المقالة نشرت ضمن كتاب زهرة على السّوق العتيق، إعداد سعيد بن سلطان الهاشمي، ط دار نثر، مسقط/ عمان، الطّبعة الأولى، 2021م، ص: 93 – 97.
اسم “النّدوة” من الأسماء الّتي تدلّ على الاجتماع لدراسة أو قراءة أو تشاور أو لعلاقات اجتماعيّة أو علميّة، ولكن اسم مكتبة النّدوة لم يرتبط بهذا من حيث الأصالة، بل ارتبط بحارة النّدوة، وهي من الحارات القديمة والشّهيرة في بهلا، إلا أنّها هُجرت حاليّا، ولم يتبق فيها إلا القليل من القاطنين، وهي تحفة معماريّة أثريّة شاهدة على فترات طويلة في التّأريخ، ولحسن الحظ أن أنتسب إلى هذه الحارة من حيث الولادة وبدايات الطّفولة، قبل أن ننتقل إلى منطقة المعمورة، وهي منطقة حديثة في بهلا، وأنا في السّابعة من العمر، فلمّا تأسست مكتبة النّدوة تأسست في غرفة صغيرة جدّا ملحقة بسبلة أو مجلس هذه الحارة، ولا زلت أذكر تلك الغرفة ومخيلتها في ذهني، وارتبطت بزيارتها منذ بدايات التّأسيس.
في البدء نعود إلى مرحلة التّسعينيات من القرن الماضي، كان الحصول على الكتاب ليس سهلا من حيث التّوفر والانتشار والاهتمام، خصوصا لمن ارتبط بشغف حبّ الكتاب من البداية، ولا زلت أذكر أننا نتسابق لقراءة أيّ جريدة أو مجلّة تدخل بيتنا، وقد يؤدي إلى الشّجار أحيانا، وفي هذه المرحلة كانت أهم الكتب هي الكتب الدّينيّة، وأغلبها تعود إلى مرحلة الصّحوة، وكانت تصل الكتب أو الكتيّبات الصّغيرة من السّعوديّة، حيث أنّها توزع بالمجان، وبأعداد كبيرة، فالّذي يذهب إلى السّعودية للحج أو العمرة يحظى بذلك، ككتابات ابن باز وابن عثيمين وابن جبرين والدّويش وغيرها، وهي رسائل صغيرة، ولا زالت العديد من الكتيّبات في مخيلتي إلى اليوم لكثرة قراءتي لها، كالتّحقيق والإيضاح وفتاوى المرأة لابن باز مثلا.
كذلك بدأت تنتشر كتابات الإخوان المسلمون، ككتابات سيّد قطب، وأخيه محمّد قطب، ومحمّد الغزالي وإن خرج عنهم، ويوسف القرضاوي، وقد ارتبطت مبكرا بكتابه الحلال والحرام في الإسلام، وكذلك خطب كشك مكتوبة، والشّعراوي، ورسائل النّور للنّورسيّ.
وفي عمان بدأت بعض المكتبات وأشهرها الضّامري في السّيب، والاستقامة في روي، بنشر بعض الكتيبات والكتب الإباضيّة، وأغلبها تحويل محاضرات الشّيخ أحمد الخليلي إلى كتيّبات، وانتشر أكثر كتاب غرس الصّواب للشّيخ سعيد بن حمد الحارثيّ في كتيبات صغار، ولم توقع باسمه، وكذا حوّل تلقين الصّبيان للسّالمي إلى كتيبات صغار أيضا، أمّا كتب وزارة التّراث حينها فارتبطت بالمكتبات أكثر من الأشخاص وهي شبه منعدمة، إلا بعض ملحقات المساجد، أو المكتبات الشّخصيّة، وغالب من في منطقتي لم يكن اهتمامهم ذلك، مع وجود مكتبة الغبيراء وهي مكتبة تجاريّة، إلا أنّا وفرت بعض الكتب، كما وفرت آلة لنسخ الشّريط السّمعي بسعر زهيد لا يتجاوز الثّلاثمائة بيسة.
فلمّا انتقلنا إلى مدرسة بلعرب بن سلطان الثّانويّة، كانت أول مرة أرتبط بمكتبة قرائيّة في حياتي، وهي غرفة صغيرة في المدرسة، لكنّها كان تحوي كتبا قيّمة، وارتبطت بها كثيرا، لدرجة جعلني مسؤولها مشرفا من الطّلاب عليها، وكانت من حسنات تلك الفترة أنّ حصص الموسيقى والفنيّة والرّياضة وإذا لم يحضر أستاذ ما في مادّة ما؛ كان يوجد مرونة، فيمكن أن تستبدلها بنشاط آخر، لهذا كان ارتباطي بالمكتبة حال هذه الحصص، ولا زلت أذكر بعض العناوين فيها، وكتبت يومها أول بحث لي منها عن الإباضيّة في الصّف الثّاني ثانوي.
ومع أهميّة مكتبة هذه المدرسة، إلا أنّ الكتب قليلة جدّا مع قيمتها، لهذا في عام 1996م كان افتتاح مكتبة النّدوة فاتحة خير للولاية، وكنّا نسمع قبلها أخبارا عن افتتاحها، ومع ضيق الغرفة إلا أنّها حوت كتبا أشمل وأوسع من كتب مكتبة المدرسة، وفتحت باب الإعارة من البداية، وأغلب الكتب كتب وزارة التّراث، والعديد من الكتب الأخرى دينيّة والأدبيّة، وبعض الثّقافيّة والفكريّة والعلميّة، كما حوت بعض المجلات والأشرطة السّمعيّة والفيديو، وقامت على تبرعات الكتب والأشرطة من النّاس وممّا يُشترى.
ثمّ انتقلت مبكرا إلى مبنى أكبر في منطقة السّيالي، وهي منطقة قريبة جدّا من حارة النّدوة، لكن كان المبنى أكبر، ويضم غرفة كبيرة للقراءة، بجانب ملاحق صغيرة منها في البداية غرفة للاستقبال وتسجيل الكتب، وفيها تقرأ بعيدا عن الضّوضاء، وهنا بدأت المكتبة تتسع ليس في المكان؛ بل حتى في نوعيّة الكتب والمعارف، لتشمل العديد من الفنون، واستفادت من معرض مسقط الدّولي، كما كانت تنشر نشرة ورقيّة، وقامت بنشاط ثقافي ودعوي كالنّدوات ومسابقات الإنشاد ومسابقات الكتب وغيرها، ويغلب عليها الطّابع الدّيني والوعظي والتّأريخ الإباضي بصورة أكبر، حتى انتقلت إلى منطقة المستغفر قريب مسجد عائشة الرّياميّة، في مبنى للمحكمة سابقا، وهنا كانت أكثر انفتاحا من حيث الغرفة، ووجود ساحة في الخارج للمناشط والمسرح.
وتعتبر مرحلة نهاية التّسعينات وبداية الألفيّة أي ما قبل أحداث 2005م من المراحل الدّعويّة النّشطة في عمان، فقد كان النّشاط الدّعوي كبيرا خصوصا في الصّيف، وبرز الكتاب والشّريط الدّيني بشكل أكبر، وامتدّ هذا النّشاط في العديد من الولايات، لهذا امتدّت مناشط المكتبة إلى أماكن جماهيريّة أوسع كنادي بهلا الرّياضي، وحضرتُ غالب ندواتها التّأريخيّة ومناشطها الأولى، كندوة عن أبي زيد الرّيامي، والّذي حوّل إلى كتاب طبعته مكتبة النّدوة نفسها، كما بدأت العديد أيضا من المساجد تنافس المكتبة، وتنشئ مكتبات ملحقة بالمساجد، كمكتبة حارة خليفة، ومسجد الشّعبيّة القديمة، ومسجد المعمورة.
ولمّا انتقلت للدّراسة إلى مسقط في معهد العلوم الشّرعيّة حينها لدراسة البكالريوس في العام الدّراسي 1998/1999م وجدت في المعهد عالما كبيرا من الكتب، لهذا ارتبطنا بالمعهد أكثر، وبعد عام 2003م واستقراري في مسقط، وقد استطعت بنفسي تكوين مكتبة شخصيّة من خلال مكافأة المعهد، إذ غالبها نشتري بها كتبا، لهذا قلّ ارتباطي القرائي بمكتبة النّدوة إلى يومنا هذا.
لكن بلا شك مكتبة النّدوة أحدثت نقلة للمكتبات الأهليّة في السّلطنة من حيث الاستمراريّة، ومن حيث القوّة المعرفيّة والإنتاجيّة والدّعويّة، ظهر يومها منافس في المكتبة العامّة بصحم، إلا أنّها لم تستمر، وبقت مكتبة النّدوة صامدة إلى يومنا، وقد استحقت التّكريم في جائزة السّلطان قابوس للعمل التّطوعي 2012م.
كما أنّها أحدث نقلة وإضافة قوية للولاية عموما، ومع بداية الارتباط بالجانب الصّحوي إلا أنّها انفتحت على جميع الأطياف والثّقافات على مستوى الخط العماني والإسلامي بشكل أخص، كما أنّها انفتحت على جميع المعارف التّطبيقيّة والأنسانيّة عموما، ولا زال اسمها حاضرا.
وبطبيعة الحالي لبعدي عنها لفترة طويلة لا أستطيع التّقييم أو النّقد، ولكن في الجملة أتصور الدّور المكتبي يعنى كذلك بالانفتاح على العالم ككل، وأن ينطلق إلى مؤسسة أكبر، خصوصا في الفضاء الاجتماعي بأشكاله المختلفة والمتنوعة، مع ضرورة تجديد المياه حتى في دائرة المؤسسين أنفسهم؛ لأنّ هذا يساعد على التّنوع والإبداع بشكل أكبر.
كذلك ضرورة دعم أبحاث ونتاج أبناء الولاية ولو نشر نتاجهم الكترونيّا، وتعريف العالم به، وأرى مكتبة النّدوة خير ممثل له، أيّا كان هذا الانتاج، وأيّا كان نوعه وصورته ومجاله.
وعلينا أن ندرك أنّ عالم التّعامل مع المعرفة اليوم ليس كما كان قبل عشرين سنة، كما أنّ الفضاء المستقبل لهذه المعرفة ليس كالفضاء السّابق، ووجود المادّة المعرفيّة في جانبها المادّي ضرورة بلا شك؛ إلا أنّ العالم الافتراضي اليوم أصبح ساحة واسعة يتنافس فيها المتنافسون، لهذا الخروج إلى العالم الافتراضي، وإخراج الكتاب على الأقل في نتاج الولايا الكترونيّا وافتراضيّا أصبح أكثر ضرورة اليوم.
ومع هذا بلا شك أنّ المرتبطين بالمكتبة أدرى بإمكاناتهم وقدراتهم، والّذي يكتب من خارج الصّندوق ليس كمن يكتب من داخله، ولهذا يشكرون على هذه اللّفتة الإنسانيّة في الاعتناء بالكتاب والمعرفة والثّقافة، وفي الانفتاح على الآخر، وفي تعميق دائرة التّنوير والتّسامح والتّعايش، راجين لهم مستقبلا زاهرا، وغدا أكثر حضورا وتطوّرا.