جريدة عمان 1442هـ/ 2021م
لستُ هنا في صدد تفكيك الدّولة العلمانيّة من التّعاريف والمصاديق المطروحة، ولست في بيان جدليّة الأصلحيّة بالنّسبة للعالم الإسلامي، كذلك لست في مجال بيان علاقة الدّولة العلمانيّة بالدّولة المدنيّة، خصوصا من خلال قيمتي المساواة والعدالة، ولكن رجع الجدل اليوم في وسائل التّواصل، وخصوصا في مساحات تويتر من جهة، وفي قضيّة أفغانستان من جهة أخرى، ورأيتُ العديد – فيما يبدو لي – إمّا أن يكون ناقما على العلمانيّة، يراها مصدر كلّ شر، وإمّا أن يراها هي الخلاص الموعود، وجنّة أفلاطون في الأرض، بعيدا عن النّظرة الموضوعيّة من الجانبين.
والعَلمانيّة بفتح العين من العالم، أي الكلّ على مبدأ المساواة من حيث الفردانيّة من جهة، ومن حيث تعدد الهوّيّات: دينيّة، عرقيّة، قبيليّة، فيكون الشّأن العام حافظا للجميع من جهة، ومحقّقا لمبدأ المساواة من جهة أخرى، فكما يحمي الحقوق الفرديّة؛ لا يلغي الهوّيّات، ولكن الجميع سواء من حيث الشّأن العام.
والعِلمانيّة بكسر العين من العلم، ومنها العلمويّة، والعلمويّة فصل العلم عن الدّين، والعِلمانيّة فصل الدّولة عن الدّين، من هنا حدث الجدل في التّيارات اللّاهوتيّة، ابتداء في اليهوديّة والمسيحيّة، وانتهاء في الإسلام؛ لتأخر حركة التّنوير في العالم الإسلامي، إلا أنّ الفصل لا يعني الإلغاء أو التّهميش، ولكن يكون الدّين والمذهب مرتبطا بالهوّيّة، والشّأن العام مرتبطا بالفردانيّة والقيم الكبرى المطلقة كالمساواة والعدل، والمضافة كالعلم والحريّة.
ولقد ناقشت في بحث لي بعنوان “مستقبل العالمين العربي والإسلامي في ضوء المتغيرات المعاصرة” جدليّة فهم العلمانيّة، وأراها لا تخرج عن خمس مسارات أو اتّجاهات.
الاتّجاه الأول: العلمانيّة المشوهة، وهو تشويه من الدّاخل ومن الخارج، والتّشويه من الدّاخل بسبب ادّعاء بعض الدّول أنّها دول علمانيّة، ولكنّها تمارس الاستبداد من جهة، والنّفعيّة الفئويّة من جهة ثانيّة، وهذا حدث في بعض الدّول العربيّة المنتسبة إلى العلمانيّة، لكن سجونها مليئة بالمختلفين في الرّأي الآخر، وهناك قمع للأقليات الدّينيّة والعرقيّة، مع قمع لكل من يخالف اتّجاه الدّولة سياسيّا وعرقيّا ودينيّا ومذهبيّا، كما أنّ الفريق المقرب من السّلطة يكون صاحب الامتيازات النّفعيّة عن غيره، فتكثر الرّشاوى والفساد المالي والإداري، لهذا يرى من في الخارج أنّ نموذج العلمانيّة نموذج فاشل، لا يختلف عن غيره من الأنظمة، ويجد من في الخارج مثل هذه النّماذج دليلا لفشل العلمانيّة، وأنّها بلاء على المجتمعات، فهو إمّا أن يقدّم نظريّة جديدة تتجاوز العلمانيّة، أو تؤطرها بنقد منهجي، ولكن غالبا ما يرجع إلى الماضي، ويرى فيه الخلاص، ويحاول استنساخ تجارب ماضويّة، أو يقدّم مشروعا غير مؤطر، وأقرب إلى العموميات، ممّا يؤثر في العقل الجمعي.
الاتّجاه الثّاني: العلمانيّة المستبدّة، وهذه من الاتّجاه السّابق، ولكن يغلب عليها الاستبداد، كما حدث في الدّولة البلشفيّة في روسيا، ويزيدها سوءا لمّا تبرر ثقافيّا ودينيّا، أو تستغل بعض النّظريّات الفلسفيّة والدّينيّة استغلالا استبداديّا، كنظريّة الإنسان الأعلى عند نيتشة [ت 1900م]، ونظريّة العادل المستبد عند محمّد عبده [ت 1905م]، وهذه أثرها كأثر الاتّجاه الأول من الدّاخل والخارج.
الاتّجاه الثّالث: العلمانيّة الشّاملة، وهذه أقرب إلى العِلمانيّة من العَلمانيّة، بمعنى عِلمنة الدّولة كليّا، وظهر هذا الاتّجاه في الغرب بعد الثّورة الصّناعيّة، إلا أنّ فصل العلم عن الدّين هذا جانب منهجي، فالدّين له مساره الظّرفي والأخلاقي، والعلم له مساره البحثي والكشفي، وفصلهما حتّى لا تعوق الهوّيّات حركة الكشف والبحث، وفي الوقت نفسه لها قيمتها الأخلاقيّة والقيميّة، وحرّيتها اللّاهوتيّة والطّقسيّة، بيد أنّ العلمويّة لا تتوافق مع صيرورة الدّولة بالمعنى الشّمولي؛ لأنّ اختصاص الدّولة كما أسلفنا حفظ الكل، فكما تحفظ الهوّيّات هي حافظة أيضا لمسار العلم أي أن يكون للعلم حرّيّته في البحث والكشف، دون أن تكون الهوّيّات الدّينيّة عائقا تحت مظلّة الإلحاد والزّندقة.
الاتّجاه الرّابع: العلمانيّة الجزئيّة، وهذه عند عبد الوهاب المسيريّ [ت 2008م]، ورؤيته تقوم على “فصل الدّين عن الدّولة، لكنّها تلزم الصّمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، أي لا تنكر بالضّرورة وجود مطلقات وكلّيات أخلاقيّة وإنسانيّة، وربما دينيّة، أو وجود ماورائيّات وميتافيزيقا …. فهي لا تسقط الواحديّة الطّبيعيّة أو الماديّة على الإنسان؛ بل تترك للإنسان حيّزه الإنسانيّ يتحرك فيه إن شاء” [المسيري، بحث مصطلح العلمانيّة، منشور في كتاب العلمانيّة تحت المجهر، ص: 121]، وهذا الاتّجاه يتوافق مع العديد من اللّاهوتيين من كافّة الأديان، ويرونها حلّا منطقيّا للصّراعات العرقيّة والدّينيّة والمذهبيّة، بل بعضهم حاول تبريرها من النّصوص المقدّسة، واعتبر العلمانيّة بهذا المفهوم كامنة في جميع النّصوص المقدّسة، بيد أنّ المسيري لم يقدّم رؤية واضحة فيما يتعلق بمرجعيّة الشّأن العام – فيما يبدو لي -، هل يكون المشترك الهوّيّاتي هنا مع الشّأن العام لا يتجاوز القيم والأخلاقيات، مع ترك ما دون ذلك للاجتهاد الإنساني، وما قد يتعارض يبقى خصوصيات من حيث الهوّيّة لا تتدخل فيه الدّولة، وإنّما تعنى بحماية الشّأن العام الفرداني من جهة، وحرّية الهوّيّات من جهة ثانية، فلا تتدخل الهوّيّة فيما يتعلّق بالشّأن العام في الدّولة، ولا تتدخل الدّولة في خصوصيّات الهوّيّات، وعموما جدليّة التّقاطع ما بين الدّولة والهوّيّات الدّينيّة لا زال محل جدل، حتّى عند من يقول بالعلمانيّة الجزئيّة، ولعلّها حتّى الآن أفضل رؤيّة لاهوتيّة قدّمت في هذا، وأعطت نوعا من التّوافقيّة، ولكن تحتاج إلى مراجعات أكبر؛ لأنّ الاجتهاد الإنساني أصبح اليوم واسعا، وجدليّة الهوّيّة الدينيّة ومدارها حول الشّأن العام لا زال عالقا من نظريّة الحاكميّة، وحتّى نظريّة الأديان باعتبارها ثقافة ظرفيّة أكثر منها لزومات مطلقة فيما له علاقة بالشّأن العام، لا بالخصوصيات الهوّياتيّة.
الاتّجاه الخامس: العلمانيّة الثّالثة عند عصام القيسي [معاصر]، وهو حاول أن يقدّم إجابة عن العموميّة الّتي قدّمتها رؤية عبد الوهاب المسيريّ، إلا أنّ القيسي لم يخرج عن الخط اللّاهوتي، واعتبر العلمانيّة الثّالثة حلّا للدّول ذات غالبيّة إسلاميّة، خصوصا متعددة المذاهب، فيرى أن نتجاوز فيما يتعلّق بالشّأن العام من الحديث والرّواية إلى القرآن، فالرّواية يلازمها الظّنيّة والظّرفيّة، فهي ظنيّة الثّبوت، والجامع بين النّاس فيما يتعلق بالشّأن العام قطعيّ الثّبوت، ثمّ ننظر في هذا قطعيّ الثّبوت – أي القران – فيرى أنّ “معظم الخطاب القرآني ينصرف إلى القصص والأخبار (العقائد)، والنّسبة الباقية منه موزعة على توجيهات أخلاقيّة لضمير الفرد والجماعة، وأحكام قانونيّة للفرد وللجماعة، فأمّا النّسبة الكبيرة من خطاب القصص والأخبار، فلا علاقة له – مباشرة -بسياسات الدّولة وقانونها الدّستوريّ، ويسري هذا الحكم – أيضا – على الخطاب الأخلاقيّ للقرآن، وأمّا القسم الثّالث من الخطاب القرآنيّ (الأحكام القانونيّة)، فالأمر فيه على تفصيل: ما كان منه قطعي الدّلالة يمضي بوصفه قانونا شرعيّا ملزما بحكم الدّستور الّذي سلّم بالمرجعيّة العليا للدّين الإسلاميّ، وما كان منه قابلا للتّأويل على أكثر من دلالة، يبقى نصّا ملزما على وجه الإجمال فقط، ويختار المشرع المدنيّ بعد ذلك التّأويل الّذي يراه مناسبا، على أن يعد التّأويل المختار منتجا وضعيّا لا قداسة له” [عصام القيسي، مقال العلمانيّة الثّالثة: خارطة طريق إسلاميّة، نشر مجلّة ذوات الالكترونيّة ومؤسسة مؤمنون بلا حدود].
فالعلمانيّة الثّالثة محاولة للاقتراب من العلمانيّة الجزئيّة في صورة لاهوتيّة مخصوصة بالعالم الإسلامي، بيد أنّه في ظاهرها لم تخرج عن الأدوات القديمة في التّفريق بين قطعيّة والثّبوت والدّلالة، لهذا ستجد ذاتها في إشكاليّة في ضوء القراءات الإنسانويّة والتّأريخيّة الظّرفيّة للنّص القطعي ذاته ثبوتا ودلالة، وإن كان نسبة ذلك قليلة، إلا أنّه محل جدل في ضوء التّوجهات المعاصرة اليوم في الدّول الإسلاميّة ذاتها، ولم يعد ذات صبغة واحدة، أو ذات توجهات مذهبيّة فقط، بقدر ما يشمل أيضا التّوجهات اليساريّة الأخرى.
لهذا أرى العلمانيّة لا ينظر إليها ابتداء بسلبيّة من الخارج، ولا يمكن إلغاؤها لملازمتها للدّولة المدنيّة والقطريّة اليوم، ولا داعي لتلك الحساسيّة المفرطة من ذكر اسمها فقط، أو دعوى أنّها طريق لهدم الهوّيّات بما فيها الأديان، وفي الوقت نفسه نحن أمام أربع جدليات: جدليّة علمانيّة الدّولة القطريّة، وعلمانيّة الهوّية العربيّة لتشابهها من حيث القوميّة، وعلمانيّة المجتمعات المسلمة لذات المصدريّة اللّاهوتيّة، وعلمانيّة المجتمع الإنساني وفق المشترك الإنساني الأوسع، لهذا أرى ضرورة التّوسع في دراسة العلمانيّة انطلاقا من الذّات الإنسانيّة الجامعة، ثمّ ما دونها من هوّيات انتمائيّة، لاهوتيّة أو عرقيّة أو قطريّة، دون إلغاء للآخر، وترك التّدافع طبيعيّا للعقل حتّى يولّد نظريّات جامعة في ضوء تطور المعرفة والعالم الإنساني.