المقالات التأريخية

الإباضيّون ومصر: التّعايش الدّينيّ والمذهبيّ

صحيفة قبس الأخباريّة 1445هـ/ 2023م

المتأمل في الطّبيعة المصريّة يجدها ذات بساطة متعايشة مع الآخر، لهذا نجد هذا البلد تعايش مع طوائف عديدة، خصوصا بين المسلمين والمسيحيين الأقباط، وبين المذاهب الإسلاميّة، والأزهر انفتح منذ القدم على المدارس الإسلاميّة الأخرى ومنها الإباضيّة، مع الحفاظ على خصوصيّاته وهويّته الدّينيّة والمذهبيّة.

ثمّ العلاقات الدّينيّة بين عُمان ومصر لها جذورها القديمة، “فمنذ الألف الرّابع قبل الميلاد كانت مصر على صلة بأرض الجنوب من عُمان بالتّحديد ظفار، وكانت تسمّى بلاد بونت، أي بلاد أشجار اللّبان”[1]، واللّبان مرتبط بالمعتقدات المصريّة القديمة، كما أنّه ارتبط بدور العبادة حتّى اليوم.

وفي بداية العهد الإسلاميّ ارتبط الإباضيون بمصر ارتباطا مبكرا من النّصف الثّاني من القرن الأول الهجريّ من خلال حملة العلم، “أمّا مصر؛ فقد [ارتبطت] بشعيب بن المعروف، وأبي إسحاق إبراهيم، ومحمّد بن عبّاد، وابن اليسع، وعيسى بن علقمة، وأبو المؤرج عمر بن محمّد، وأمثالهم”[2].

وشعيب بن المعروف (ت بعد 171هـ) أصله من البصرة،  “ويظهر أنّ موطنه مصر، أو أنّه أقام فيها فترة من الزّمن”[3]، وكانت له “آراء كلاميّة وفقهيّة خالف فيها إخوانه من الإباضيّة[4]، وحاول هو ومن معه إذاعتها أيام أبي عبيدة، إلّا أنّ أبا عبيدة أنكرها عليهم، وطردهم من مجالسهم، فأتو إلى حاجب والرّبيع، وتابوا عن تلك الآراء، فقبلهم أبو عبيدة، وعادوا إلى مجالسهم، إلّا أنّهم عادوا إلى آرائهم بعد وفاة الإمام أبي عبيدة أيام الرّبيع، وخرجوا إلى مصر …”[5]، وشعيب “كانت له مكانة علميّة بين الإباضيّة”[6]، ومن مؤسّسي النّكاريّة من الإباضيّة في بلاد المغرب.

وعبد الله بن عبّاد المصريّ “… مصريّ الأصل، لكنّه عاد بعد إكماله دراسته في البصرة إلى مصر، واستقرّ فيها … وله آراء في الكثير من الأحيان مغايرة لأتباعه”[7] على نحو شعيب بن المعروف، “وكان  رأس علماء الإباضيّة بمصر …. ولعلّه مكث في البصرة لفترة قصيرة، أو رجع إلى مصر مباشرة بعد وفاة شيخه أبي عبيدة، وربّما قبل ذلك”[8].

وابن اليسع “قال عنه الشّماخيّ أنّه من أهل مصر”[9]، وكان تاجرا كبيرا.

ومن العلماء الإباضيّة من مصر “عيسى بن علقمة الّذي له كتاب لم يصل إلينا بعنوان التّوحيد الكبير”[10].

وكانت العلاقة  بين الإباضيّة ومصر في بداية العهد الإسلاميّ علاقة كبيرة لأسباب هجرة بعض المصريين إلى البصرة، وانضمامهم إلى مدرسة أبي عبيدة تلميذ جابر بن زيد، ثمّ بسبب الحجّ والتّجارة، فكانت من عناصر الالتقاء، وزاد من ذلك هجرة ووجود الأزد في مصر،  والإباضيّة العديد منهم من الأزد، وبسبب الاضطهاد الّذي تعرّض له الإباضيّون خصوصا في الدّولة الأمويّة هاجر العديد منهم إلى مصر، ثمّ أصبح من الأزد ولاة في مصر، خصوصا في الدّولة العبّاسيّة، مثلا “ولّى أبو جعفر المنصور يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب حكم مصر في منتصف ذي القعدة من عام 144هـ”[11]، والأزد لهم ارتباط كبير بعمان، وآل المهلب أصلهم من عمان، بجانب ارتباط بعضهم بالإباضيّة.

إلّا أنّه بسبب البعد الجغرافيّ بين مصر وعُمان، كان ارتباط مصر أكثر بالإباضيّة المغاربة، خصوصا أيام الدّولة الرّستميّة، واستقر العديد من علماء الإباضيّة من المغرب في مصر وارتبطوا بها، بل “وحتّى بعد سقوط الدّولة الفاطميّة، ظلّ الوجود الإباضيّ في مصر”[12]، ويُقال “بعد سقوط عصر الخلافة الفاطميّة في 567هـ/ 1712م، وقيام الدّولة الأيوبيّة، اعتنى صلاح الدّين بهم وبطلبة العلم، فأسكنهم في جامع أبي العبّاس أحمد بن طولون، وأجرى لهم أرزاقا في كلّ شهر، وجعل حكمهم إلى واحد منهم … فاتّسع نشاطهم، وكثر عددهم، حتّى صار لهم رواق في الجامع الأزهر”[13].

ولكثرة وجود الإباضيّة خصوصا المغاربة إمّا لطلب العلم في الأزهر أو التّجارة، ومنهم من استقر ودفن فيها، لهذا  أسّس لهم وقفا في مصر في عام 1494م أسّسه “الشّيخ سعيد بن عبد الله الجادوديّ من تجّار جربة”[14] بتونس.

ثمّ تطوّر الوقف إلى تأسيس “وكالة الجاموس في 27 مارس 1626م في مصر، والّتي لها الفضل بلا منازع في الحفاظ على الموروث الإباضيّ المخطوط … وسميّت الوكالة لأنّها تشتغل كوكالة تجاريّة، ريعها يقدّم لخدمة طلب العلم”[15]، ويقال “إنّ سبب تسميتها بوكالة الجاموس أنّ جلد الجاموس كان أحد السّلع والبضائع الّتي كانت تتاجر فيها هذه الوكالة”[16]، “وتقع الوكالة في الحيّ الطولونيّ قرب جامع أحمد بن طولون”[17].

ومع كون الوكالة لها ارتباط بالشّق الإباضيّ المغربيّ إلّا أنّها ارتبطت أيضا بإباضيّة عمان، “فتتضح صلة عمان والعمانيين بهذه الوكالة منذ زمن بعيد … وكانت تدرس في حلقات العلم بهذه الوكالة بعض الكتب الدّينيّة لعدد من العلماء الجزائريين والعمانيين، كما قام عدد من سلاطين زنجبار بالتّبرع لنسخ عدد من المخطوطات الدّينيّة لعلماء عمانيين وجزائريين كذلك، ووقفها على طلاب العلم الدّارسين في الأزهر، والقاطنين بهذه الوكالة، ودرس عدد من الطّلبة العمانيين من الرّعيل الأول الّذين ذهبوا إلى الدّراسة في الأزهر في حلقات هذه الوكالة، واستفادوا من مكتبتها”[18].

ومع البعد الجغرافيّ إلّا أنّ الارتباط بين العمانيين عموما، والإباضيّة خصوصا في المجال الدّينيّ لم يتوقف حتّى يومنا هذا، “ففي القرن التّاسع للهجرة، الخامس عشر للميلاد؛ نسمع عن الشّيخ العمانيّ الفقيه الحاجّ محمّد بن عبد الله السّمائليّ، الّذي رحل من عُمان إلى مصر، ومنها إلى بلاد المغرب، حيث وصلها قبل عام 894هـ/ 1488م، وظلّ هناك فترة صحب فيها الشّماخيّ صاحب كتاب السّير”[19].

وفي بداية القرن العشرين ارتبط العمانيون بالحركة الإصلاحيّة في مصر في شقّها الدّينيّ، وارتباط العمانيين بالحركة الإصلاحيّة إمّا ارتباط مباشر تمثل في المراسلات المباشرة، فيذكر الشّليّ أنّه “توجد مراسلات علميّة بين الإمام محمّد عبده والعلّامة نور الدّين السّالميّ”[20]، والمسألة تحتاج إلى تحقيق، لكن يوجد ارتباط مباشر مع تلميذه محمّد عبده أي محمّد رشيد رضا (ت 1935م) من خلال مجلّة المنار، ومن خلال وجوده لفترة لأسبوع في عمان، ومن خلال المراسلات الشّخصيّة مع سلاطين وعلماء عمان وزنجبار.

وارتبط العمانيون في شرق أفريقيا بالحركة الإصلاحيّة في مصر ارتباطا مباشرا بشكل أكبر، مثل “الأمين بن عليّ المزروعيّ (ت 1947م) قاضي قضاة كينيا الّذي عرف باطّلاعه على مجلّة المنار”[21]، “والشّيخ عليّ بن محسن البروانيّ وتأثره بأفكار كلّ من محمّد عبده، وجمال الدّين الأفغانيّ”[22].

وكما رأينا في مقالة سابقة في صحيفة “اصوات المصريّة” بعنوان “تأثير المدرسة الإصلاحيّة في مصر على الخطاب الدّينيّ في عُمان” أنّه لمّا أسّس الإمام غالب بن عليّ الهنائيّ مدرسة للعمانيين في القاهرة استدعى لها “محاضرين من علماء ومشايخ الأزهر الشّريف، منهم الشّيخ محمّد الغزاليّ، والشّيخ حسن الباقوريّ، والشّيخ محمّد أبو زهرة، والدّكتور أحمد الشّرباصيّ، وغيرهم كثير”[23]، وكان الطّلبة يحضرون أيضا “محاضرة السّيّد سابق الأسبوعيّة”[24].

وقديما كان يوجد بعض الاهتمام وتبادل الكتب، خصوصا بين الإباضيّة والشّافعيّة ومركزها التّأريخيّ مصر، فقد “قام الإمام أبو زكريّا الأنصاريّ (ت 926هـ) في كتابه “المقصد في تلخيص ما في المرشد في الوقف والابتداء” وهو اختصار لكتاب  عماني، وهو “المرشد في الوقف والابتداء” للإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العمانيّ (ت 430هـ)”[25]، كما قام أبو سعد الكدميّ العمانيّ الإباضيّ (ت 362هـ) بشرح وتعقيب كتاب الإشراف على مذاهب العلماء: مختصر من كتاب الأوسط في السّنن والإجماع لابن المنذر النّيسابوريّ الشّافعيّ (ت 317هـ)، وضمّن أبو سعيد آراء المذهب الإباضيّ، وتناول الأبواب الفقهيّة من الطّهارات وحتّى الوكالة والغصب.

ما أشرت إليه هنا نماذج سريعة للعلاقة بين القطرين في الجانب الدّينيّ، وإلّا ما يخفى فهو أكثر، كما حاولت التّركيز بشكل أكبر في الجمل لما قبل 1970م؛ لأنّ ما بعدها مؤرخ وحاضر في الذّاكرة بكل كبير ومؤرشف.


[1] الشّليّ: عليّ بن سالم، الوجود الإباضيّ في مصر؛ ط مكتبة خزائن الآثار، عُمان – بركاء، الطّبعة الأولى، 1439هـ/ 2018م، ص: 130.

[2] عبد الحليم: رجب محمود، الإباضيّة في مصر والمغرب وعلاقتهم بإباضيّة عُمان والبصرة؛ ط مكتبة العلوم، عُمان – مسقط، ط 1410هـ/ 1990م، ص: 84، بتصرّف بسيط.

[3] الخراسانيّ: أبو غانم، مدوّنة أبي غانم الخراسانيّ؛ تحقيق: يحيى النّبهانيّ وإبراهيم العساكر، ط مكتبة الجيل الواعد، عمان – مسقط، الطّبعة الأولى، 1427هـ/ 2006م، ص: 721.

[4] مثل تشريكه للمتأولين,

[5] السّعديّ: فهد بن عليّ؛ معجم الفقهاء والمتكلّمين الإباضيّة: قسم المشرق، ط مكتبة الجيل الواعد، عُمان – مسقط، الطّبعة الأولى، 1428هـ/ 2007م، ج2، ص: 178.

[6] نفسه؛ ج2، ص: 178.

[7] الشّليّ: عليّ بن سالم، الوجود الإباضيّ في مصر؛ مرجع سابق، ص: 64.

[8] الخراسانيّ: أبو غانم، مدوّنة أبي غانم الخراسانيّ؛ مرجع سابق، ص: 719.

[9] عبد الحليم: رجب محمود، الإباضيّة في مصر والمغرب وعلاقتهم بإباضيّة عُمان والبصرة؛ مرجع سابق، ص: 97.

[10] الشّليّ: عليّ بن سالم، الوجود الإباضيّ في مصر؛ مرجع سابق، ص: 65.

[11] نفسه، ص: 51.

[12] نفسه، ص: 28.

[13] نفسه، ص: 28 – 29.

[14] العيسائيّ: سعيد بن سليمان، مقالة نحو تواصل ثقافيّ حضاريّ بين الشّعوب: وكالة الجاموس أنموذجا، نشر في مجلّة الثّقافيّة، عدد (34)، 1 شوال 1444هـ/ 1 مايو 2023م، ص: 128.

[15] نفسه، ص: 128.

[16] نفسه، ص: 128.

[17] نفسه، ص: 128.

[18] نفسه، ص: 129.

[19] عبد الحليم: رجب محمود، الإباضيّة في مصر والمغرب وعلاقتهم بإباضيّة عُمان والبصرة؛ مرجع سابق، ص: 152.

[20] الشّليّ: عليّ بن سالم، الوجود الإباضيّ في مصر؛ مرجع سابق، ص: 127.

[21] الزّدجاليّ: هدى، العمانيون وأثرهم الثّقافيّ والفكريّ في شرق أفريفيا: 1870 – 1970م؛ ط الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، عُمان – مسقط، الطّبعة الأولى، 2021م، ص: 386.

[22] نفسه، ص: 386.

[23] الزّيديّ: ناصر بن محمّد، حديث لبعض ما حدث في حياة السّلف ودليل للخلف؛ ط مكتبة الجيل الواعد، عمان – مسقط، الطّبعة الأولى، 1444هـ/ 2022م، ج1، ص: 168.

[24] نفسه، ص: 168.

[25] الشّليّ: عليّ بن سالم، الوجود الإباضيّ في مصر؛ مرجع سابق، ص: 126 – 127.

السابق
حوار جريدة عُمان التّحوّلات الدّينيّة في عُمان
التالي
الحقائق والفرضيّات بين علوم الطّبيعة والعلوم الإنسانيّة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً