مقال تأبينيّ بسبب وفاة عبد الرّحمن عبد الخالق يوم 29 سبتمبر 2020م.
فقدت الكويت والمجتمع السّلفيّ خصوصا، والعالم الإسلاميّ عموما، رمزيّة سلفيّة علمائيّة حركيّة، جمعت بين روح التّيار السّلفي، والمنهج الإخواني الحركي، وقد قال فيه شيخه الألبانيّ [ت 1999م]: “أنّه ليس إخوانيّا ولكن منهجه منهج الإخوان”، ويُعتبر أبوه عبد الخالق ممّن له علاقة بالإمام حسن البنا [ت 1949م]، وبالتّيار الإخواني في بداية تكوّنه، ووممّن شارك ضدّ حرب العصابات الصّهيونيّة في فلسطين قبل النّكبة، وهاجر إلى المدينة المنوّرة مبكرا في نهاية العشرينيات من القرن العشرين، أي قبل ولادة ابنه عبد الرّحمن، والّذي ولد عام 1939م، وهاجر الأخير من المنوفيّة في مصر إلى المدينة المنوّرة في الخمسينات من القرن العشرين.
والّذي يهمنا هنا أنّه عايش المرحلة والنّواة الأولى لتكوّن السّلفيّة الدّعويّة في المدينة المنوّرة، والّذي تزامن في البداية مع نشاط العلّامة عبد العزيز بن باز [ت 1999م]، فقد كان العقليّة الدّعويّة في انتشار السّلفيّة في العالم العربيّ والإسلاميّ عموما، بل وفي أوروبا وأمريكا وغيرها، فقد تميّز مع كونه أعمى؛ إلا أنّه تميّز بعقليّة إداريّة فريدة، وكان ينطلق من مشروع المؤسسات، وكان على شغله بنفسه يشرف على ذلك، فجمع بين العلم والفقه، مع التّواضع والخلطة، وأخيرا الدّعوة والحركة.
ولهذا جميع السّلفيين اليوم من صحويين وجاميين وحركييين سروريين وغيرهم يعتبرون ابن باز شيخهم ومرشدهم وملهمهم، ومع شدّة عدائهم وتبديعهم لبعضهم؛ إلا أنّهم لا يكاد يفتخرون بنسبة افتخارهم بالتّتلمذ على ابن باز خصوصا، أو رؤيته ومجالسته.
والحديث عن ابن باز يطول، وبغض النّظر عن تمسّكه ورؤيته العقديّة المتشددة، إلا أنني ما كنت أستمتع بمثل ما استمتعت بمجموع مقالاته وفتاويه الكبرى، والّتي جمّعها تلميذه محمّد بن سعد الشّويعر [معاصر]، والّتي قرأتها أكثر من مرة منذ بدايات تكوّني المعرفي في التّسعينات من القرن العشرين، والحديث حول هذا وذكرياته يطول.
وعموما استطاع ابن باز مع شيخه العلّامة محمّد بن إبراهيم آل الشّيخ [ت 1969م]، صاحب الفتاوى والرّسائل في ثلاثة عشر جزءا، ورتّبها محمّد بن عبد الرّحمن بن قاسم [ت 1972م]، هذه الفتاوى تؤرخ الجانب الدّيني في بداية الدّولة السّعوديّة الثّالثة مع حكم عبد العزيز آل سعود [ت 1953م]، ومن بعده الملك سعود بن عبد العزيز [ت 1969م]، والّذي عزل لمرضه 1964م وجاء بعده أخوه الملك فيصل بن عبد العزيز [ت 1975م]، هذه الفتاوى الّتي تميّزت بالشّدة العقديّة ضدّ المخالف خصوصا في الجزأين الأول والثّاني، إلا أنّها أرخت للنّظرة الفقهيّة في بداية التّطور في المملكة، ومع ضيقها إلا أنّها أيضا كانت أكثر انفتاحا من آراء إخوان بريدة، والّذين سجن العديد منهم الملك عبد العزيز، ولهذا كان الانفتاح بصورة أكثر مع الشّيخ عبد العزيز بن باز، وتجاوزوا تحريم بعض المستجدات كالميكرفون والاسطوانات وغيرها، مع بقاء التّشدد في جوانب أخرى أثرت في حركة الصّحوة في العالم الإسلامي؛ لنشاط ابن باز ذاته، وحضوره إعلاميّا وإسلاميّا، وانتشارة ثورة الكاسيت والكتاب الإسلامي حينها إن صح التّعبير.
هنا استطاع ابن باز مع شيخه محمّد بن إبراهيم آل الشّيخ من تأسيس الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة في بداية السّتينات من القرن العشرين، ولئن كان الرّئيس هو المفتي محمّد بن إبراهيم؛ إلا أنّ الرّئيس الحقيقي، والعقليّة المدبرة هي عقليّة ابن باز، فاستطاع بذكاء أن يجلب العديد من الرّموز الإسلاميّة حينها إلى الجامعة، كما استطاع أن يجعل نسبة كبيرة للطّلبة من دول العالم أجمع أكثر من حصّة المملكة ذاتها، وكان من عمان مثلا الدّكتور إبراهيم الكندي [ت 2018م]، والشّيخ الفقيه سعيد بن حميد بن صقر الرّمحي الرّستاقي [ت 2012م]، والّذي نسب إليه التّأثر بالسّلفيّة، والعلّامة القاضي أحمد الخطيب [معاصر] ممّن درس في المدينة في دار الحديث عام 1963م، ودرس على يدي أبي بكر الجزائريّ [ت 2018م] والشّنقيطي [ت 1974م] وابن باز، وهو من فقهاء الشّافعيّة في عمان، والدّكتور عمر بن عيدروس با عمر[معاصر] فقيه شافعي في ظفار، وفي فترة متأخرة الشّيخ أحمد المسهلي من الرّموز السّلفيّة في ظفار، وغيرهم، ومن هذه الجامعة ثمّ مراكز الدّعوة انتشر المدّ السّلفيّ في العالم أجمع، وبدأ تشكل الحركات السّلفيّة، ومجيء حركة الصّحوة الإسلاميّة كبديل عن الحركات القوميّة واليساريّة، وتأثرت باقي المدارس الإسلاميّة بالصّحوة السّلفيّة إلى أن أتت الحركات المعاكسة كالقرآنيّة والنقديّة وغيرها، وهذا حديث آخر.
فمع مرحلة تأسيس الجامعة الإسلاميّة كانت بداية تكوّن عبد الرّحمن عبد الخالق، والّذي لازم الشّيخ ابن باز، لازم المفسر الشّهير محمّد الأمين الشّنقيطي [1974م]، والمحدّث ناصر الدّين الألباني، وبعض العلاقة مع الفقية عبد الرّازق عفيفي [ت 1994م]، وهو أصله مصري صديق لأبيه عبد الخالق، ولاحقا مع العلّامة محمّد بن صالح العثيميين [ت 2001م]، وغيرهم.
وعموما يتميّز عبد الخالق مع الشّيخ الدّكتور عمر الأشقر [ت 2012م]، والأستاذ ناصر الخزيميّ [معاصر]، ممّن وثقوا شيئا من الحركة الدّعويّة البازيّة في المدينة، وما يتعلّق بالمسجد النّبويّ، وما حدث للألباني والصّراع حول بعض آرائه كتغطية المرأة لوجهها والذّهب المحلق ورفع اليدين بعد الرّكوع في الصّلاة وعدم جواز الحج عن الغير وركعات التّراويح وغيرها، ممّا أدى إلى عزله من الجامعة الإسلاميّة وخروجه من المملكة، كذلك وثّق الأشقر في “صفحات من حياتي” ما حدث في المدينة وسوقها من انتشار بعض المنكرات حسب تصورهم، وبالتّفصيل ناصر الخزيمي في “أيام مع جهيمان”، حيث وثق للجماعة السّلفيّة المحتسبة، والّتي كانت بمباركة من ابن باز، إلا أنّه أنكر عليهم شدّتهم وما فعلوه في سوق الحرم المدني، ثمّ تطورت إلى حادثة جهيمان العتيبي [ت 1980م] الشّهيرة.
لعلّ هؤلاء الثّلاثة ممّن ساهموا في توثيق هذه المرحلة في المدينة، قبل أن تولد الجاميّة نسبة إلى محمّد أمان الجامي [ت 1996م]، كردّة فعل للسّلفيّة الصّحويّة والسّروريّة والقطبيّة وغيرها من السّلفيات الحركيّة.
ولهذا تأثر عبد الرّحمن عبد الخالق بالإخوان مبكرا، ومع كون الإخوان في قطر منذ فترة مبكرة إلا أنّ قطر رفضت دخوله، فاستقر في الكويت ليؤسّس الدّعوة السّلفيّة الحركيّة منذ بداية وجوده فيها عام 1965م، وممّن ساهم في جمعيّة إحياء التّراث الإسلامي بالكويت، ومع وجود تيار سلفي آخر معارض له في الكويت كسالم الطّويل [معاصر]؛ إلا أنّ عبد الرّحمن عبد الخالق بقي من الرّموز السّلفيّة الحركيّة حتى أخذ الله أمانته في 29 سبتمبر 2020م، فرحمه الله وغفر له وعفا عنه وعنّا جميعا.