بدر العبريّ، جريدة عمان الأربعاء 25 ربيع الأول 1447هـ/ 17 سبتمبر 2025م
سبق أن نشرت في جريدة عُمان في نوفمبر 2021م مقالة “الصّهيونيّة ومسألة الدّولة من العلمويّة وحتّى الأصوليّة الدّينيّة”، وبيّنت وفق الأدبيّات اليهوديّة هناك تمايز كبير بين إسرائيل واليهوديّة والصّهيونيّة، فالأول عرق نسبيّ، والثّاني ديانة ظهرت كمصطلح كما يرى الحاخام رابي دايفيد بعد ألف سنة من وفاة موسى في عهد كورش الكبير (ت: 529 ق م)، والثّالث حركة سياسيّة نشأت في بيئة مسيحيّة بروتستانتيّة في القرن التّاسع عشر الميلاديّ، فلمّا نتحدّث عن إسرائيل الكبرى في اللّاهوت اليهوديّ ذاته نتحدّث عن عرق، وليس عن ديانة، ولا عن حركة سياسيّة، لهذا لا نجد مصطلح اليهوديّة مثلا في التّوراة من العهد القديم، ووجدتُ القرآن أيضا دقيقا جدّا في استخدام لفظتي: بني إسرائيل واليهود، “فقلّ ما يستخدم لفظة اليهود، عدا في سياق الحديث بعد السّبيّ، مثلا في آية عزير أو عزرا وهو ظهر بعد السّبيّ، وفئة من اليهود ادّعت أنّه ابن الله، وكذا صراعهم مع النّصارى وهو متأخر، وقضيّة يد الله مغلولة، وهي جدليّة متأخرة، أمّا في الجانب التّأريخيّ كما في سورة البقرة استخدم القرآن لفظة بني إسرائيل”.
الدّيانة الوحيدة الّتي ظلّت تربط ذاتها حتّى اليوم بعرق بني إسرائيل هي السّامريّة في نابلس بفلسطين، ويرون أنّهم يرجعون إلى سبطي إفرايم ومنسّى أبناء النّبيّ يوسف، وأمّا كهنتهم فيرجعون إلى سبط لاوي، وهؤلاء عددهم لا يتجاوز تسعمائة نسمة، ومهدّدون بالانقراض العرقيّ، لهذا اضطّروا إلى إباحة شيء من الزّواج من غيرهم من بعض الأعراق شريطة أن تدخل في السّامريّة، فهم في الأصل ديانة منغلقة غير تبشيريّة لا ترحبّ بالانضمام إليها، وتربط الدّين بالعرق، وهؤلاء لا يرون أنفسهم يهودا، ولا يؤمنون بالتّناخ والشّروحات، فقط يؤمنون بالأسفار الخمسة، ولهم توراتهم الخاصّة المسماه “التّوراة السّامريّة”، ويرونها أقدم بكثير من التّوراة اليهوديّة، وأنّ الثّانية أصابها التّحريف، وكما يرى كاهنهم الحالي حسني واصف أنّ الفروقات بينهما تصل إلى سبعة آلاف كلمة أو آية، وهم أقرب إلى الإسلام في اللّاهوت والشّرائع بصورة تتجاوز ثمانين بالمائة، ولا يهتمون بمسألة الدّولة، وما جاء من آيات في العهد القديم هذه مرتبطة بالمخلّص الّذي سيأتي ويقيم العدل، وليس بمفهوم الدّولة تأريخيّا، ولا بمفهوم الدّولة القطريّة المعاصرة، كما لا يرفضون وجود أنبياء في أمم أخرى كالنّبيّ محمّد، إلّا أنّ ديانتهم مرتبطة بعرق بني إسرائيل.
وأمّا اليهوديّة وإن ربطت ذاتها بعرق بني إسرائيل ابتداء إلّا أنّها لم تمنع الأعراق الأخرى من الدّخول في اليهوديّة دون تبشير منهم، فهم مرّوا بثلاث تحولات عرقيّة، التّحول الأول تحول من أبناء يعقوب أي الأسباط الاثني عشر إلى الانحسار في يهوذا وبنيامين ولاوي، أي ما يسمى بالأسباط العشرة المفقودة، خصوصا بعد الانقسام بين مملكة إسرائيل الشّماليّة واسمها مملكة إسرائيل أو السّامرة وعاصمتها شكيم [نابلس حاليا]، وهذه ارتبطت بالسّامريين لاحقا، وبين المملكة الجنوبيّة واسمها يهوذا وعاصمتها أورشليم وهذه ارتبطت بالسّبي البابلي، وفيها ظهر مصطلح اليهوديّة، ثمّ نتيجة دخول عرقيّات عديدة فيها، خصوصا بعد سقوطهم في عهد الرّومان سنة 70م، تشرذموا في عرقيّات متباينة مثل الأشكناز والسّفارديم والمزراحيم والفلاشا وبني منشيه، فضلا عن اليهود العرب، واليهود الفرس، فاليهوديّة اليوم يصعب جعلها ديانة عرقيّة، فقد ذابت في أعراق متباينة، لهذا لا يمكن ربطها ببني إسرائيل.
فإذا جئنا إلى مسألة الدّولة أو ما يسمّى بإسرائيل الكبرى، فالتّأويل اللّاهوتيّ اليهوديّ ابتداء أنّ هذا مرتبط بالمخلّص، وهو من يقيمها، وقد كتب عليهم الشّتات، ولا يجوز أن يكون توحيدهم إلّا عن طريق المخلّص، ففكرة إسرائيل الحاليّة هي فكرة مسيحيّة بروتستانتيّة في الابتداء وليست يهوديّة، لهذا ولدت جماعات في المسيحيّة تؤيّدها كالسّبتيين أو الأدفنتست ثمّ شهود يهوه، لتعجيل عودة المسيح، وإقامة مملكة الربّ، بينما اللّاهوت المسيحيّ التّقليديّ يعارض هذه الفكرة تماما، كالأرثدوكس والموارنة، والكاثوليك الشّرقيّين، بينما الكاثوليك الغربيّون وإن كانوا نظريّا يعارضون، بينما عمليّا مرهونون بالسّياسات الغربيّة الدّاعمة لإسرائيل، وكما أسلفت أنّ إقامة الدّولة اليهوديّة يعارض التّقليد اليهوديّ الأرثذوكسيّ (الفرّيسيّون خصوصا)، والأصل كما ذكر تيودور هرتزل (ت: 1904م) في مسألة الدّولة اليهوديّة أنّها علمانيّة وليست ثيوقراطيّة، لكنّها مع مرور الوقت غلب عليها الثّاني دينا لا عرقا، وغلب عليها اليمين اليهوديّ الأرثذوكسيّ المتطرّف.
فقضيّة ما يسمّى بإسرائيل الكبرى اليوم هو نوع من الوهم؛ لأنّه إذا خرجنا من التّأويل التّأريخيّ هو لاهوتيّا مرتبط بالعرق وليس مرتبطا بالدّين، فقد ورد الإشارة إليها في العهد القديم ثلاث مرّات في التّوراة، أي في التّكوين والخروج والتّثنية، ومرة في التّناخ أي في يشوع، وارتباط ذلك كان بإبراهيم، وقد أصبح عجوزا لا عقب له، ثمّ رزق بإسماعيل من هاجر، وبإسحاق من سارة، والتّركيز التّوراتيّ كان على الثّاني لأنّ من ذريّة إسحاق ومن نسل أسباط يعقوب سيكون النّبيّ موسى، مثلا في سفر التّكوين [إصحاح: 15، آية: 18] “في ذلك اليوم قطع الرّبّ مع أبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النّهر الكبير، نهر الفرات”، والنّصّ متعلّق بإبراهيم، وأنّه لا عقب له، وأمره الله أن ينظر إلى السّماء وأن يعدّ النّجوم، هكذا يكون نسله، وفيما يتعلّق بميراث الأرض من بعده، ولم يقصر هذا الوعد بكثرة النّسل عند إسحاق؛ بل عند إسماعيل أيضا، “أمّا إسماعيل فقد أستجيب لطلبتك من أجله، سأباركه حقّا، وأجعله مثمرا، وأكثّر ذريّته جدّا، فيكون أبا لاثني عشر رئيسا، ويصبح أمّة كبيرة” [التّكوين، إصحاح: 17، آية: 20].
وإذا كان الارتباط بكثرة النّسل أنّه سيخرج من نسل إبراهيم أمم وملوك كثيرون لهذا غيّر اسمه من أبرام إلى إبراهيم أي الأب العظيم، “لأنّي أجعلك أبا لجمهور من الأمم، وأصيّرك مثمرا جدّا، وأجعل أمما تتفرّع منك، ويخرج من نسلك ملوك، وأقيم عهدي الأبدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك جيلا من بعد جيل، فأكون إلها لك ولنسلك من بعدك، وأهبك أنت وذريّتك من بعدك جميع أرض كنعان، الّتي نزلت فيها غريبا، ملكا أبديّا، وأكون لهم إلها” [التّكوين، إصحاح: 17، آية: 6 – 8]؛ بمقاييس العرق ينطبق اليوم على ذريّة إسماعيل ومنهم غالب العرب، وليس على ذريّة إسحاق، فقد حصر اليهود ذاتهم في أسباط يعقوب بن إسحاق، ثمّ انقرضوا شيئا فشيئا، حتّى ينعدم أو يضعف على الأقل وجودهم اليوم، لهذا اضطرّ اللّاهوتيون اليهود إلى ربط تحقّق ذلك بإقامة الوصايا، ومراد “وأقيم عهدي معه ومع ذريّته من بعده عهدا أبديّا” [التّكوين، إصحاح: 17، آية: 19] أي بإقامة الوصايا، ففي سفر التّكوين ربطت بإقامة العهد وعلى رأسها تحقّق الألوهيّة ورفض مظاهر الوثنيّة “فأكون إلها لك ولنسلك من بعدك”، وفي سفر الخروج ربطت بالوصايا العشر وإقامة بعض أحكام الشّريعة، وفي سفر التّثنية ربطت بإقامة أحكام الشّريعة، وهذا يظهر أيضا عند اللّاهوتيين المسلمين أنّ ربط التّفضيل تأريخيّا كان لإقامة الشّريعة، وإظهار التّوحيد كما في سورة البقرة، آية: 40: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، بينما ذهب اللّاهوتيّون المسيحيّون إلى رمزيّة مجيء المسيح كما في كتاب “التّفسير التّطبيقيّ للكتاب المقدّس”: “قطع الله معه [أي إبراهيم] عهدا، وأخبره أنّه سيكون مؤسّسا لأمّة عظيمة … ولن يبارك الله هذه الأمّة فحسب، بل ستتبارك بها أمم العالم الأخرى، وكلّ ذلك من أجل إبرام … ومن شجرة عائلة أبرام سيولد يسوع المسيح ليخلّص البشريّة، فمن خلال المسيح تستطيع كلّ الشّعوب وكلّ الأمم أن تكون لها علاقة شخصيّة مع الله، وأن يتباركوا بركة بلا حدود”.
فمسألة إسرائيل الكبرى لاهوتيّا لا علاقة لها بالدّولة قديما ولا حديثا، جاءت إشارة إلى مركز العالم القديم في إقامة وصايا الرّبّ، ولهذا كثّر الله نسل إبراهيم لإقامة هذه الوصايا، وتحقيق وحدانيّة الإله، ثمّ ارتبطت بالخلاص بعد السّبي البابليّ، وهي فكرة خلاصيّة قديمة لها أصولها في بلاد ما بين النّهرين، وحضورها في جلجامش مثلا، فانتقلت في اليهوديّة، فالمسيا (المسيح) سيأتي من نسل داود، وهو من يقيم مملكة إسرائيل رمزيّا عند السّامريين أي يقيم العدل، ويرفع الظّلم، وأرثذوكسيّا عند اليهود أي يرجعهم من الشّتات، ويقيم مملكة إسرائيل، ثمّ انتقل هذا إلى المسيحيّة في المجيء الثّاني للمسيح، كما انتقل عند غالب الطّوائف الإسلاميّة في نزول المسيح، ومجيء المهدي لإقامة العدل ورفع الظّلم، وغالب هذا التّأويلات ربطت الرّجعة أو المهدويّة بهذه المنطقة في الشّرق القديم، في بلاد الشّام والعراق (بين النّهرين) وما بينهما وفق تنقلات إبراهيم من أور (بين النّهرين) إلى حرّان (جزيرة العرب) ومنها إلى كنعان (بلاد الشّام)، بسبب العيش في نصوص تأريخيّة لا تتجاوز حدوثا هذه المنطقة من العالم القديم.
