ولا الإقليميّة، ولكنّها سليقة الإنسان في كلّ موطن وزمان، وأحقّ من هذا أن نقول إنّ الموسيقى تعبير يترجم عن حالات نفسيّة لا يقصد بها أن تكون لغة عامّة أو خاصّة، ولكنّها لغة عامّة بغير قصد من الهاتفين بها والسّامعين … والعلم بأنّ الموسيقى تعبير، وأنّ الأصوات لا تطرب بذاتها، ولكنّها تطرب بالشّعور الّذي توحيه، والخاطر الّذي تمثله في الطّبائع والأذهان، يفسح للنّفس دائرة الطّرب، ويقيم لها الكون كلّه، وكأنّة فرقة غناء تفتأ تصدح لمن يسمعها وهي ناطقة وصامتة، وتدأب على الإيقاع وهي معبرة، وغير محتاجة إلى التّعبير”.
وربط الفلاسفة والفقهاء المسلمون القدامى الموسيقى (المعازف) بالصّوت الحسن، بيد أنّ المتأخرين في القرن العشرين خصوصا ربطوها بعلم الجمال، فمن المتقدّمين الّذين ربطوها بالصّوت الحسن مثلا أبو حامد الغزاليّ [ت 505هـ/ 1111م] حيث يجد “علاقة كبيرة بينهما، ممّا يحدث لذة في حواس الإنسان، فالبصر لذته النّظر إلى المبصرات الجميلة كالخضرة، والشّم لذته الرّوائح الطّيبة، واللّمس لذته مسّ النّاعم، والعقل لذته العلم والمعرفة، وهكذا السّمع لذته الصّوت الحسن من جماد وإنسان”، لهذا يرى “أصل المعازف حناجر الحيوانات، فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرّم لكونها طيبة أو موزونة، فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب والطّيور، لهذا ينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الإنسان كالقضيب والطّبل والدّف وغيرها من الآلات”، لهذا تأثير الموسيقى على الإنسان شيء غريزي كسبيّ، فيرى “أنّ النّغمات الموزونة لها تأثير في الأرواح، فمن الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، وهذا لا يقتصر على الشّعر؛ بل يعمّ الأوتار وغيرها، فإذا كان الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء، فما بالك بالإنسان العاقل الحيّ؟”.
وذهب أبو الفتوح أحمد الطّوسيّ الغزاليّ [ت 520هـ] مذهبَ أخيه أبي حامد الغزاليّ في رسالته بوارق الألماع في تكفير من يحرّم السّماع، فيرى “أنّ حاجة الطّبيعة الإنسانيّة إلى الصّوت لأنّها من كمالاته الصّوريّة والمعنويّة، كما أنّ الطّبيعة الجسديّة يحتاج في بقائها إلى الغذاء من حيث هو غذاء، حتى يختار الغذاء إليه حالة الاحتياج إليه على جميع محتوياته جاها ومالا، فلمّا حصل في الصّوت زيادات ترتيبات ومنشيات ذوقيّة وحيّة، وهو علم للموسيقى؛ مالت الطّبيعة إليه أقوى من ميلها إلى ما سواه من اللّذات”.
ومن المتأخرين ممّن قال برأي الغزاليّ الشّيخ محمود شلتوت [ت 1963م]، واعتبر الغناء والموسيقى لا تنفصل عن الفطرة، “فالله تعالى خلق الإنسان بغريزة يميل بها إلى المستلذات والطّيبات الّتي يجد لها أثرا طيّبا في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه، فتراه ينشرح صدره بالمناظر الجميلة، كالخضرة المنسقة، والماء الصّافيّ الّذي تلعب أمواجه، والوجه الحسن الّذي تنبسط أساريره، ولهذا لا يمكن عقلا نزع هذه العاطفة أو إماتتها أو مكافحتها في أصلها”، “فإذا مال الإنسان إلى سماع الصّوت الحسن، أو النّغم المستلذ، من حيوان أو إنسان، أو آلة كيفما كانت، أو مال إلى تعلّم شيء من ذلك؛ فقد أدّى للعاطفة حقّها، بحيث يقف مع هذه الغريزة مع الحدّ الّذي لا يصرفه عن الواجبات الدّينيّة، أو الأخلاق الكريمة، أو المكانة الّتي تتفق ومركزه”.
كذلك ذهب محمّد الشّريف الرّحمونيّ التّونسيّ [ت 2019م] مذهب الغزاليّ في مقدّمته لكتاب فرح الأسماع برخص السّماع لمحمّد بن أحمد بن الحاج الشّاذليّ [ت 882هـ] فيرى “أنّ النّغم شيء غريزيّ فطريّ عريق بالنّسبة للإنسان، خلق معه يوم خلقه الله تعالى، ووجد معه يوم ظهر على هذه الأرض”، ويرى “أنّ أصله يعود إلى أصوات الطّبيعة، مثل أصوات الرّعد والمطر وأصوات الحيوانات، ثمّ أعجب الإنسان ببعض الأصوات، وأنكر أصواتا أخرى، فحاول تقليد ما أعجب، ثمّ آخى بين بعضها، وزاوج بعضها الآخر، فأنتج أصواتا جديدة كالحزن والفرح، ثمّ اخترع الأدوات الصّوتيّة، والآلات الموسيقيّة؛ ليريح نفسه من عناء التّقليد والتّصويت، ثمّ شارك بين صوته وصوت الآلات”، وهذا يدخل في فلسفة المحاكاة، والمحاكاة كما قلتُ في كتابي الجمال الصّوتيّ “فلسفة قديمة عند الإنسان، ولسببها حاول كشف سنن الوجود، فحاول محاكاة الطّيور لأجل أن يطير، وحاول أن يحاكي الحصان لأجل أن يكتشف آلة تختصر له الزّمن في التّنقل …. ومن المحاكاة حاول محاكاة حناجر الحيوانات ليصنع آلات تخرج الصّوت عن طريق الأنبوب أو النّفخ أو الضّرب على الأوتار، كما أنّه حاول محاكاة الطّبيعة في ظهور الأصوات بقوّة فسّخر جلود الحيوانات في صناعة الطّبول ونحوها، كما أنّ الإنسان أيضا كما قام بمحاكاة الطّبيعة في الحسّ؛ حاول محاكاة الكون في النّظم والأشعار، فجعلها موزونة بشكل تدخل اللّذة في السّماع، ثمّ حاول أن يقرّب الجمال في الكون والطّبيعة من خلال المفردات الحقيقيّة لتشكل بعدا مجازيا وبلاغيّا من خلال الخيال والتّشبيهات والاستعارة، وهكذا استطاع أن يصنع بعض الألحان لتجمع بين الآلة وهذا الكلام الموزون”.
وعلى هذا ذهب العديد من المفسرين في قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1] أنّ المراد بـــ{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} الصّوت الحسن كما عند ابن عباس [ت 68هـ]، وعبد بن حميد [ت 249هـ]، وابن أبي حاتم [ت 327هـ] وغيرهم، وعلى عموم الصّوت الحسن بعضم لا يمايز أصَدَرَ من حنجرة إنسان أم من آلة كما يرى عبد الصّبور شاهين [ت 2010م]: “ونأتي إلى تحليل الأصوات الموسيقيّة وهي ليست سوى أصوات صادرة عن الأصوات عن جمادات، سواء كان الجماد يهتز، أو ثقبا ينفخ فيه، أو سطحا يقرع، فإنّ الأصوات النّاشئة عن هذا الاهتزاز، أو النّفخ، أو القرع؛ لا تغني شيئا، ولا تقول شيئا، إلا ما يكون من تناسق أو انسجام بينهما، نتيجة ما يسمى بالتّوزيع، وهذا التّوزيع شكل من الأشكال الإنسانيّة، ومهارة تشبه مهارة الشّاعر في اختيار الكلمات والأدوات والأوزان، ليقدّم في النّهاية قصيدته كما يقدّم الموسيقي مقطوعته، وكلّ منهما يتعامل مع الوجدان، وهزّ المشاعر، ولهب العواطف”.
وأمّا ممّن ربطها بعلم الجمال محمّد عمارة [ت 2020م] في كتابه الإسلام والفنون الجميلة، فيرى “أنّ الغناء [ومنه الموسيقى] لا يعدو أن يكون بعضا من ألوان الجمال الّذي خلقه الله تعالى، ومعيار الحلّ والحرمة فيه هو وظيفته الّتي يوظّف فيها، والمقصد الّذي يقصده النّاس من ورائه، فإن أسهم في ترقية السّلوك الإنسانيّ، والارتقاء بعواطف النّاس، وأعان على تذوق نعم الله في كونه، والكشف عن آيات الجمال في إبداعه؛ كان خيرا، وإلا فهو منكر بلا خلاف”.
وحاول يوسف القرضاويّ [معاصر] في كتابه الإسلام والفنّ أن يجمع بين نظريّة الغريزة عند الغزاليّ، وفلسفة الجمال كما عند عمارة، ليخلص إلى أنّه “لـــو تأمّلنـــا لوجـــدنا حـــبّ الغنـــاء والطــّـرب للصّـــوت الحســـن يكـــاد يكـــون غريـــزة إنسـانيّة، وفطـرة بشـريّة، حتـى إننـا لنشـاهد الصّـبيّ الرّضـيع فـي مهـده يسـكته الصـّوت الطّيــب عــن بكائــه، و تنصــرف نفســه عمّا يبكيــه إلــى الإصــغاء إليــه، ولــذا تعــوّدت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل نقول: إنّ الطّيور والبهـائم تتـأثر بحسـن الصّـوت والنّغمـات الموزونـة …. فإذا كان حبّ الغناء غريزة وفطرة فهل جاء الدّين لمحاربة الغرائز والفطر؟ والتّنكيل بها؟ كلا، إنّما جاء لتهـذيبها والسّـمو بهـا، وتوجيههـا التّوجيـه القـويم”.
أمّا من حيث النّصّ الدّيني في الإسلام سنجد النّصّ الأول – أي القرآن – يضعها أقرب إلى المسكوت عنه كما يعبّر في الأثر الفقهيّ العمليّ، حيث لا نجد آية صريحة في ذلك إيجابا ولا سلبا، بل يعمم ابن دقيق العيد [ت 702هـ] المسكوت عنه حتّى في النّصّ الثّاني [السّنّة والرّواية] باعتبار الصّحة كما في قوله: “لم يرد حديث صحيح على منعه، ولا حديث صحيح على جوازه، وهذه مسألة اجتهاد، فمن اجتهد وأدّاه اجتهاده إلى التّحريم قال به، ومن اجتهد وأدّاه اجتهاده إلى الجواز قال به”، ويرى ابن حزم [ت 456هـ] ما ورد في النّصّ الثّاني جميعه لا يصح، “ولا يصح في هذا الباب – أي باب التّحريم للغناء والمعازف – شيء أبدا، وكلّ ما فيه موضوع، ووالله لو أسند جميعه، أو واحد منه عن طريق الثّقات عن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – لما ترددنا في الأخذ به”، ويرى القرضاويّ “أنّ النّصوص الّتي استدل بها القائلون بالتّحريم إمّا صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح، ولم يسلم حديث واحـد مرفـوع إلـى رسـول الله – صلّى الله عليه وآله وسلّم – يصلح دليلا للتّحـــريم، وكـــلّ أحـــاديثهم ضـــعّفها جماعـــة مـــن الظّاهريـّــة، والمالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة”، وأبطل محمّد بن عليّ الشّوكانيّ [ت 1250هـ] في رسالته إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السّماع الإجماعَ في تحريم مطلق السّماع ولو مع آلة، لوجود الخلاف حتّى في الأدلّة وعمل الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم.
وأمّا من حيث النّصّ الأول القرآن فهو من المسكوت عنه كما أسلفنا، وهو ذاته ما عبّر عنه خالد الوهيبيّ [معاصر] في رسالته الموسيقى وتقاليد الحكم في عُمان بقوله: “أنّ الغناء والمعازف ممّا سكت عنه القرآن، فهي داخلة في دائرة المسكوت عنه، والمسكوت عنه في القرآن متروك للنّاس يصرفونه بما ينفعهم، وتعمل فيه الخبرة الإنسانيّة بتراكمها الّذي تستفيد منه ممّا سخر الله لها في السّماوات والأرض”، بيد أنّ العديد من المحرمين استند إلى قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان/ 6]، واستندوا إلى تأويل ابن مسعود [ت 32هـ] وابن عباس [ت 68هـ] وعكرمة [ت 94هـ] وغيرهم أنّ لهو الحديث هو الغناء، بيد أنّه ردّ لوجود تأويلات أخرى عديدة تفيد عموم لهو الحديث، ولا يخصّص بالغناء فقط، ومنه الباطل كما عند عطاء [ت 114هـ]، والشّرك بالله كما عند الضّحاك [ت 111هـ]، وما ألهى عن الله كما عند الحسن البصري [ت 110هـ]، فهذا الخلاف يدل على عموميّة الإلهاء، وتخصيصه بالغناء لا يوجد فيه دليل صحيح، وحتّى ما روي مع ضعفه فهو معلل بالإضلال والصّد عن سماع الكتاب، كرواية النّضر بن الحارث [ت 2هـ] أنّه كان يجلس بمكّة، فإذا قالت قريش: إنّ محمّدا قال كذا وكذا؛ ضحك منه، وحدّثهم بأحاديث ملوك الفرس، ويقول: حديثي هذا أحسن من قرآن محمّد، ومنه رواية أنّ الآية نزلت في رجل من قريش، اشترى جارية مغنية، فشغل النّاس بلهوها عن استماع النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، ولهذا ردّ ابن حزم على تخصيص لهو الحديث بالغناء إذ يقول: “لا حجّة في هذا لوجوه أحدها: أنّه لا حجّة لأحد دون رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -، والثّاني: أنّه قد خالف غيرهم من الصّحابة والتّابعين، والثّالث: أنّ نصّ الآية يبطل احتجاجهم بها؛ لأنّ فيها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، وهذه صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف؛ إذا اتّخذ سبيل الله هزوا، ولو أنّ امرأ اشترى مصحفا ليضلّ به عن سبيل الله؛ كان كافرا بلا خلاف، فهذا الّذي ذمّ الله تعالى، وما ذمّ قط من اشترى لهو الحديث ليتلهى به، ويروّح نفسه، لا ليضلّ عن سبيل الله”، وبعموميّة لهو الحديث قال أغلب المتأخرين كما عند سيّد قطب [ت 1966م] في الظّلال: “ولهو الحديث كلّ كلام يلهي عن القلب، ويأكل الوقت، ولا يثمر خيرا، ولا يؤتي بحصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصّلاح”، وكذا محمّد حسين فضل الله [ت 2010م] في تفسيره من وحي القرآن: “وإذا كانت بعض الأحاديث المأثورة قد فسّرت لهو الحديث بقصص الأكاسرة والجبابرة، أو بالغناء؛ فإنّ الجو الّذي تتحرك به الآية أوسع من ذلك …”.
فلهو الحديث مطلق وعام، وهذا المطلق ذاته مقيّد بالإضلال، وهي العلّة الّتي يدور حولها النّص كان في الغناء أم غيره، وهذه أهم الآيات الّتي استند إليها المانعون أو المحرّمون، وأمّا باقي الآيات الأخرى كآية الزّور، واللّغو، واستفزز من استطعت منهم بصوتك ونحوها، فجميعها لا مستند لهم فيها، وتخصيصها لا يخلو من علّة، كما يرى في ذلك الطّبريّ [ت 310هـ] في تفسير جامع البيان: “وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصّحة أن يقال إنّ الله تبـارك وتعالـى قال لإبلـيس: واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك، ولـم يخصص من ذلك صوتا دون صوت، فكلّ صوت كان دعاء إلـيه وإلـى عمله وطاعته، وخلافـا للدّعاء إلـى طاعة الله، فهو داخـل فـي معنى صوته”، وبمثله يرى يحيى رضا جاد [معاصر] في بحثه فقه الغناء والموسيقى: “فالصّوت هنا بذاته ليس موضوع الذّم، وإنّما ذمّه واستقباحه لكونه يستخدم في الدّعوة إلى الشّيطان وحزبه، فالأصوات – بما فيها الغناء والمعازف – لا ينالها الذّم إلا أن تكون وسيلة شيطانيّة تستخدم في الدّعوة إلى معصية الله، والفسوق عن أمره ونهجه، أمّا إذا استخدمت في غير ذلك فإن الآية لم تتعرض لذلك على الإطلاق، لا باللّفظ ولا بالفحوى”.
وأمّا النّصّ الثّانيّ فقد جمّع محمّد رشيد رضا [ت 1935م] في مجلّة المنار عند جوابه لأهل جاوة بإندونيسيا روايات الغناء والمعازف، فاستقرأ روايات الحضر والإباحة، فوجد روايات الحظر تسع روايات، وتتمثل في رواية “مجيء قوم من الأمّة يستحلّون الحر والحرير والخمر والمعازف، ورواية وضع ابن عمر [ت 73هـ] أصبعيه في أذنيه لمّا سمع صوت زمارة، ورواية تحريم الكوبة أيّ الطّبل، ورواية الخسف والمسخ والقذف الّذي سيكون في الأمّة بسبب ظهور المعازف والخمر، ورواية الرّيح الحمراء الّتي ستظهر في الأمّة بسبب عدة مفاسد ومنها ظهور القيان والمعازف، ورواية المسخ إلى قردة وخنازير بسبب استحلال الخمر وضرب الدّفوف واتخاذ القيان، ورواية أنّ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – أمر بمحق المزامير والكبارات أي المعازف، ورواية النّهي عن بيع القينات أي المغنية وشرائهنّ، ورواية ابن مسعود [ت 32هـ]: الغناء ينبت النّفاق في القلب”.
وباستقراء محمد رشيد رضا لهذه الرّوايات استخلص أنّها لا تصح إلا الأول، أي رواية “ليكوننّ من أمّتي قوم يحلّون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف”، ومع هذا هي معلّلة، وليست على الإطلاق في الحرمة، على أنّ ابن حزّم بيّن أنّها موضوعة لأمرين: الأول الانقطاع ما بين البخاريّ [ت 256هـ] وهشام [ت 145هـ]، “فضلا على أنّ هشاما متكلّم فيه، ومنهم من قال فيه كلاما آخر”، منها “حدّث هشام بأربعمائة حديث مسندة ليس لها أصل، يدور على أحاديث أبي مسهر وغيرها، يلّقنها هشاما يتحدّث بها، وكنت أخشى أن تفتك في الإسلام فتقا”، “والأمر الثّاني: جهالة الصّحابيّ، حيث لم يوضح الرّاويّ هل الصّحابيّ أبو مالك أم أبو عامر”.
لهذا لجأ محمّد رشيد إلى المقارنة بين روايات الحظر والإباحة، فيرى أنّ روايات الإباحة “تمثلت في ستّ روايات، وهي رواية الجاريتين اللّتين تغنيان بمحضر النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – غناء بعاث، ورواية حبّ الأنصار للّهو، ورواية الجويريات اللّاتي يضربن بالدّف، ورواية الفصل بين الحلال والحرام الدّف والصّوت في النّكاح، ورواية ترخيص اللّهو في العرس، ورواية نذر الجارية أن تضرب بالدّف وتغني بين يدي النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم –”، فخلص من المقارنة إلى أنّ “أحاديث الإباحة مرجّحة بصحتها وضعف مقابلها ونكارته، وأحاديث الإباحة موافقة لأصل الشّيء وهو الإباحة، وأحاديث الإباحة موافقة ليسر الشّريعة والفطرة”.
وإذا كان القدامى في الرّؤية المنفتحة على الغناء والمعازف عالة على ابن حزم والغزاليّ، فإنّ المحدثين عالة على محمّد رشيد رضا، لهذا لكون روايات الحظر والمنع مخالفة للسّنن الطّبيعيّة في الجمال الصّوتي، ولروايات الإباحة ذاتها، بحثوا عن سبب ذلك وشيوعها مع ضعف جملتها، فيرى محمّد رضا سبب ذلك أنّ “كثيرا من أئمة العلماء الزّهاد شدّد النّكير على أهل اللّهو لما كثر وأسرف النّاس فيه عندما عظم عمران الأمّة، واتّسعت مذاهب الحضارة فيها، حتى جاء أهل التّقليد، فرّجحوا أقوال الحظر، وزادوا عليها في التّشديد، حتى حرّم بعضهم سماع الغناء مطلقا، وسماع آلات اللّهو جميعا إلا طبل الحرب ودف العرس، وزعموا أنّه دف مخصوص لا يطرب، وأنّه غير دف أهل الطّرب”، ولهذا شاع الكذب في أحاديث التّرغيب والتّرهيب كما يذكر عبد القادر أحمد عطا [ت 1984م] أنّ الكراميّة قالوا: “يجوز وضع الحديث في التّرهيب والتّرغيب، وتابعهم على ذلك كثير من جلّة الزّهاد والمتصوّفة والوعاظ”.
وخلاصة ما سبق “أنّه لا يوجد دليل صريح لمنع الغناء والمعازف أو تحريمه صوتا أو آلة [الموسيقى]، وإلا لذكره الله في كتابه صريحا، وما جاء من نهي لا يخرج عن دائرة العليّة السّلبيّة، فإن ارتفعت عاد إلى أصل الإباحة؛ لأنّه من الجمال الذّي بثه الله تعالى في مخلوقاته، وما حاكاه الإنسان في صنع آلات وأشعار تناغم هذا الجمال، حتى تحوّل إلى صنعة وعلم يدرس ويتقن” وللبشر حق التّقنين والتّنظيم، لا الحجر ومطلق الحظر والمنع.
ملحوظة: النّصوص الواردة في المقالة توثيقها موجود في كتابي الجمال الصّوتيّ: تأريخه وفلسفته الفقهيّة: مراجعة في النّص الدّينيّ حول الغناء والمعازف، طبع الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، والآن ناشرون وموزعون بالأردن، الطّبعة الأولى، 2020م.