المقالات التأريخية

فيروز الّتي أَسْعَدت في يوم حزنها

جريدة عُمان 12 صفر 1447هـ/ 2 أغسطس 2025م

في يوم السّبت قبل الماضي ودّع عالمُنا العربيّ الفنّانَ والملحن الكبير زياد الرّحبانيّ (26 يوليو 2025م)، ابن الفنّانة الكبيرة فيروز، أو نُهاد وديع حدّاد، فيروز الّتي أدخلت جمال صوت المعنى والمغنى إلى كلّ بيت عربيّ، وإلى كلّ مقهى يتنفس بصوتها العذب في الصّباح الباكر، ومن عشرات الإذاعات العربيّة الّتي لا يغادر يومها صوت فيروز، “ففي مقابلة لها سنة 1999م سؤلت: شو بتسمعي الصّبح؟ قالت: بسمع صوتي من الشّبابيك”، فهي الّتي غنّت للإنسان والحبّ والجمال، غنّت للطّفل والمرأة والشّاب، وغنّت لمكّة والقدس والكنيسة، غنّت لجمال الله المتجلي في خلقه والوجود، لم تغنِّ للملوك، ولم تتزلّف لهم، وما رأت قوتها إلّا في جمال الطّبيعة والإنسان والحياة والسّلام، فاجتمعت عظمة “ملائكيّة” الصّوت مع بساطة المعنى وعمق دلالته، فلم تتكلّف في أغانيها بالقصائد الطّوال، فغنت لكلّ ما هو جميل، وبلحن غير متكلّف، وكأنّها تريد أن تصل إلى جميع النّاس من خلال الجمع بين الجمال والبساطة، ولمّا فقد العالم العربيّ الموسيقار سيّد درويش وهو في سنّه المبكر 1923م، المعروف بتجديده ونهضته الموسيقيّة، إلّا وتمثلت روحه الجماليّة والإحيائيّة في فيروز، وقد غنّت من أغانيه “طلعت يا محلا نورها”، “أنا هويت وانتهيت”، كما تمثلت جماليّة شعر جبران خليل جبران (ت: 1931م) مع صوتها العذب، لينتج إبداعا فنيّا كما في “سكن اللّيل”، “أعطني النّاي”، كما أبدعت مع شعراء عصرها، ومع موروثات أدبيّات تراث لبنان والشّام الشّعبيّ.

نشأ زياد رحبانيّ في بيئة وأسرة فنيّة شهيرة، بجانب أمّه فيروز كان أبوه الموسيقار والملحن الشّهير عاصي الرّحبانيّ (ت: 1986م)، وهو من المنتصرين لروح وجمال الأدب الفنيّ والموسيقيّ، كذلك عمّه منصور الرّحبانيّ (ت: 2009م)، كان ملحنا وشاعرا وكاتبا مسرحيّا وغنائيّا، هؤلاء جميعا انتصروا للإنسان والجمال، وعلى نهجهم كان زياد، فلم يغب عنه ما يعانيه الإنسان في بلاد الشّام عموما، وفي فلسطين وبلده لبنان خصوصا، من صراع واحتراب وتهجير وقتل، فوقف مع الإنسان، لا مع السّياسات والأحزاب المفرقة، كان حضوره الفنيّ مبكرّا وهو في بدايات العقد الثّاني من عمره، ابتدأ مع تلحينه لقصيدة عمّه منصور “سألوني النّاس” والّتي غنتها أمّه فيروز ضمن مسرحيّة المحطّة 1973م، لتكون أيقونة يتنفس لسماعها مئات البشر كلّ صباح، ويستأنس بها المحبّون كلّ مساء، وقد جمع بين اللّحن والكتابة والمسرح، ومن المسرح انتقد الطّائفيّة المفرقة في “نزل السّرور” 1974م، وانتصر للإنسان والكرامة في “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” 1993م.

زياد رحبانيّ والّذي كان فقده أليما على الوسط الفنّيّ واللّبنانيّ ثمّ العربيّ عموما، إلّا أنّ ظهور فيروز في كنيسة “رقاد السّيّدة” بكفيا في بيروت خطف الأضواء ليس على مستوى لبنان، بل على مستوى العالم العربيّ، وربما أوسع من ذلك بكثير، وانتشرت أغنية “سألوني النّاس” بشكل لا يوصف، وبتصاميم مختلفة، وكأنّ الأغنية لم تكن في 1973م بل كانت الآن، لينقلب الحزن إلى فرح لرؤية فيروز، وقد كان آخر ظهور لها مع الرّئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون في 2020م، وظهورها معه كان مقتصرا على الصّور، أمّا هذا الظّهور فقد أظهر فيروز بشكل مرئيّ ومباشر كما لو أنّها في بداية عمرها ينظر لها الجميع بشيء من البهاء والجمال، لما أبهجت الجميع بمغناها منذ 1952م.

لم يتفاعل مع هذا الحدث الأجيال السّابقة، والّذين عايشوا ذهبيّة رحلتها الفنيّة، بل تفاعل معها الجيل الجديد، يظهر هذا بشكل واضح على “انستجرام وتك توك” وغيرها من وسائل التّواصل الرّقميّة، هناك مشاعر سعيدة لظهورها وكأنّها خرجت إلى الحياة من جديد، ليتفاعل مع هذه المشاعر الجميع، وإن كان ظهورها في يوم حزنها، بيد أنّ هذا التّفاعل يكشف لنا سرّ ذلك، وهو أنّ الّذي يغنّي للجمال والإنسان يغنّي للمطلق، والّذي يمتدّ أثره إلى الجميع، ويعيش لفترة طويلة، فالرّوح لها جماليّتها، وهي لا تسمو إلّا بالجمال، ولا تنحصر في زمن أو عمر معين، وهنا كثيرا ما سمت أرواح النّاس مع جمال ألحان ومغنى فيروز.

هناك من الفنّانين من حصر نفسه في المناصب والشّخوص، وهناك من كان بيد السّاسة في إثارة الحروب، وهناك من تكسّب بفنّه ليجعله رخيصا مبتذلا لا قيمة له، وهناك من أدرك أنّ الفنّ رسالة، ورسالة الفنّ تعيش مع الجمال المطلق، وتتجاوز الطّائفة والأنا المغلقة، وجمال الموسيقى والغناء جماله لا ينحصر في ذات الأداء واللّحن، وهذا طبيعيّ جدّا يستلذّ به الإنسان والحيوان كما يرى يوسف القرضاويّ (ت: 2022م) “لـــو تأملنـــا لوجـــدنا حـــبّ الغنـــاء والطــّـرب للصّـــوت الحســـن يكـــاد يكـــون غريـــزة إنسـانيّة، وفطـرة بشـريّة، حتّـى إنّنـا لنشـاهد الصّـبيّ الرّضـيع فـي مهـده يسـكته الصـّوت الطّيــب عــن بكائــه، و تنصــرف نفســه عمّا يبكيــه إلــى الإصــغاء إليــه، ولــذا تعــوّدت الأمهات والمرضعات والمربيّات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل نقول: إنّ الطّيور والبهـائم تتـأثر بحسـن الصّـوت والنّغمـات الموزونـة حتـّى قـال الغزالـيّ (ت: 505هـ) فـي الإحيـاء: من لم يحرّكه السّماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الرّوحانيـّة، زائـد في غلظة الطّبع، فـيغلـظ الطّبـع وكثافتـه علـى الجمـال والطّيـور وجميـع البهـائم، إذ الجمـل – مـع بـلادة طبعـه – يتـأثر بالحـداء تـأثر يسـتخف معـه الأحمـال الثّقيلـة، ويستقصـر – لقـوة نشـاطه فـي سـماعه – المسـافات الطّويلـة، و ينبعـث فيـه مـن النّشـاط مـا يسـكره و يولهـه، فتـرى الإبــل إذا ســمعت الحــادي تمــدّ أعناقهــا، و تصــغي إليــه ناصــبة آذانهــا، و تســرع فــي سيرها، حتّى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها”.

جمال ذات الأداء واللّحن لابدّ أن يصاحبه جمال وروحانيّة المعنى، نجد الجمع بين الجمالين مع الملحنين الكبار منذ سيّد درويش  حيث واصل مسيرة أستاذه سلامة حجازيّ  (ت: 1917م)، ثمّ الأربعة محمّد القصبجيّ  (ت: 1966م)، ومحمّد عبد الوهاب (ت: 1991م)، وزكريا أحمد (ت: 1961م)، ورياض السّنباطيّ  (ت: 1981م)، ثمّ تأتي مرحلة السّيّد مكاويّ (ت: 1977م)، ومحمّد الموجيّ  (ت: 1995م)، وبليغ حمديّ  (ت: 1993م)، وكمال الطّويل  (ت: 2003م)، وغيرهم، وإن كان قبلة هؤلاء مصر، ليخرجوا لنا رموزا فنيّة شهيرة، كأمّ كلثوم (ت: 1975م)، وعبد الحليم حافظ (ت: 1977م)، ونجاه الصّغيرة وغيرهم، لينتقل إلى لبنان، ومع أسرة الرّحبانيين، ووديع الصّافيّ (ت: 2013م)، وغيرهم، حيث يتمثل ما بقي من هذا الجمال في فيروز، وهي شاهدة على مرحلة حافظت على جمال هذا الفنّ، وهو الّذي يبقى، ويتجاوز الانتماءات المتعدّدة إلى الجمال المطلق، ليتلّذذ النّاس جميعا بهذا الجمال، وهو الّذي يكتب له البقاء، وهو الّذي يسعد النّاس، كما أسعدهم ظهور فيروز في يوم حزنها، لما قدّمته لعالمها العربيّ من جمال فنيّ بديع خالد.

السابق
الحدود وإشكاليّة دخول الكتاب
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً