جريدة عمان 17 مايو 2022م
من يقرأ كتاب التعارف للباحث الدؤوب بدر العبري الصادر أخيرا عن منشورات الجمعية العمانية للكتاب والأدباء 2022 يخرج بحزمة من الفوائد، إلى الدرجة التي يمكن القول فيها (مطمئنون هذه المرة) أنه من تلك الكتب التي يكون الدخول إليها ليس كالخروج منها، زاخر بمعلومات لا تحصى، تهب عليك الرياح اللاقحة من أي زاوية، حيث يبحر الكتاب بنا بحرية بين أربع جزر، رحلتان إلى أمريكا، أو ما سماه الرحلة الشيكاغية والرحلة التكساسية، ورحلتان أخريتان في محيطنا العربي، وهما ما سماه بالظفارية والرحلة البحرينية.
لا يُنظّر العبري في كتابه، إنما فقط يصف تجواله ولقاءاته ودقائق مشاهداته، ولكن من خلف كل ذلك، وبسبب طبيعة تلك اللقاءات، التي تكون -إن صح التشبيه- مع أصحاب دير وصوامع وبيع، كأنما كتاب التعارف يرسخ -من وراء الأسطر- مفهوما عميقا مفاده أن ما يجمع الأديان والاعتقادات أكثر مما يفرقها، وأن الماهية البشرية تسبق الهويات التخصصية، وبالتالي لن تأتي الاحترابات والتنازعات إلا حين تسعى جماعة لاستثمار الأديان والمذاهب سياسيا بغرض اقتناص المكاسب والسلطة، وهذا الأمر قريب مما عبّر عنه -وحذر منه- من قبل، العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، وخاصة في عبارته التي تلقفها عالم الاجتماع البريطاني أرنولد تويمبي: «الملك غاية كل عصبية».
ولأنه كتاب في غاية التنوع والثراء فإن اختصار أهم محتوياته في مقال عابر سيكون ظالما له، ولكنها دعوة لقراءته وتأمل أهم مدلولاته الحضارية والإنسانية المتقدمة. كما أن الكتاب يتميز بالتعدد على أكثر من مستوى، فهو حتى حين يتحدث مثلًا عن الرحلات الأربع الموثقة في الفهرس، نراه يتنقل بحرية وينعطف بنا إلى رحلات أخرى سابقة، التقى فيها برجال دين، مثل رحلته إلى البحرين، حيث أحالنا على تفاصيل زيارة سابقة له إلى السعودية، والتقائه هناك بالعالم الشيعي المستنير الشيخ الصفار الذي سنكتشف بأنه -أي الصفار- زار عمان مرارا. كما نجد كذلك انعطافه للكاتب إلى زيارة سابقة له إلى بيروت بغرض الدراسة في جامعة القديس يوسف. نجد كذلك أنه أثناء زيارته إلى البحرين يعرفنا على معلم ملفت هناك وهو «مجمع الأديان» وهو كما جاء في صفحة 183 من الكتاب: «شارع بالمنامة توجد به مساجد للسنة والشيعة وحسينيات وكنيسة للمسيحيين الإنجيليين وكنيس لليهود ومعبد للهندوسية البوذية، وكان لدينا موعد مع القس هاني عزيز، مصري، وهو القائم في الكنيسة المشيخية، وهي كنيسة إنجيلية كالفينية بروتستانية مسيحية» ولكن أجمل ما في الكتاب هو ذلك الكشف عن ما هو مجهول بالنسبة إلينا والذي لا يمكن أن يكتشفه العابر السائح إلى الدول الغربية دون أن يلتقي بالناس ويتحدث معهم، وهنا المثال الأبرز في هذا الكتاب هو الولايات المتحدة الأمريكية، وتعريفه لمختلف الأديان والطوائف المتعددة التي توجد في أمريكا، وفي هذا السياق لم يكن حديثه عابرا على الأشياء أو تنظيريا، إنما سنقف أمام تفاصيل دقيقة ناتجة عن زياراته ولقاءاته ومحاوراته لأهم القائمين على دور العبادة هناك، ليست فقط من المسلمين والمسيحين إنما كذلك من الهندوس والبوذيين، ونتيجة لبعض التفاصيل التي يزخر بها الكتاب سنكتشف أنه لا يوجد فرق كبير بين البوذية والهندوسية حيث إن لدى الجانبين جذورا تأصيلية مشتركة، كما أن من ضمن طقوس العبادة القديمة عند البوذيين، طقس كنا نظنه مجرد رياضة عصرية وهو اليوجا، فإذا بالعبري يعرّفنا من خلال لقائه برجل دين بوذي أن اليوجا طقس ديني أو صلاة قديمة عند البوذيين وكانت مرصعا بالأذكار البوذية قبل أن تستثمر حديثا في أغراض نفسية علاجية، كذلك سنتعرف أن الموسيقى الهندية والغناء الهندي هي في الأساس طقوس دينية خرجت من المعابد، وسنعرف انطلاقا من هذه المعلومة لماذا يوقر الهنود الغناء والرقص على أنغام الموسيقى التي لن يخلو منها أي فيلم هندي. سنعرف كذلك من الكتاب أن سبب انتشار الهندوسية في أمريكا يعود لهذه الروح التي تحتفي بالموسيقى والغناء. وبالعودة إلى تاريخنا العربي الإسلامي في أوج حضارته وخاصة في القرون الذهبية الثلاثة الأولى (وهناك من يقول الأربعة) كان العلماء العرب يهتمون بالغناء والموسيقى، حيث كانت توجد المعازف في بغداد، وقد ألف العلماء المسلمون في الموسيقى كتبا، بل إنهم استثمروا الموسيقى لتوليد علوم أخرى، وخير مثال على ذلك جدنا الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي ولد من الموسيقى مجموعة من العلوم خدمت اللغة العربية وعلى رأسها علم العروض والقوافي. والشيخ العبري بدوره لديه دراسة في هذا السياق «مراجعة في النص الديني حول الغناء والمعازف» صدرت عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.
يذكر العبري في كتابه جميع التفاصيل الدقيقة ويعرضها في صيغ خطابية مباشرة وذلك بقصد التوثيق، فالقارئ مثلًا سيكتشف أنه حين يحضر صلاة العيد في تكساس فإن الخطيب يقرأها بالعربي والإنجليزي، وأيضا سيكتشف التواشج الصوفي وحضور آل البيت في الذهن الصوفي العماني وذلك من خلال زيارته إلى ظفار.
ومن ناحية شكل تقديم الكتاب سيكتشف القارئ أنه أمام كتاب يكاد يكون عفويا في طرحه ويفتقد إلى منهج علمي صارم، وهذا الأمر ربما مقصود حيث إن الكاتب ينتقل بحرية وكأنه يتحدث بلسانه وليس بقلمه. ولكن غنى الكتاب بالمعارف والمعلومات الكثيرة هي ما أكسبه هذه الأهمية وأهله ليكون كتابًا توثيقيًا مرجعيًا لمن أراد مستقبلا أن يؤلف دراسة منهجية حول تعايش الأديان، ونبذ الفرقة والشقاق والتعصب المذهبي والديني بالبحث عن المشترك الإنساني بين كل منها، حيث لا تلمح في كتاب «التعارف – تعريف بالذات ومعرفة الآخر» أي نبرة تعصب وانحياز، بل إنك ستكون في ساحة مفتوحة لكتاب صيغ بوعي حضاري متقدم أساه احترام وتقدير الآخر وروحه، وأن الآخر ليس إلا مرآة إنسانية لنا.