جريدة عمان 1444هـ/ 2023م
لمّا قامت النّهضة في مصر في عهد محمد عليّ باشا (ت 1849م)، كان يقابلها نهضة عربيّة عمانيّة في القسم الشّرقيّ من أفريقيا، وخصوصا في زنجبار، وقد عرف العمانيون فيها الطّباعة منذ فترة مبكرة، وقد أصدروا الصّحف والمجلّات في فترة مبكرة أيضا، كالنّجاح في 1911م، وفي العام نفسه صحيفة النّادي للحزب الوطنيّ.
كما تعلّق سلاطين آل سعيد بالثّقافة، وساعدهم على ذلك روحهم المتعايشة مع الجميع، مع الأديان والمذاهب وكافة التّوجهات، فمثلا يوثق الرّحالة جيمز ريموند ويلستد رؤيته في عهد حكومة السّيد سعيد بن سلطان ت 1273هـ/1856م من سلاطين دولة البوسعيد، وذلك لمّا زار عمان عام 1833م حيث يقول: “إنّ أهم ما تتسم به حكومة هذا الأمير – أي سعيد بن سلطان – هو بعدها عن ضروب القمع والاعتقال العشوائيّ، وسعة صدرها لكلّ المعتقدات، وتسامحها معها، وإبداؤها الكرم واللّطف الكبير لتجار أيّ بلد يفدون إلى مسقط ويقيمون بها”، ويسجل الرّحالة الأمريكيّ إدموند روبرتس شهادته عندما زار عمان عام 1833م حيث يقول: “كلّ الديانات في مناطق نفوذ السّلطان، يعامل أتباعها بتسامح شديد، وليس هـذا فحسب؛ بل تقدم لهم الحماية الكافية بأمر من السّلطان، ولا توجد أية عقبات تمنع النّصارى واليهود، أو غيرهم من ممارسة شـعائرهـم الدّينيّة، أو بناء معابدهـم”.
ثمّ حديثي هنا عن مثقفي مصر وعلاقتهم بسلاطين آل سعيد في بداية القرن العشرين، وهو حديث عن ثلاثة سلاطين، اثنان منهم من زنجبار، وهم السّلطان حمود بن محمّد بن سعيد البوسعيديّ (ت 1902م)، وكان محبّا للثّقافة، وفي عهده تمّ “حظر تجارة الرّقيق بشكل نهائيّ في زنجبار في العام 1897م، وتقديرا لذلك كرّمته الحكومة البريطانيّة بتقليده وسام الفارس الكبير من الملكة فيكتوريا بتاريخ 20 أغسطس 1898م”.
ثمّ ابنه السّيّد عليّ بن حمود (ت 1918م)، “وقد أنشأ أول مدرسة نظاميّة لتعليم البنين في عام 1908م”، وكان منفتحا على إخوانه العرب، فزار الدّولة العثمانيّة والحجاز ومصر الكبرى.
وثالثهم السّلطان فيصل بن تركيّ بن سعيد (ت 1913م)، سلطان عُمان، ثاني أنجال السّلطان تركي بن سعيد، وهو من أولي البأس، وكان مهتما بالأطياف المختلفة، لولا عودة الانقسامات الدّاخليّة في عهده، وعودة الاضطراب السّياسيّ.
ففي عهد السّيد حمود بن محمّد أرسل صاحب مدرسة أحمد الماجديّ بمصر للبنين والبنات عام 1901م، وكان رئيس تحرير جريدة المعتصم، رسالة شكر على مساعدة السّلطان للمدرسة حمود، وقدرها ثلاث جنيهات، وردّا للفضيل، جعل قسما لتعليم الفقراء باسم “قسم جلالة سلطان زنجبار الأعظم”.
كما دعم السّيّد حمود جريدة المحروسة، وهي جريدة سياسيّة أدبيّة أنشئت عام 1875م في مصر، ودعمه لرئيس تحريرها كما في الرّسالة المرسلة من رئيس التّحرير إلى السّلطان حمود، والمؤرخة في 7 يناير 1901م، وقد أرسل سابقا رئيس التّحرير إلى السّلطان ذاته في 5 سبتمبر 1899م رسالة يرجو من السّلطان حمود دعمه لكتاب “سلافة العصر في شعراء العربيّة بكل مصر”، ووصفه بأنّه “من أنفس الكتب وأحسنها”، على أن يكون اسم السّلطان في صدر الكتاب، كما تدل الرّسالة على جواب لقيمة الاشتراك في الجريدة، وهذا يدلّ على اهتمام السّلطان بها.
وفي 3 يوليو 1902م أرسلت صاحبة مجلّة “السّعادة” روجينا عواد، الصّادرة في القاهرة 1902م العددَ الأول تيمنا إلى السّلطان السّيّد حمود بن محمّد بن سعيد سلطان زنجبار.
كما نجد تواصل رؤساء تحرير المجلّات المصريّة مع السّلطان السّيّد حمود بن محمّد بن سعيد، من ذلك رئيسة تحرير مجلّة المرأة أنيسة عطا الله في 29 نوفمبر 1901م، ورئيس تحرير جريدة السّهام المصريّة جورج إسحاق في 20 يونيو 1902م.
كما أرسل صاحب جريدة السّرور والمطبعة الوطنيّة بالأسكندريّة عبد المسيح الأنطاكيّ رسالة شكر إلى السّلطان السّيّد حمود، على دعمه لطباعة كتاب، وذلك بتأريخ 21 مارس 1901م.
وفي عهد السّيّد عليّ بن حمود – على قصر عهده، لوفاته وهو ابن اربع وثلاثين سنة – إلّا أنّه استمر على نهج ابيه وأجداده في الانفتاح على الثّقافة والمعرفة، وعلى تشجيع العرب خصوصا في ذلك، ومن ذلك رسالة عبد المسيح الأنطاكيّ في 19 يونيو 1905م إلى السّيّد سالم بن محمّد بن سالم الرّواحيّ بشأن التّوسط لدى السّلطان عليّ بن حمود ليتحفه بالقصائد الّتي قيلت في والده لطباعتها في كتاب أو ديوان مستقل.
“وعبد المسيح الأنطاكيّ [والّذي كان أيضا] رئيس تحرير مجلّة “العمران” الشّهريّة الّتي كانت تصدر في القاهرة، قد زار مسقط في 1907م، والتقى بالسّلطان فيصل بن تركي”، وقد أكرمه السّلطان، وضيّفه واستمع له.
وأرسل مدير مجلّة الهلال إبراهيم زيدان إلى السّلطان السّيّد عليّ بن حمود بتأريخ 4 سبتمبر 1906م، تفيد دعم السّلطان للمجلّة، وقد بلغت السّنة الرّابعة من عمرها، كما أرسلوا إليه خمس نسخ من من رواية العبّاسة أخت الرّشيد، وخمس نسخ من تأريخ التّمدن الإسلاميّ في جزئه الخامس، وقد أرسل له سابقا في 19 أبريل 1900م كتاب جمّعه وسماه “نوادر الكرم في الجاهليّة والإسلام”، ووصفه بأنّه “يحتوي على أشهر نوادر أهل الجود والكرم الّتي جرت لعهد البرامكة ومن جاراهم في السّخاء كمعن بن زائدة، وحاتم الطّائيّ، والخلفاء، وغيرهم”.
كما أرسل محّمد رشيد رضا صاحب مجلّة المنار الصّادرة في القاهرة إلى السّلطان السّيّد عليّ بن حمود بن محمّد في 16 أكتوبر 1910م، لمّا علم أنّه كان في القاهرة، وقد عرض عليه المشروع الّذي أسّسه في عاصمة الدّولة العثمانيّة “أسطنبول”، وهو تأسيس جمعيّة دينيّة علميّة خيريّة غير ربحيّة، ولا تتدخل في السّياسة، مؤلفة من جميع المذاهب الإسلاميّة، وتجمع المسلمين فيما اجتمعوا عليه، ويعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه، وذلك لأنّ السّلطان “….مَن يعلم ما عليه المسلمون من جميع الفرق في جميع البلاد من الضّعف في العلوم والفنون والصّناعات، والآداب الاجتماعيّة، والشّؤون المدنيّة، ويعلم أنّ علّة العلل لذلك هي سوء فهم الدّين الإسلاميّ، وكثرة البدع والتّقاليد فيه، وجهل علمائه بتطبيق أصوله وأحكامه على مصالح البشر في هذا العصر، وتعصبهم لمذاهبهم الّتي فرقت الأمّة الإسلاميّة، وجعلتها شيعا يعادي بعضها بعضا …”.
وفي عهد السّلطان فيصل بن تركيّ بن سعيد أشرنا إلى زيارة عبد المسيح الأنطاكيّ له في مسقط عام 1907م، كما زاره أيضا السّيّد رشيد رضا عندما مرّ إلى عُمان وبالتّحديد مسقط وهو راجع من مومباي في الهند يوم الاثنين 19 جمادى الأولى 1330هـ/ 6 مايو 1912م، والتقى بالسّلطان فيصل بن تركيّ، وقد خصّص له رجالا لاستقباله، ويؤرخ ذلك رشيد رضا بقوله: “أقمت في مسقط أسبوعا كان يختلف إليّ كلّ يوم وليلة منه وجهاءُ البلد وأذكياؤه، ويلقون عليّ الأسئلة الدّينيّة والفلسفيّة والأدبيّة والاجتماعيّة، وزارني السّلطان في دار الضّيافة أيضا، ومكث معي ساعات، وزرته في مجلس حكمه عدّة مرات، وكان يلقي عليّ في كلّ مرة الأسئلة المختلفة، وكان يكون معه في مجلسه أخوه السّيّد محمّد، وهو كثير المطالعة في الكتب، ولكنّه لا يحبّ البحث في المجالس في كلّ ما يطلع عليه من المسائل، وقد عهد السّلطان إلى كاتبه الخاصّ من أهل السّنّة الزّبير بن عليّ أن يتولى أمر العناية بضيافتي، وإلى كاتبه الآخر الشّيخ إبراهيم بأن يتعاهدني معه أيضا”..
وحين موعد سفره من مسقط ضحى يقول: “مكثتُ في مجلس السّلطان زهاء ثلاث ساعات من أول نهار السّفر، كان يُلقي فيها عليّ الأسئلة الكثيرة في العقائد وما يتعلّق بها، والأحكام الشّرعيّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة، وتارة يشير إلى رجاله بأن يسألوا، وكانوا جميعا يسرّون من الأجوبة”.
هذه لمحات بسيطة جدّا من تأريخ وذاكرة العمانيين من خلال نماذج سلاطينهم، وما قدّموه من حسنات معرفيّة وثقافيّة، وانفتاح على الآخر، وإن كان مختلفا عنهم في بعض الجوانب الدّينيّة أو المذهبيّة أو الفكريّة،فلم يكن هدفهم سياسيّا أو دينيّا أو مذهبيّا، فغايتهم الإنسان ومعرفته ومكانته.
مراجع المقالة:
- مراسلات زعماء الإصلاح إلى سلطاني زنجبار حمود بن محمّد وعليّ بن حمود البوسعيديين، للمؤلفين محمّد المحروقيّ وسلطان الشّهيميّ.
- زنجبار بملامح عمانيّة للمؤلف عماد البحرانيّ.
- عُمان في عيون زوارها للمؤلف أحمد الفلاحيّ.
- قبسات من أنوار البدر الزّاهر للمؤلف سلطان الشّيبانيّ.
- عمان في عيون الرّحالة البريطانيين للمؤلف هلال الحجريّ.