المقالات التأريخية

المناضلة العراقية وداد وحرب الجبل الأخضر 1957م

بداية لم أرد كتابة المقال لأجل نبش الماضي بآلامه المريرة، ولكن لتلك الأرواح المجاهدة لوحدة عمان أولا، ولعودتها كما كانت ثانيا، ولحقها الإنساني في العلاج والتعليم والحرية والقانون ثالثا، لقد ضحى العديد منهم في انتفاضات متتالية كانت أرواحهم فداء هذا الوطن، وحق لنا كأولاد وأحفاد لهم تخليد ذكراهم، وحتى لا يميتها النسيان، وما فيه نحن اليوم لم يكن وليد صدفة، بل كان نتيجة تضحيات ودماء أهدرت، ورجال ضحوا بأنفسهم فداء وطنهم وأمتهم.

وهنا يشير الكاتب الروائي والأديب العماني الكبير عبد الله بن محمد الطائي ت 1973م في روايته الشهيرة: ملائكة الجبل الأخضر، والتي تصور الرواية الواقع الذي كان يعيشه العمانيون المأساوي أبان الحصار الإنجليزي، والاستعمار البغيض لهذه المنطقة من الأرض، حتى أنّه يصور أنّ ذكر كلمة مستشفى ولو غرفة صغيرة في داخل عمان يعتبر جريمة، بل أنّ حتى الصليب الأحمر منع من مداواة أي جريح، ومنعت المساعدات الإنسانية، واستطاعوا تجهيل شعب أجمع.

بجانب الصراع آنذاك مع حكومة مسقط، وانقسام العمانيين إلى ثلاثة أقسام، إمارات ساحل عمان، وحكومة مسقط، والإمامة، بجانب ظهور الثورة في ظفار.

عموما مع النداء العروبي الذي قاده جمال عبد الناصر ت 1970م، وفيما سمي بالناصرية يذكر الطائي كان له تأثيره داخل عمان ذاتها، فضلا عن المهاجرين خارج عمان، لذا قامت الثورة الأولى في أواخر الخمسينيات والتي تطالب باستقلال عمان، ووجوب عمل إصلاحات دستورية منتخبة، وفتح المستشفيات والمدارس والطرق وغيرها من الإصلاحات، إلا أنّ الحرب الأهلية والاستعمار البريطاني أخر الأمر مما حدث انتفاضة كبيرة في الستينيات كما هو معلوم كان له تداعيته الداخلية والخارجية على الواقع العماني، والذي للأسف لم يعط دراسته واهتمامه لاحقا.

الحاصل يشير الطائي في روايته إلى امرأة عراقية اسمها وداد كان أخوها يتاجر في مسقط، وسجنت هي في بداية عمرها من العشرينات في العراق لبعض المطالب الإصلاحية، إلا أنّها رحلت مع أهلها إلى الكويت، وارتبطت بحقل التمريض في الكويت.

وكان الشاب العماني خالد يعمل في قطر، ويسكن في غرفة مع زملائه، وله اتصالاته بالشيخ عيسى بن صالح ت 1365هـ والإمامة، عموما كان سابقا له معرفة بأخ وداد، والتقى به في مصر، ثم زاره في الكويت، وهناك تعرف على وداد وأعجب بها.

ومع رغبته بالزواج من وداد، إلا أنّ وداد كانت أملها في العراقي فائق وهو يقبع حينها في السجون العراقية، عموما قررت وداد المشاركة في الثورة العمانية حينها في حقل التمريض، ومن الصدف خالد أيضا قرر ذلك وقد كان أخذ تدريبا في التمريض والإسعافات، فقررا الذهاب معا دون الزواج، وبعدا عن المسائلات الاجتماعية أظهر أنها زوجته، وحتى لكي لا تفقد زواجها العراقي، ولأنّ سجون العراق حينها أفضل بكثير من قيود سجون مسقط، فأضاف اسمها في جوازه على اعتبار أنها زوجته.

الحاصل ذهبا إلى عمان من دبي والشارقة في سيارة من نوع البك أب وهنا حدث لهم صراع مع الإنجليز، إلا أن تكاتف العمانيين حينها تجاوزوا المرحلة ومن ثم وصل إلى بركاء وودع بعض من شاركهم في السيارة ثم واصلا الطريق إلى سمائل حتى بركة الموز فنزوى.

ثم ذهبا إلى الشيخ عامر ونسق لهم بالصعود، وعموما حدثت أحداث لا تهمنا حتى لا يطول الكلام، وممكن الرجوع إلى الرواية الذي يهمنا هنا هو دور وداد في الجانب الإنساني، فقد كان القصف الإنجليزي يوميا، وأباد العشرات من القرى، وقتل العشرات من الأطفال والنساء، لذا اضطروا إلى العيش في الكهوف.

وهنا أقامت وداد مع زميلها خالد حجرة صغيرة لها قسمان، قسم للرجال، وقسم للنساء، وهنا زارهم الإمام غالب ت 2009م بنفسه، ورحب بهم وأعد لهم مستشفى فيه غرفة للتضميد وغرفة للرجال وغرفة للنساء، وغرفة خاصة لخالد ووداد، وغرفة أخرى لأخت الشيخ عامر حيث جاءت أيضا للتمريض.

هنا أصيب خالد بربكة لأن وداد ليست زوجته في الحقيقة، فاضطر لمصارحة الإمام، فتبسم الإمام، وقال له إن الإسلام لا يحرم مشاركة المرأة في الجهاد، ولا داعي إلى الكتمان، ثم بعد حديث ذكرهم بالنساء المشاركات مع النبي عليه السلام وذكر خولة بنت الأزور [توفيت في عهد عثمان، وبعض يشكك في حقيقة شخصيتها] وعاتكة بنت نهشل، وأشار إلى المعاصرات رجاء أبو عماشة [مناضلة فلسطينية توفيت 1955م] وجميلة بو حيرد [مناضلة جزائرية لا زالت تعيش].

إلا أنه تأسف مع وجود المجاهدات العمانيات إلا أنّه لم يعرف عند العرب أخبارهن، وذكر من ذلك أصيلة زوجة سليمان بن حمير، وعهد إليها حفظ قصره السليط في نزوى، وجاء الإنجليز وسرقوا كل ما فيه وقادوا الرجال إلى السجن، وبقت أصيلة، فأمروها بالخروج لأن القصر سينسف بعد فترة بسيطة، فرفضت، ونسف القصر عليها وتمزقت أشلاء.

وذكر قصة شمساء عندما هجم الإنجليز وأخذوا زوجها بتهمة مساعدة المجاهدين، وجاء أحدهم إليها من الجنود فاستدرجته فطعنته بسكين ثم تلته بأخرى، ثم هربت ولا يعرف مكانها حتى الآن أي حين تكلم الإمام غالب بالقصة عموما.

عموما ظلت وداد تضحي في علاج المرضى، وصوت الرشاشات لا يتوقف، والهجوم الجوي يتصاعد يوميا وبشكل تعودوا عليه أبناء الجبل، إلا أن الجرحى يزداد يوميا.

عموما الغريب أنّ من ضمن الأوامر في الإمامة حينها أنه أي جريح من الإنجليز لا يقتل، بل يداوى ويعالج ثم يطلق صراحة أو يمسك حتى حين، ومن ذلك عالج وداد وخالد من الجنود الجرحى، وطلب أحدهم إرسال برقية إلى أهله في بريطانيا إلى أمه ومخطوبته أنه بخير، ولم يرفضوا ذلك، ورسلوا برقيتة.

وأما باقي الجنود الأموات فيدفنون ولا يحرقون ويمثل بهم.

عموما في المقابل هؤلاء الإنجليز لم يرحموا حتى الأطفال والنساء، فكم وجد من أم ميتة وفي حضنها ابنها الميت المقتول معها بلا رحمة، بينما الطرف الآخر ما لقي طريقا إلى الرحمة ولو مقاتلا كانوا به راحمين، مطبقين قوله تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا.

ومن هؤلاء النساء التي قتلت المجاهدة اخت الشيخ عامر والتي ولدت ولدا سمته وداد سلام، لعله يشرق شمس سلام على عمان تفاؤلا، وقد كانوا يريدون تسميته بغالب أو طالب، فرفضت وداد، وأشارت أن يسمى سلام، وكأنها تستشرف مرحلة السلام التي ستعم عمان بحمد الله تعالى بعد بضع سنين، وأن يجتمع العمانيون على قيادة واحدة.

عموما أصيب الشيخ عامر بطلقتين رصاص واحدة في رأسه وواحدة في كتفه، وقد كانوا يخرجون الرصاصة عن طريق مد حبل في الجرح ثم ينزعونها، لأن الانجليز منعوا أي مساعدة علاجية ولو من الصليب الأحمر أو من العمانيين المهاجرين حينها.

عموما حدث خلاف بين خالد ووداد من ينزل، جاء الرأي الأخير على وداد لسهولة التنكر عند المرأة، فنزلت وعالجت الشيخ عامر وتمايل إلى الشفاء بسرعة، إلا أنّ الخبر وصل إلى الإنجليز فهجموا على دار الشيخ عامر، وحدث ما حدث، ومنها كان موت الشيخ عامر وقتل أخيه وتشريد أهل بيته، واقتياد وداد إلى الاعتقال وقالت قولها عندما أمرت بوصف أهل الجبل: إنّ أهل الجبل لم يبق عندهم عقار أو مال يحافظون عليه، أو يجبرهم على أن يستسلموا، إن قرنكم العشرين أعادهم إلى عصر الكهوف، ليس هناك بيوت يا أبناء التايمز، كلهم في الكهوف، وأما غير هذا الحال فلا أعرف عنه شيئا، لقد كانت مهمتي الدواء، فأنا بين الجروح والدماء والآلام ليلا ونهارا.

وهكذت أخرجت وداد إلى البحرين فالعراق، إلا أن السياسيين في العراق افتخروا بها، وأمر عبد السلام عارف ت 1966م بإعادتها إلى وظيفتها بنفس راتبها السابق.

عموما وداد ظلت مناضلة عن الشعب العماني ولو من بعيد، أما خالد فاقتيد إلى السجن مقيدا في قلعة الجلالي بمسقط مع مجموعة من السياسيين.

واليوم لا نعرف أين وداد، ووداد ليست واحدة، فهناك عشرات مثل وداد، وجزى الله خير المرحوم الطائي أن خلّد للجيل مثل هذه القامات النضالية.

إن عمان اليوم والحمد لله تقدمت بمراحل عديدة، وعلينا أيضا أن نحقق ولو بعض أمانيهم وهم نائمون مطمئنون تحت الثرى بأن تكون عمان الغد أفضل من اليوم، وأن يكون ذلك بالوحدة، وأن يدرك الجيل قوته في ذاته وفي داخله، وأن الاستعمار لا خير فيه، وأن آبائنا لم يكونوا نائمين، فقد ضحوا بقدر ما يستطيعون، فخلد الله أرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية في نفوس كل جيل عاشق لكل حرية ومدنية لأي نفس تعيش في الأرض.

فيسبوك 1436هـ/ 2016م

السابق
الكتاب أداة ترفيه وتسلية
التالي
الوقف في الإسلام ودوره في تنمية المجتمع المدنيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً