تم تسجيل الشّهادة في برنامج كتاب مفتوح مع الشّاعرين: عبد الرّزاق الرّبيعي ووسام العاني، من تنظيم مركز حدائق الفكر بالبريمي ومنصّة الفنر بمسقط، الخميس 18 مارس 2021م.
أشكر ابتداء مركز حدائق الفكر على تنظيم هذه الدّعوة، وأشكر الأستاذة نصرة المعمريّة على جهودها الّتي لا تعرف الكلل ولا الملل، وللدّكتور الشّاعر والأديب الكبير عبد الرّزاق الرّبيعي على طلب إلقاء شهادة مني، والحق يقال، طلب ذلك مني وأنا كما يقول المتني: ومن قصد البحر استقل السّواقيا، فشاهدتي مع وجود البحر كبني إسرائيل عندما حكا القرآن عنهم: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، ولكن هذا حسن ظنّ لا أكثر، وتربيّة أعتزّ بها وأفتخر.
صادق جواد أول ما عرفته في ساحة الشّعب ونحن في نهاية العقد الأول لهذه الذّكرى الاستثنائيّة في الوعي العماني، وبُعيْدها حضرتُ مناسبتين معه مستمعا، وفي عام 2017م كانت محاضرته في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء حول: كيف تضمن سلامة فكرك، وحينا سألت سؤالا في نهاية الأمسية، ومر الزّمان حتى فبراير 2020م، زرته في بيته في روي لأسجل أول حلقة معه من عشر حلقات لمشروع كتابي، فأول ما شاهدني: قال أنت الّذي سألتي في الجمعيّة العمانيّة، قلت: نعم.
عموما بعد عام من التّواصل مع هذا المفكر، وجدته حالة استثنائيّة، ووجدت العديد من أجوبة التّساؤلات الّتي بحثت عنها بعيدا، ووصلت حتى أمريكا حيث سافرت لأجلها؛ إلا أنني وجدت أكثر الأجوبة عند شخص لا يبعد عني سكنا نصف ساعة!!!
وجدت هذا الرّجل الّذي عاش الهند بتناقضاتها، والغرب بصراعه وتياراته، وبلاد فارس والعراق والخليج والوطن العربي بآماله وتطلعاته، وجدته يعيش في عالم الإنسان بمعنى الماهيّة وليس بمعنى الهويات الضّيقة، فقد تخلّص من العالم الضّيق، فيرى الإنسان كإنسان.
هذا الرّجل لم أره في فكره مع البعد الإنساني إلا في حالتين: تنظيم الفكرة ووضوحها مع الصّدق فيها، في البداية كانت إجاباته دبلوماسيّة معي، ولعل هيئتي الدّينيّة جعلته ينظر إلي من هذه الزّاوية، إلا أنّه وبعد عشرات اللّقاءات في عام واحد، مع صراحته أخيرا إلا أنّه لم يخرج عن الصّدق في الفكرة، ووجدت صادق جواد معي هو نفسه مع غيري، لا يتلّون في أفكاره، مع مراعاته لظرف السّائل ومكنته.
سألته متى بدأت تنظر من زاوية مختلفة؟ قال لي: “رأيت نموذجا مختلفا من المعرفة، وهو نموذج الطّبيب توماس، والّذي أتى إلى مطرح وأنشأ مستشفى الرّحمة، فهو شخص بسيط جدّا، إلا أنّه يقوم بعمل عظيم جدّا، بيد أنّ منهجه يختلف عن المنهج الّذي نشأنا عليه، حيث نشأت في وسط عالم محتشم يتصوّر أنّه يملك مقاليد الحكمة والمعرفة، وفي الوقت نفسه أرى هذا الشّخص البسيط من عالم آخر غير عالمنا، فحدث لدي تساؤل في نفسي وأنا صغير في السّن لا يتجاوز الثّانية عشرة من عمري: أين توجد المعرفة الحقيقيّة؟ ظلّ هذا التّساؤل يصاحبني حتى حُسِم، ولمّا حُسِمَ كان لصالح العلم، وليس لصالح العقائد أو الفقه”.
وبعد تسجيل عشر حلقات يمكنني أن ألخص المدار الّذي يدور عليه صادق جواد في المعرفة:
أولا: أن تنظر إلى العالم من الخارج، وأن تنطلق من الماهيّة فالهويّة، وأن نحاول الرّقي من البشريّة إلى الإنسانيّة كلّما اقتربنا من الماهيّة.
ثانيا: لا تخاصم الماضي وتراثه، ولا الأديان وطقوسها، ولكن عليك أن تعيش مع الاجتهاد الإنساني في عصرك، وأن تساهم في تطويره ورقيه، لا أن تكون نسخة من الماضي.
ثالثا: أن تتعامل مع العالم من خلال المبادئ الأربعة: العدل والكرامة الإنسانيّة والمساواة والشّورى، فهي مرتبطة بالماهيّة، وليست مضافة من الخارج كالقيم، ولا متعلّقة بالوجدان كالأخلاق، وهي الأساس لبناء الدّول، وتنمية الثّقافات، ورقي الحضارات.
رابعا: الاعتناء بثلاثة أمور أساسيّة قبل الاعتناء بالأمور الكليّة والسّياسيّة، ابتداء أن يصون نفسه أي صحة بدنه، ثمّ أن يوسّع من معارفه، مع الاستعانة من أفكار الآخرين وبحوثهم، والثّالث الاستقامة.
ولقد خلّص صادق جواد رسالته في الحياة بقوله: “أرجو أيضا أن يكون لكلّ منّا دورا في تفعيل هذا التّوجه القائم على تأصل ثابت إنسانيّا، وتفرّع متسام ثقافيّا، لأجل تحقق حداثيّ حضاريّ، قوميّ إنسانيّ، وطنيّ عالميّ، في ترادف واتساق… هكذا إلى أن تحين الآجال، فيرتحل كلّ منّا برضا واطمئنان، مغطبطا أنّه ساهم، ولو بأقل القليل، في جعل تجربة العيش على هذا الكوكب، مع تعقيداتها، أيسر وأطيب وأثرى للآتية من الأجيال”.