تمّ التّسجيل ضمن برنامج حوارات الحلقة السّادسة والتّسعين عن طريق برنامج ZOOM، يوم الأحد 22 شوال 1441هـ/ 14 يونيو 2020م، السّاعة العاشرة والنّصف مساء بتوقيت مسقط، وبثت يوم الاثنين 23 يونيو 2020م على قناة أنس اليوتيوبيّة.
يقول الأب الجليل الدّكتور جميل أسكندر [حنّا أسكندر][1]: نحن الموارنة من صلب النّسيج الشّرقي العربي، ونحن من السّريان الغربيين، ولنا يد طولى في النّهضة العربيّة المعاصرة، ومنّا ظهر كتّاب كثيرون، ونحن كذلك أول من أدخل الطّباعة إلى الشّرق، وهي موجودة في الدّير، فنحن كنيسة صغيرة، لكن كان منّا رموز كبيرة كالقدّيس شربل [ت 1898م]، ومنا من هاجر إلى أوربا وأمريكا.
والقدّيس مارون [ت 410م] ليس له علاقة مباشرة بالموارنة، حيث تأسّست الكنيسة المارونيّة في أواخر القرن الثّامن الميلادي عندما دخل العرب أنطاكية، فانقطعت العلاقة مع بطريرك القسطنطينيّة؛ فاضطر الموارنة إلى انتخاب الرّاهب يوحنّا مارون [ت 707م] أول بطريرك للكنيسة المارونيّة في أنطاكيا، واعتبر الرّوم لخلافهم مع العرب هذا انشقاقا، ومنها حدث صراع كبير بين الرّوم البيزنطيين والموارنة.
وبانتخاب يوحنّا مارون تأسست الكنيسة المارونيّة، وسميت مارونيّة لأنّ الحياة الرّهبانيّة كثرت في القرن الثّالث الميلادي، وقويت أكثر في القرن الرّابع الميلادي، خصوصا بعدما دخل قسطنطين [ت 337م] المسيحيّة بدأ يتدفق النّاس إليها، وبدأت تدخل العادات الوثنيّة في المسيحيّة، لهذا نشطت الحياة الرّهبانيّة في مصر وسوريّة وإيران وتركيا وإيطاليا وغيرها، ومن بين هذه النّشاطات الرّهبانيّة كان نشاط القدّيس مارون، وقد عاش للرّهبانيّة زاهدا متنسكا، صنع المعجزات، وأحبّه النّاس، ولم يكن همّه تأسيس طائفة أو مذهب، وعلى جنبه تأسّست مدرسة لوستيّة يعيشون الإنجيل، وبعد وفاته تنازع وتقاتل النّاس من ينتزع جثمانه؛ لأنّه بركة وصانع للمعجزات، فنشأت أديرة على اسم القدّيس مارون، من بينها دير على ضفاف نهر العاصي قرب حماة اليوم في سوريّة، وكان يوحنّا مارون رئيسا له، وكان فيه ثمانمائة راهبا، وكان رئيسه أسقفا، ثمّ انتخب بطريركا، من هنا بدأ مصطلح الموارنة نسبة إلى هذا الدّير الّذي سمّي تيمنا باسم القدّيس مارون، وكان بين وفاة مارون وظهور المصطلح حوالي أربعمائة سنة.
والدّير ليس كنيسة، والكنيسة هي مجموعة أديرة، وإداريّا للكنيسة رأس وقلب وعامّة النّاس، فهناك كنائس بطريركيّة أي يرأسها بطرك مثل كنيسة موسكو والأقباط والأرمن والسّريان، وهناك كنائس عند الأرثوذوكس مثلا يرأسها أسقف، وهنا أتحدّث عن الكنيسة كجماعة وليس كبناء، وأصل معنى الكنيسة في السّريانيّة والعربيّة أي جماعة أو مجموعة من المؤمنين.
وفي القرآن جاء مصطلح البيع، والبيع هي الكنيسة لها قبّة دائريّة، وفي السّريانيّة البيعة يعني البيضة، أي أعلاها على شكل بيضة، وهنا بمعنى الكنيسة بالشّكل البنائي.
وبالنّسبة لعلاقة الموارنة بالكاثوليك توجد إشكاليّة عند المؤرخين الموارنة، فبعضهم يقول إننا كنّا خارج الكنيسة الكاثولكيّة، ولكن النّاظر في تأريخنا القديم يجد علاقة بين الموارنة والرّوم الكاثوليك من حيث الإيمان ابتداء، حيث حدث صراع بين المسيحيين في ماهيّة طبيعة المسيح بعد مجمع خلقدونيّة سنة 451م، وأحدث هذا المجمع انشقاقا كبيرا، حيث انشقت أربع كنائس عن الكنيسة الرّسميّة: السّريان، والأقباط المصريون، والأرمن، والأحباش، والسّبب اللّاهوتي في الانشقاق – وإن كنت أرى بدايته سياسيّة – هل للمسيح طبيعة لاهوتيّة وناسوتيّة، أم طبيعة لاهوتيّة فقط، فيرى الأقباط واللّاخلقدونيّة أنّ للمسيح طبيعة لاهوتيّة فقط من حيث الأساس، بينما يرى الخلقدونيون للمسيح طبيعتان، وإلا لا معنى للتّجسّد، وحاول الامبراطور التّوفيق بين الفريقين، فقال له طبيعتان ومشيئة واحدة، فازداد الانشقاق والخلاف، والآن بعد دراسة موسعة هناك محاولة للتّوفيق بين الفريقين، وأنّ الخلاف لا يتعدّى الخلاف اللّفظي والمعنى نفسه.
وعموما هذه الكنائس الأرثوذوكسيّة مع الوقت، ومع الإرساليات الغربيّة بعد عصر النّهضة كالبوشيين والعذاريين والكرمليين واليسوعيين إلى اتّجاه الشّرق، وحدث احتكاك مع الكنائس الشّرقيّة، فحدث انفصال، فانشق فريق من الأقباط وتبع روما، وهكذا الحال مع السّريان والأرمن، ولكل كنيسة لها لغتها وطقوسها، ولكن إداريّا تتبع روما.
والكاثوليك يقولون للمسيح طبيعتان ومشيئتان، وبمثله يقول الأرثوذوكس الرّوس واليونان وعموم أروبا الشّرقيّة، خلاف الأقباط والسّريان والأرمن والأحباش فيقولون بالطّبيعة والمشيئة الواحدة، والكنيسة المارونيّة تقول إن للمسيح طبيعتان ومشيئتان، واتّهم الموارنة أنّهم يقولون إنّ له طبيعتان ومشيئة واحدة، ولكن هذا ليس صحيحا.
وأصل المشكلة أنّ هناك فرقا مسيحيّة يهوديّة ونصرانيّة كانت ترفض ألوهيّة المسيح، لكن شبه اندثرت، ولم يبق لها أثر، ولمّا جاء آريوس [ت 336م] قال إذا كان الله واحدا؛ فلا يمكن أن يكون المسيح هو الله، وتابعه الكثير من الأساقفة، وبعض الأباطرة الرّوم، وأصبح العديد معه، وعارضه البابا أثناسيوس [ت 373م] بابا الأسكندريّة الأقباط، وقال إذا الله لم يتجسّد فأين الفداء؟، فلا معنى للفداء بدون تجسّد، ومنها حرم آريوس، وطرد أتباعه إلى خارج الامبراطوريّة الرّومانيّة، وبقي منهم مجموعة سهلوا لدخول العرب إلى الأندلس لاشتراكهم في واحديّة الخالق.
ثمّ ظهرت إشكاليّة هل الله ثلاثة: الآب والابن والرّوح القدس، أم اثنان: الآب والابن، وفي مجمع القسطنطينيّة عام 381م قرروا ألوهيّة الرّوح القدس، وفي القرآن: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النّساء: 171]، ونحن نقول إنّ لله كلمة، والكلمة هي المسيح، والرّوح القدس، ولهذا نقول: الآب والابن والرّوح القدس إله واحد في ثلاثة أقانيم.
ثمّ ظهرت إشكاليّة تتمثل في شخصيّة المسيح، بما أنّه إله متجسّد، هل بقي كاملا، أم صار إنسانا أيضا، فذهب بعضهم من الأقباط والأرمن والسّريان والأحباش هو إله كامل، والطّبيعة البشريّة ذابت في الطّبيعة الإلهيّة كما تذوب قطرة الماء في البحر، فلا وجود للطّبيعة البشريّة، لكن بقي مشكلة الفداء، فهو عاش معنا، وتشبه بنا، فإذا لم يكن إنسانا كاملا؛ فلا معنى أن يكون قدوة لنا، [لهذا قال الآخرون له طبيعتان]، واليوم شبه حلّت هذه القضيّة، واعتبر أنّ الأقباط كان الحق معهم؛ لكن التّعبير كان خاطئا.
[وحول جدليّة الرّوح القدس هل هي منبثقة من الآب والابن، أم من الآب فقط]، ونحن نقول هو منبثق من الآب، لكن ذهب القدّيس شارلمان [814م] في القرن التّاسع الميلادي قال إنّه منبثق من الآب والابن، فأضاف الابن، بينما في مجمع نيقيّة عام 325م بيّنوا أنّ الرّوح القدس منبثق من الآب فقط، وخالف شارلمان ذلك، ومشت الكنيسة الغربيّة على رأي شارلمان، والآن يوجد نوع من المفاوضات استنادا إلى إنجيل يوحنا أنّه منبثق من الآب بالابن، وبهذا تحل الإشكاليّة.
والخلاص عندنا بالإيمان المشروط بالأعمال، من هنا يأتي الاعتراف، فهو قول وعمل، وهذا مبنيّ على حريّة اختيار الإنسان ذاته، يقول القدّيس أغسطينوس [ت 430م]: “الله الّذي خلقك بدونك؛ لا يقدر أن يخلّصك بدونك”، فلابدّ من العمل والمجاهدة للوصول إلى الخلاص.
وصكوك الغفران يختلف عن سر الاعتراف، فعندما كان يبني البابا مبنى كنيسة القدّيس بطرس، وهي كنيسة ضخمة جدّا، وتكلف أموالا ضخمة، وكان البابا بحاجة إلى المال، فباع صكوك الغفران لبناء الكنيسة، هذا هو المشهور، ولكن في نظري ليس هذا أصل المسألة، أصل المسألة سياسي بحت، فالبابا حينها ليس مجرد زعيم ديني فقط؛ بل كان زعيما سياسيّا أيضا، وهناك من الأمراء من يريد التّحررمن سلطته، فالخطأ هنا أنّ الكنيسة دخلت في السّياسة، والسّياسة لا دين لها، فالسّياسي يقتل ويهحر والله لا يرضى بذلك، ورجل الدّين لما يصبح سياسيّا يتصرف مثل السّياسي.
وسر الاعتراف موجود عند جميع المسيحيين بما فيهم البروتستانت، فعند البروتستانت يعترف للرّب مباشرة، وسر الاعتراف عندنا لم يكن مثل اليوم في بدايته، وفي الرّسالة إلى العبرانيين مفادها بعدما تعرّف على الرّب، وأخطأ من جديد؛ لا مجال للغفران، وكان سابقا لمّا يخطأ يدعونه على باب الكنيسة، ويدوسونه على رقبته لأنّه أخطأ، فنفر كثير من النّاس من الخطيّة، ولم يعودوا إليها، ثمّ سهّلوا الأمر وأنشأوا سر الاعتراف بشكله الحالي، فهذه الصّورة ظرفيّة متأخرة، وأساس سر الاعتراف التّوبة مع الله، وبما أنّ الكاهن له سلطة على الكنيسة، ويمثل الله، فالاعتراف أمام الكاهن نوع من المصالحة بين الإنسان والله، والكاهن ليس مجرد إداري في الكنيسة؛ فهو أيضا طبيب روحي.
والموارنة كغيرهم من الأرثوذوكس والكاثوليك يقولون بالأسرار السّبعة، كانوا خلقدونيين أو اللّاخلقدونيين، وصحيح أنّ البروتستانت لا يقولون بسر الكهنوت؛ لكن لديهم المشيخة، وهي قريبة من سر الكهنوت، ومن البروتستانت من يعتبر القربان رمزا وليس حقيقة.
وتفسير أنّ الإنسان خلق على أيقونة الرّب، وأيقونة كلمة يونانيّة تعني صورة، ومنها [على صورة الله حلقه، ذكرا وأنثى خلقهم] [التّكوين: 1/27]، ونحن نقول كمسيحيين أننا لسنا فقط صورة الله؛ بل أولاد الله، وفي رسالة يوحنّا الأولى [3/1-2]: “تأملوا ما أعظم المحبّة الّتي أحبنا بها الآب حتّى صرنا ندعى أولاد الله، ونحن أولاده حقّا، ولكن، بما أنّ أهل العالم لا يعرفون الله، فهم لا يعرفوننا، أيّها الأحباء، نحن الآن أولاد الله، ولا نعلم حتّى الآن ماذا سنكون، لكننا نعلم أنّه متى أظهر المسيح، سنكون مثله، لأنّنا سنراه عندئذ كما هو”.
وجميع الكنائس المسيحيّة تتفق على الأناجيل الأربعة وعلى العهد الجديد والكتاب المقدّس، وأمّا الأناجيل الأخرى كبرنابا ويهوذا وغيرها فهي غير قانونيّة، وتشبه الحديث عند المسلمين، وبما أنّ القرآن هو الأساس للحديث، ومقدّم عليه، فإن وافقه قبل، وإلا ردّ؛ لأنّ الحديث جاء متأخرا، ونحن كذلك، الأناجيل الأربعة كتبت في القرن الأول الميلادي، وبعد ثلاثين سنة من وفاة عيسى، ومن كتبها عاصر المسيح، نعم كانت في البداية شهادات جمّعت، يقال الإنجيل مرقس دوّن في سنة 60 إلى 70م، وتوجد أجزاء صغيرة من أنجيل متّى باليونانيّة في مصر إلى ما قبل 70م، أمّا الأناجيل الأخرى مشكلتها جعلت المسيح أشبه بسوبرمان، أمّا الأناجيل القانونيّة فصوّرت المسيح إنسانا عاديّا، لهذا حدث التّعجب كيف لهذا الإنسان العادي أن يصنع هذه المعجزات، لهذا بعد القرن الثّاني الميلادي لما استقر الوضع على ألوهيّته بدأوا يصوّرونه من البداية أنّه إنسان آخر مختلف، وحتّى في الأيقونات الشّرقيّة والغربيّة ترى المسيح مولودا وهو شاب، هل أحد يولد وهو شاب، هذا أتى تصوّره من الكتب المنحولة، بينما في الأناجيل القانونيّة تكلّم وهو في المهد، وكانت له معاجز، فهذه هي المعجزات الخارقة غير الطّبيعيّة.
وأمّا من حيث الفقه فالمسيح لم يتدخل في القضايا الفقهيّة والشّرعيّة، والمسيحيّة في بدايتها تركت الشّرائع للحكم المدني، فالمسيحيّة في البداية ليست دولة، ولمّا دخلت في الدّولة وهنا تداخل الدّين مع الدّولة، وهنا دخلت الشّرائع الرّومانيّة في الشّريعة الكنسيّة في الزّواج وغيره، كما تأثر التّشريع الكنسي أيضا بالعهد القديم.
ولمّا فتحت الكنيسة الغربيّة مجال التّعليم استفبلت طلابنا من الشّرق، وبدأ التّمازق بين الثّقافتين، وخصوصا ما يتعلق بالطّقوس والصّلوات، فحدث التّأثر بالفكر الغربي، مع بقاء الجوهر.
وهناك فرق في الزّواج بين الرّاهب والكاهن، فالرّاهب فهو المترهب والمبتعد عن العالم متوحدا، ويسكن في الدّير والبراري، فالزّواج يبطل الرّهبنة، فمن أساس الرّاهب التّبتل، ومنه قول امرؤ القيس [ت 540م]:
تضيء الظّلامَ بالعشاء كأنّها منارة مُمْسَى راهب متبتّل
وأمّا الكاهن القائم بخدمة المجتمع في الكنيسة فله أن يتزوّج، وكثير من الكهنة في الشّرق متزوّجون، ولديهم عائلات، وأمّا في الغرب اتّخذت الكنيسة الغربيّة قرارا بعدم زواج الكاهن، وقبل ذلك مسموح عندهم، والآن يدرسون موضوع زواجه، ونحن الموارنة كان جميع كهنتنا متزوجون قديما، ولمّا تأثرنا بالكنيسة الغربيّة أصبح عندنا قسم من الكهنة غير متزوجين.
وعندنا الموارنة فردانيّة في الرّأي، لكل رأيه، مع مشتركات عامّة، فنحن ثلاثة عشر كاهنا في هذا الدّير، وأنّا شخصيّا لي رأيي، خاصّة والكنيسة المارونيّة صغيرة لا تتحمل وجود تيارات كبرى فيها بقدر ما هي آراء فردانيّة، نعم، توجد آراء وخلافات سياسيّة بين الموارنة كمجتمع، وهناك من يكتب ويفكر ويحمل رأيه وتوجهه، لكن داخل الكنيسة يبقى الإيمان المشترك بين الجميع.
ونحن كما أسلفت سريان، وكانت جميع صلواتنا بالسّريانيّة، ولا زال البعض يصلّي بها، لكن في الجملة عرّبت الصّلوات على ذات الوزن واللّحن، ليتمكن الجميع الصّلاة وفهمها.
وأمّا موقفنا من حيث الكنائس المعاصرة كشهود يهوه والمورمون وكنيسة الله القدير فهم كأشخاص نحبّهم، والله أوصانا بمحبّة الجميع، لكن معتقدهم يختلف عن معتقدنا المسيحي في أشياء جوهريّة، مثلا يقول بعضهم أنّ المسيح سوف يحكم الأرض لألف عام، أي ملك أرضي، ونحن نعتقد أنّ السّماء هي الحياة الأبديّة، والعيش مع المسيح إلى الأبد، وهم ينكرون الثّالوث، لهذا أرى هم أقرب إلى الفكر اليهودي منه الفكر المسيحي، وأرى نشأتهم سياسيّة أكثر منها دينيّة، ومدعومون سياسيّا لمناهضة الكنيسة المسيحيّة.
وفي الختام الكنيسة المارونيّة نجحت في تحقيق التّعايش والتّعارف في المجتمع العربي والشّرقي، وأنا أضرب هنا مثلا بالقدّيس شربل، وقد كان راكعا في الكنيسة، فدخل عليه أب لزيارته، ووجده باكيا متحسّرا، وكان القدّيس يومها في السّتينات من عمره، فتعجب الأب لماذا يبكي القدّيس شربل بهذه المرارة، فسأله عن سبب ذلك، فلم يجبه، وألح عليه الأب ثانية ولم يجبه، وألح عليه ثالثة وقال له القدّيس: أجيبك بشرط أن لا تخبر أحدا إلا بعد وفاتي، توفي قريبا منّا رجل من علمان، وعلمان منطقة شيعيّة، وسقطت نفسه في جهنم، فكان يحبّ النّاس جميعا، وليس له أعداء، فقال له الأب: تبكي على إنسان مسلم، وكلّهم هالكون، فلمّا خرج الأب سمع إطلاق رصاص، وعرف أنّ رجلا غنيا كان في أمريكا ظلم النّاس ثمّ توفي [مقتولا]، وأدرك أنّ القدّيس لم يكن يبكِ لأنّه مات شيعيّا، فقد كان يحبّ الجميع، ولكن لأنّ الميّت خالف تعاليم الله بظلمه واستخدامه المال استخداما سلبيّا [حتى ولو كان مسيحيّا الأمر واحد عند القدّيس].
وأخبرتني امرأة لبنانيّة سنيّة من البقاع، وكانت فقيرة جدّا، وكان أبو زوجها يحن عليها، وبنى لها كوخا، ولمّا توفي شمت بها زوجها، وقال لها: ذلك الجبل الّذي كان يحميك سقط، وباع كلّ ما ورثه من أبيه، وترك عائلته في حالة يرثى لها، وكان لديها خمسة أطفال، وطلب منها أبوها أن تتطلق وتترك له أولاده، لكن قلب الأم متعلق بأطفالها، ورفضت ذلك، وكان لديها بنت كبيرة، وعندها بنت أصغر منها وكانت مريضة، ولا يوجد لديها مال لأجل أخذها إلى الطّبيب، فذهبت إلى الطّبيب المجاني، وتركت أطفالها لخمس ساعات، وفي الشّتاء في البقاع برد قارس، ولا يوجد تدفئة، وفجأة دخل إلى بيتهم شيخ كبير في السّن، فخاف الأولاد، وذهب إلى المدفئة، وأشعلها بالزّيت، واجتمع حولها الأولاد للتّدفئة، ثمّ دخل إلى المطبخ وطبخ رز الحليب للأطفال، ثمّ أتى إليهم للتّعليم، حتّى جاءت الأم فخرج مسرعا، فأخبر الأولاد أمّهم بالقصّة، وسألتهم من قام بهذا؟ فأخبروها أنّه شيخ، وبعد أسبوعين من الحدث ذهبوا إلى منطقة مختلطة بين المسيحيين والمسلمين لزيارة أحد أقاربها، وكانت صورة القدّيس شربل معلقة في أحد الأماكن، فقال أحد أطفالهم للأم: أمي هذا الشّيخ الّذي زارنا وعلّمنا.
هنا علينا أن نبعث رسالة الحبّ والتعايش والخدمة، وهذه رسالتنا نحن كموارنة، ورسالتنا جميعا كشرقيين، وهي رسالتنا في العالم أجمع.
[1] الأب الدّكتور جميل أسكندر من لبنان، وهو من رموز المذهب الماروني في لبنان والشّرق عموما، وهو أستاذ تأريخ اللّغات القديمة في الجامعة اللّبنانيّة، وعضو مجلس الأبحاث في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة القدّيس يوسف، له أطروحة دكتوراه حول مكاريوس سمعان المتحول [ت بعد 400م]، وكتاب القدّيس شربل [ت 1898م] كما شاهده معاصروه، وكتاب النّبيّ والتّرهب، والمعموديّة من خلال نصوص القرآن، والجهاد بين الإسلام والمسيحيّة، وله عشرات المؤلفات والأبحاث والمقالات في اللّاهوت المسيحي واللّغات القديمة ومقارنة الأديان والحوار الإسلامي المسيحي، بجانب التّحقيقات العلميّة.