إذا كان التّأويل آلة عقليّة لها مساقاتها التّأريخيّة، وتطورها المعرفيّ المعاصر، حيث تطورت الآلة العقليّة واللّسانيّة والدّلالية والسّيميائيّة ونحوها في تفكيك النّص، وتدوير فهمه والتّعامل معه؛ إلا أنّ النّص ذاته متعلّق بأبعاد أيدلوجيّة أو عرفيّة أو وفق بعد زمنيّ ومكانيّ معين، فهو وإن كان الأصل أنّه مشترك مفتوح للتّفكير البشريّ، إلا أنّه أيضا تؤثر فيه الأبعاد الأيدلوجيّة والمكانيّة، وهذا سوف يؤثر في إسقاطات المؤول، وعلاقته بالنّص، ومدى محاولة تفكيكه، وإعادة النّظر فيه والتّعامل معه برؤية مفتوحة ومعاصرة.
ولئن كانت العولمة أحد المصطلحات المحددة للوعي الاجتماعيّ في أواخر القرن العشرين كما يرى ريتشارد هيجوت [معاصر] فإنّ الأنسنة لن تؤثر في الوعي الاجتماعيّ فحسب؛ بل حتى في الوعي الفكريّ بالتّعامل مع النّص وفق دائرة الأنسنة المفتوحة، والمشتركة بين البشر جميعا، ليس في اشتراكيّة النّص؛ بل في تأويل النّص بما يحقق مصلحة الذّات البشريّة عموما، بعيدا عن أي توجه أيدلوجيّ أو تعصّب قوميّ أو جنسيّ.
لقد قام العديد من الباحثين العرب تقديم رؤية في أنسنة التّأويل كمحمد أركون [ت 2010م] وأبي زيد نصر حامد [ت 2010م]، ومع هذا نحن بحاجة أن ننتقل من الجانب النّقديّ والوصفيّ إلى الجانبّ التّأسيسيّ لهذه القيمة، لتتحول إلى قيمة أخلاقيّة وفلسفيّة تربط بين النّص والتّأويل بما يخدم الذّات الإنسانيّة، لتكون قيدا مهما في إسقاط مصاديق النّص، وليكون النّص خادما لهذه الذّات، في جميع جوانبها ابتداء من الحريّة والمساواة والعدالة في الجنس البشريّ.
ويبقى السّؤال مطروحا كيف نستطيع أن نحوّل هذا البعد القيميّ الأخلاقيّ الفلسفيّ إلى مادّة معرفيّة تكون هدفا للنّص أصلا، وغاية للمؤول في إسقاط النّص، وتفكيك محتواه وأبعاده، وضبط مصاديقه الخارجيّة؟!!
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الحلقات وفق ما توصل إليه العقل الإنسانيّ عموما، مع تفكيك الرّؤى داخل المجتمع العربيّ، ليتحول من مجرد نقد إلى مشروع ومنهج يمكن إضافته لضبط النّص المؤول بما يحقق أخلاقيّة حفظ الذّات الإنسانيّة.
والانتقال إلى أنسنة الخطاب خصوصا الدّينيّ من خلال التّأويلات والآلة المنفتحة على ذلك؛ سوف يخرج العقل العربيّ من الماضويّة والتّشتت الطّائفيّ والفئويّ إلى عالم مفتوح مشترك بين البشر، وبدوره سيقط أثره على العلوم الإنسانيّة والتّجريبيّة، ولهذا أثره مجتمعيّا في جميع الجوانب.
ماهية التّأويل والأنسنة.
التّأويل والأنسنة مصطلحان نقيضان من حيث الزّمن المصطلحيّ، فالتّأويل مصطلح قديم عكس الأنسنة، الّذي يعتبر مصطلحا معاصرا ظهر بقوّة في القرن العشرين، وإن كانت النّزعة الإنسانيّة قديمة قدم الإنسان، إلا أنّه قد يعبر بمصطلحات أخرى كالكرامة والمكانة والمحدث البشريّ ونحوه.
ولنأت بداية إلى التّأويل فهو من أول أي “تفسير ما يؤول إليه الشّيء، وقد أوّله تأويلا وتأوّله بمعنى”[1]، “وآل الشّيء يئول أولا ومآلا رجع”[2]، وفي الاصطلاح: “نقل ظاهر اللّفظ عن وضعه الأصليّ بدليل لولاه ما ترك ظاهر اللّفظ، أو هو ردّ أحد الاحتمالين إلى ما يطابق الظّاهر”[3]، ومن صوره ردّ المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المفصل، وعند علماء الأصول: “استقراء قواعد الأحكام الشّرعيّة، واستقراء عللها وحكمها التّشريعيّة من النّصوص الّتي قررت المبادئ والأهداف، والعودة بجميع ذلك إلى ما يستفاد منها من كليات عامّة، وأصول كليّة، من عمومها تستنبط وتستمد أحكام القضايا الجزئيّة، ومن أصولها تؤخذ الفروع، وتستخرج المعطيات”[4].
والتّأويل حركة لازمت التّأريخ الإنسانيّ، للتّلائم بين الواقع وخصوصياته، والزّمن ومتغيراته، وبين النّص المقدّس والنّص التّأريخيّ، وبين النّص المغلق والواقع المفتوح، وبين الدّلالة القطعيّة الضّيقة والدّلالة الظّنيّة الواسعة والمتعددة، “ففي مجرى التّأريخ الإسلاميّ كانت كلّ حركة فكريّة تحاول أن تجد في النّصوص المقدّسة ما يسوّغها، ويجعلها موافقة للإسلام والوحي النّبويّ”[5]، وعند الأديان “كلّ يبحث عن رأيه في هذا الكتاب المقدّس، وكلّ واحد فيه ما يبحث عنه”[6].
وهناك تداخل بين التّفسير والتّأويل، وتارة يطلق كمترادفين من حيث المصطلح العام، إلا أنّ التّفسير أعم، والتّأويل أداة من أدوات كشفه، حيث أنّ التّفسير “يتناول اللّفظ والتّركيب بالكشف والبيان، بينما التّأويل جمع لما يؤول إليه معنى التّركيب بدلالاته الشّاملة ما طابق منها ظاهر اللّفظ، وما احتمله هذا الظّاهر من دلالات تتسع لها طاقات لفظه من غير عسف ولا تكلّف”[7]، ومنه كان التّفسير بالرّأي، فهو “يبنى في غالب أمره على تحديد الدّلالة اللّغويّة للنّصوص استنادا إلى المستخدم عند العرب لعصر النّزول، وعلى المعرفة بما احتف بنزول النّصوص من ملابسات، والمؤثرات الّتي قد تصرف اللّفظ عن ظاهره، أو ترجح أحد المعاني المحتملة على غيرها”[8].
فالتّأويل حاجة ملحة للتّعامل مع النّص المقدّس والّذي قد يكون مغلقا كليّا (قطعيّ الثّبوت والدّلالة)، أو مغلقا جزئيا (ظنيّ الثّبوت قطعيّ الدّلالة)، أو مفتوحا كليّا (ظنيّ الثّبوت والدّلالة)، أو مفتوحا جزئيا (قطعيّ الثّبوت ظنيّ الدّلالة)، هذا من جهة ومن المحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وعند أغلب المتقدمين النّاسخ والمنسوخ، فضلا عن الدّلالات ومصاديقها، والقيود الظّرفيّة، والإنزالات الزّمنيّة والمكانيّة، وعلاقة ذلك بالإنسان ومقاصده ومكانته، نتطرق إليه من خلال محور قادم هل الأصل الأنسنة أو إنزال النّص خصوصا إذا كان مغلقا مع التّغير الظّرفيّ والزّمنيّ.
والأنسنة لغة من أنس، والإنس إمّا من النّسيان لرواية ابن عباس: “إنّما سمي إنسانا لأنّه عهد إليه فنسي”[9]، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[10]، أو من الأنس، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}[11].
وعادة يستخدمون من مصدر الإنسان الإنسانيّة، أمّا اليوم نتيجة تأثير الدّراسات الغربيّة شاع مصطلح الأنسنة والإنسانويّة، وجاء في موقع مجمع اللّغة العربيّة، فتوى رقم: 527: “الأنسنَة لفظ اشتقَّ من الإنسان، وبُنيَ على بناء الفعلَلَة، وهو بناء مصدريّ يُراد به تحويل قضيّة ما إلى قضيّة إنسانيّة، والأنسنة نزعة فلسفيّة أخلاقيّة غربيّة تركّز على قيمة الإنسان وكفاءته، وتنتهج التّفكير العقلانيّ، والمنهج التّجريبيّ، أمّا الإنسانويّة فهي لفظ مبني بناء مصدريّا صناعيّا، وزيدت عليه الواو كما زيدت في الأصل اللّاتيني للتّعبير عن ادّعاء الشّيء، أي ادّعاء النّزعة الإنسانيّة”[12]، لذا يرى المجمع “أنّ الأنسنَة تثير لبسا؛ لأنّها لفظ غير مشهور، وغير متداوَل بكثرة، ويفضّل عليْه: النّزعة الإنسانيّة؛ إلّا إذا أريد به تحويل قضيّة ما إلى قضيّة إنسانيّة فهذا مقبول، أمّا الإنسانويّة فهي لفظ مركب تركيبا غريبا من حرف مقحم هو الواو، والأفضل منه التّعبير عن المعنى بما يفيد ادّعاءَ الإنسانيّة”[13].
“والأنسنة اسم أطلقه شيلر [ت 1805م] على المذهب الّذي استخدمه في مؤلفاته، ويرتبط بحكمة بورتاغوراس [ت 411ق.م]: الإنسان هو المقياس لكلّ الأشياء، وتعني كما جاءت في موسوعة لالاند الفلسفيّة: مركزيّة إنسانيّة مترويّة، تنطلق من معرفة الإنسان، وموضوعها تقويم الإنسان وتقييمه، واستبعاد كلّ ما يمكن تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لحقائق ولقوى خارقة للطّبيعة البشريّة، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالا دونيّا دون الطّبيعة البشريّة”[14].
العلاقة بين التّأويل والأنسنة.
يحاول حسن حنفي [معاصر] الرّبط بين اللّغة ودلالاتها وبين الأنسنة من خلال “أن تكون اللّغة إنسانيّة لا تعبر إلا عن مقولة إنسانيّة كالنّظر والعمل والظّنّ واليقين والقصد والفعل والزّمان والباعث، فهي كلّها ألفاظ تشير إلى جوانب من السّلوك الإنسانيّ الواقع في الحياة اليوميّة يقابلها كلّ إنسان ويستعملها مهما كانت عقيدته أو مذهبه أو تياره الفكريّ، أمّا ألفاظ القديم والحادث والجوهر والعرض والوجود والماهيّة والجهة والإضافة فكلّها ألفاظ وإن كانت عقليّة عامّة إلا أنّها لا تستعمل لوصف سلوكنا اليومي، وأمّا اللّغة الّتي لا تعبر عن مقولات إنسانيّة مثل الله والجواهر المفارقة والشّيطان والملاك فهي لغة اصطلاحيّة عقائديّة تشير إلى مقولات غير إنسانيّة إلا إذا أولناها وفسرناها وأعطيناها مدلولات إنسانيّة، فالله يصبح هدف الإنسان وغاياته ورسالته ودعوته في الحياة، والشّيطان يصبح هو المعارض الّذي يمثل الغواية والخطأ والحافز، والملاك يصبح ما يرجوه الإنسان من طمأنينة وخير ورحمة وأمن واستقرار ودعة”[15].
واللّغة هي الوعاء لفهم النّص أولا، ثمّ التّعامل معه وإنزاله ثانيا، وبما أنّ الغاية الإنسان، كان لزاما إعادة قراءة هذه العلاقة وفق منظومة الأنسنة كما سنرى في حلقات قادمة.
مجلّة شرق وغرب 1440هـ/ 2019م
[1] الرّازيّ: محمد بن أبي بكر عبد القادر؛ مختار الصّحاح، دار الفكر العربيّ، لبنان/ بيروت، الطّبعة الأولى، 1997م، ص: 21.
[2] المقري الفيوميّ: أحمد بن محمّد بن عليّ؛ المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير للرّافعيّ، ط دار القلم، لبنان/ بيروت، لا تأريخ، ص: 40.
[3] بلتاجيّ: محي الدّين؛ دراسات في التّفسير وأصوله، ط دار مكتبة الهلال، لبنان/ بيروت، الطّبعة الأولى، 1987م، ص: 8.
[4] سالم: إبراهيم بن حسن؛ قضيّة التّأويل في القرآن الكريم بين الغلاة والمعتدلين، ط دار قتيبة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، سورية/ دمشق، الطّبعة الأولى، 1413هـ/ 1993م، ج:1، ص: 45.
[5] تسهير: أجنس جولد؛ المذاهب الإسلاميّة في تفسير القرآن، ترجمه عن الألمانيّة: علي حسن عبد القادر، ط المركز الأكاديميّ للأبحاث، ط 2013م، لبنان/ بيروت، ص: 9.
[6] المرجع نفسه، ص: 9.
[7] بلتاجيّ: محي الدّين؛ دراسات في التّفسير وأصوله، مرجع سابق، ص: 8.
[8] المرجع نفسه، ص: 103.
[9] الرّازيّ: محمد بن أبي بكر عبد القادر؛ مختار الصّحاح، مصدر سابق، ص: 19.
[10] طه/ 115.
[11] القصص/ 29.
[12][12] موقع مجمع اللّغة العربيّة على الشّبكة العالميّة، فتوى رقم: 527، تأريخ الزّيارة: الاثنين 8 يوليو 2019م، السّاعة السّابعة والنّصف مساء.
[13] الموقع والزّيارة نفسها.
[14] النّعيميّ: محمّد سالم؛ القراءة الحداثيّة للنّص القرآنيّ وأثرها في قضايا العقيدة، ط مصر العربيّة للنّشر والتّوزيع، مصر/ القاهرة، الطّبعة الأولى، 2015م، ص: 134.
[15] حنفيّ: حسن، التّراث والتّجديد: موقفنا من التّراث القديم؛ ط المؤسسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، لبنان/ بيروت، الطّبعة الرّابعة، 1412هـ/ 1992م، ص: 122.