المقالات الدينية

تأثير القانون الرّومانيّ على الفقه الإسلاميّ: القواعد الفقهيّة أنموذجا

المجتمع الإنسانيّ في الحقيقة مجتمع متداخل ومتمازج، لا يمكن لثقافة ما دينيّة أم لغويّة أم مجتمعيّة ترى نفسها بياضا ناصعا لم يمتزج بها ألوان من ثقافات عدة.

والجزيرة العربيّة وقت بعثة النّبي عليه الصّلاة والسّلام كانت تعيش أيضا وفق ثقافات متداخلة، كالثّقافة اليهوديّة والمسيحيّة بأقسامها كالقسم الرّومانيّ، بجانب الثّقافات العربيّة الأخرى.

ولما بدأ العرب الحجازيون يتشكلون في دولة مركزيّة على أنقاض فارس والرّوم استفادوا من سياسات الملك عند هذه الدّول، وبعض معالمها المدنيّة كالدّواوين مثلا!!

وعلى العموم استفادة العرب من غيرهم إمّا عن طريق التّاثر المباشر أو عن طريق من دخل الإسلام من أهل هذه الثّقافات، حتى في الجانب الدّينيّ البحت، فدخلت مثلا العديد من القصص والرّوايات والأساطير، ومنها ما أضيف إلى النّبيّ الأكرم مباشرة، أو إلى الصّحابة وآل البيت أو التّابعين، ونحو هذا كرواية أبي هريرة ت 59هـ: خير يوم طلعت فيه الشّمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم السّاعة، قال: قلت له: أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بل شيء حدثناه كعب [توفي قبل 35هـ]، وكعب يحدث عن أهل الكتاب.

وكرواية أبي رافع [توفي قبل 35هـ] عن أبي هريرة: أنّه لقي كعبا، فجعل يحدثه، ويسأله، فقال كعب: ما رأيت أحدا لم يقرأ التّوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة.

من هنا كثر النقل في عهد عمر بن الخطاب ت 23هـ عن أهل الكتاب، وذلك لأنّ في القرآن حلقات وجد البعض متنفسا في سدها من التّوراة، والعديد منها يرفع إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لتلقى قبولا أكبر، وهذا ما أغضب عمر بن الخطاب، حيث قال لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لألحقنك بأرض دوس، وقال لكعب: لتتركن الحديث، أو لألحقنك بأرض القردة.

وعلى العموم في نظري التّأثر طبيعي، ولكن الإشكالية في نسبة الشّي إلى الرّسول أو الصّحابة أو آل البيت لإضفاء جانب شرعي لها يقبل عند عامة النّاس، ولهذا دخلت الكثير من الخلافات الفقهيّة والعقديّة عند آهل الكتاب إلى الفكر الإسلاميّ، ككقضايا الصّفات والرّؤية والخروج من النّار والمعراج وخلق القرآن، وغيرها من المفاهيم، الّتي كانت محل صراع في الفكر اليهوديّ على الخصوص قبل الإسلام بفترة، وأشار إلى ذلك مثلا موسى بن ميمون ت 1204م في بعض كتبه، وأسبينوزا ت ١٦٧٧م في السّياسة والّلاهوت.

وعلى العموم لما قامت التّرجمة تأثر المسلمون أو لنقل الثّقافة الإسلاميّة بالمنطق والفلسفة الإغريقيّة، ولهذا بدأت بعض العلوم تتكون في جانب منطقي تصنيفي، كعلوم اللّغة والآلة وأصول الفقه، ومن هذه العلوم الّتي تأثرت بالقانون الإغريقيّ لاحقا علم القواعد الفقهيّة الّتي هي محل حديثنا اليوم.

والقاعدة الفقهيّة في التعريف الفقهيّ الإسلاميّ هي حكم كليّ ينطبق على جميع جزيئاته أو أكثرها لتعرف أحكامها منه، وتنسب في البداية من حيث النّشأة إلى الأحناف وخصوصا عند أبي طاهر الدّباس [ت في القرن الثّالث الهجريّ] وينسب إليه سبع عشرة قاعدة.

 وللقواعد في الجملة خمس قواعد كبرى، وهي: الأمور بمقاصدها، والضّرر يزال، والعادة محكمة، والمشقة تجلب التّيسير، واليقين لا يزول بالشّك، واختلف في عددها،

ولكنك إذا رجعت قليلا إلى القانون الرّوماني كما في مدونة جونستنيان في الفقه الرّومانيّ، والّذي ترجمه عبد العزيز فهمي، حيث اعتمد في القسطنطينية في 22 نموفمبر عام 533م، أي قبل بعثة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما يقارب سبعين سنة ونيفا، وذلك في عهد الامبراطور الرّوماني جونستنيان ت 565م، ومنها سميت باسمه.

وعندما نتأمل الكتاب وهو الّذي يتكلم عن القوانين الشّخصيّة، والقوانين الملكيّة، والمواريث والوصايا والهبات والالتزامات والأموال والدّعاوى والقضاء وغيرها، نجد التأثير الرّومانيّ على الفقه الإسلاميّ منذ فترة مبكرة، ولا يكون هذا التّشابه محل الصّدفة فقط.

ففي الكتاب مثلا نجد الكتاب أكثر من أربع وثلاثين ومائة قاعدة، تتشابه كثيرا مع القواعد الفقهيّة في التّراث الإسلاميّ ككقاعدة التّابع تابع، واليمين على المدعي، والضّرر يزال، ولا عبرة بالدّلالة في مقابلة التّصريح، والمعلول يدور مع العلة وجودا وعدما، والعادة محكمة، واختيار أهون الشّرين، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا، والعبرة في العقود المقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني، والأصل يتبعه الفرع، ولا ينسب لساكت قول، والأصل في الإنسان البراءة.

إلى غيرها من عشرات القواعد، لا يمكن استيفاؤها في هذا المقال السّريع، وبغض النّظر عن الترجمة وطبيعة ما يماثلها في النص العربيّ، لكن تبقى الفكرة واحدة.

ما أريد قوله هنا أنّ الدّراسات الإنسانيّة في الفكر الإسلاميّ لقراءتها لا يجوز أن تقرأ وكأنها بدأت من نقطة الصّفر، أو نزلت من السّماء هكذا؛ بل هي نتيجة توارث أفكار حضارات وأمم أخرى، تمازجت مع التّأصيل الدّينيّ، والتّنوير القرآني في العديد من المراجعات، مع بعض التّطبيقات النّبويّة، فكانت منظومة الفقه الإسلاميّ بقواعده وأصوله وأدلته وفروعه نتيجة اختلاط واستفادة من تراث ونتاج أمم أخرى أيضا، ولكي تكون الزّاوية سليمة لابدّ من قراءة تراث الأمم الأخرى لأنّه يؤثر جدا في فهم العقليّة الفقهيّة المسلمة ونتاجها الفقهيّ على مر التّأريخ زمنا ومكانا.

فيسبوك 1437هـ/ 2017م

السابق
البنوك التّقليديّة ونكاح المرأة العاهرة
التالي
تحريف القرآن الكريم
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً