جريدة عٌمان 1443هـ/ 2022م
في صباح الأربعاء الماضي، الحادي عشر من مايو/ أيار، انتشر خبر أسود هزّ العالم أجمع، شرقا وغربا، وانتفضت له وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وشعر الجميع يالحزن والمأساة لهذه الحادثة الإليمة، والّتي لا يكاد تنطفئ إلا وتسمع أخرى، مع القتل والقمع لعشرات من الأطفال بشكل يومي، في أرض مغتصبة لعقود مضت، من قبل كيان لا يكاد يعرف غير لغة القوّة، ونزعت منه حتّى إنسانيّة الحرب، فلم يسلم طفل ولا امرأة ولا شيخ كبير هرم، أخذ منه العمر مبلغه.
هذه الضّحيّة اليوم لصحفيّة ضحت لعقدين من الزّمن في سبيل وصول الكلمة الحرّة إلى العالم عن طريق شبكة الجزيرة العربيّة، بعد عقود قيّدت هذه الكلمة، وأبعد الإعلام عن ذكر ما يحدث هناك، إلا شذرات ممّا ينشره الأحرار على حقيقته، ومقتطفات متناثرة في وسائل الإعلام العربيّة، وأمّا دوليّا فكما يقول إسرائيل شاحاك [معاصر] في كتابه مع نورتون ميزفينسكى [معاصر] بعنوان: “الأصوليّة اليهوديّة في إسرائيل”؛ في تحكم إسرائيل بما ينشر دوليا، وإن كان في معرض آخر، حيث يقول: “وهذه الحقائق نادرا ما تذكر أو توصف بدقة في التّغطية الإعلاميّة الهائلة لإسرائيل في الولايات المتحدة، وفي أماكن أخرى”.
التحقت الصّحفيّة شيرين أبو عقلة إلى شبكة الجزيرة العربيّة عام 1997م، وهي في أواخر العقد الثّالث من عمرها، وقبلها شاركت في مؤسّسات ووكالات إعلاميّة عربيّة ودوليّة، إلا أنّها استقر بها المقام لنشر حقيقة ما يحدث في الواقع الفلسطينيّ مع قناة الجزيرة لعقدين من الزّمن، لما تدركه من أهميّة مصداقيّة الرّسالة الإعلاميّة، ولما تعلمه من المعاناة الّتي يعيشها الشّعب الفلسطينيّ من تكتيم إعلاميّ لعقود خلت، فكانت خير سفير لفلسطين في إيصال الكلمة الحرّة لأكبر مساحة في العالم، فاشتهرت منذ انتفاضة فلسطين عام 2000م، واستطاعت بتضحية وذكاة كسر حاجز الصّمت الدّوليّ والعربيّ، ليؤثر صوتها على ملايين العرب والباحثين عن الكلمة الحرّة في شرق الأرض وغربها، ليشاركوا الشّعب الفلسطينيّ نضالهم، وحقّهم الإنسانيّ، بل وتجاوز ذلك إلى العالم الآخر الّذي ضلل في حقيقة الكلمة، فأصبحت القضيّة الفلسطينيّة بهذا الإعلام الحر الّذي سهامت شيرين في كسره؛ ليست قضيّة عربيّة قوميّة، وإسلاميّة فحسب؛ بل قضيّة إنسانيّة تعاطف معها عشرات المؤسّسات الدوليّة والمدنيّة والإنسانيّة الحرّة، بجانب ملايين الأحرار في العالم، في بمختلف قومياتهم وتوجهاتهم وأديانهم.
إنّ ما قدّمته شيرين أبو عقلة، وهي امرأة ضحت بأسرتها ووقتها، واشترت أثمن عقود حياتها لأجل هذه القضيّة، وكان يمكنها أن تمكث في بيتها، وتتسلى بأطفالها وذاتها، ولكنّها أدركت أمانة الرّسالة الّتي كُتمت حينا من الدّهر، واشترت بذلك مدركة أنّ ثمنه سيكون عمرها ذاته، ففي أيّ وقت قد تنالها يد الغدر أو السّجن أو النّفي أو حتّى الموت، وهذا ما حدث، فلم يشفع لها أنوثتها، ولا سترتها الصّحفيّة؛ لأنّ العدو لا يفهم هذه اللّغة، وهي تدرك ذلك جيّدا، واستعدت له منذ لحظتها الأولى في عملها الرّساليّ، فارتفع حاجز الخوف عنها؛ لأنّ قبرها بنته منذ عقود، وشهادتها لأجل الكلمة الحرّة اشترتها منذ زمن تنتظره، ولا تهاب منه.
لقد التحقت شيرين اليوم بمئات الشّهداء الّذين غطت لهم، وأوصلت حقيقة معاناتهم إلى العالم أجمع، فلن ينس مخيم جنين ما قامت به شيرين في كسر حاجز الصّمت لمعاناتهم منذ ألف 1953م، من فقر وتشريد وحصار، ليزيدهم ألما عام 2002م من اجتياح إسرائيلي، وهدم للمباني وتشريد وتجويع وقتل، فكانت شيرين الصّوت النّاطق لكسر هذه المعاناة، لعلّ العالم يلتفت إليهم بعين الرّحمة والنّصرة، ويدرك حقيقة ما يحدث.
كما لن تنس غزة ما قامت به شيرين لأكثر من غارة على هذه البقعة من الأرض، مع حصار وتجويع لسنين مضت، وقتل وتشريد وإبادة جماعيّة، ولولا تضحيات شيرين ومثيلاتها من الإعلاميين الأحرار، فألهبت قلوب الملايين؛ لكانت غزة اليوم أكبر مقبرة في العصر الحديث.
بل لن تنس فلسطين برمتها هذه المناضلة الإعلاميّة، ستذكرها رام الله وبيت لحم وغزّة ونابلس والخليل وخان يونس وأريحا وقلقيلية وجنين والرّملة ويافا وطولكرم والنّاصرة والقدس وجميع تراب فلسطين، وستذكرها الأجيال كقصّة خالدة لا يتجزأ في النّضال الفلسطينيّ، وتشهد لها المساجد والكنائس وجميع دور العبادة كحمامة حبّ وسلام بينهم، وأنّهم سواء في أرض واحدة، وقضيّة واحدة، لا يفرقهم اختلاف دين وفكر وتوجه، فهذه الأرض احتوت حبّا وسلاما الأديان لمئات السّنين، وعشقها الأنبياء والقدّيسون والفلاسفة، وعاشوا في ترابها، وارتووا من مائها، ونشقوا من هوائها العذب، ليجعلهم أمّة واحدة، في صور وأديان كلّهم سواء في هذه الأرض الطّاهرة.
وممّا يدل على هذا أنّ هذا الشّعب الّذي اعتاد على صوت الأذان، كما اعتاد على أجراس الكنائس، ليعانق المسجد الأقصى كنيسة القيامة، وتعانق القدس بيت لحم، هذه اللّحمة الجميلة تجلّت صورتها مع الفلسطينيين وهم يودعون ويزفون شيرين أبو عقلة إلى مثواها الأخير، ليشكلوا لوحة بهيجة في وقت أظلمت عليهم الدّنيا بفراقها، ليحمل جنازتها المسلمون قبل المسيحيين، ويشارك فيها أطياف أخرى من أديان ومذاهب، يحملونها في أكتافهم متحملين الضّرب من قبل بعض الشّرطة الإسرائيليّة وهم يخرجون من مستشفى القدّيس يوسف، رافضين أن تسقط بأيّ سبيل كان، وفي أيّ حالة كانت.
لقد انتفضت شيرين لانتفاضة عام 2000م، وها هو الشّعب الفلسطينيّ اليوم يرد الجميل بعد اثنين وعشرين عاما، لينتفضوا لجنازتها، ويشاركون إخوانهم المسيحيين في كنيسة البشارة للرّوم الكاثوليك في حارة النّصارى في القدس، فتقرع أجراس الكنيسة مرحبة بالجميع، وأنّهم جميعا أمّة واحدة، يجمعهم تراب وماهيّة وقضيّة واحدة، وكأنّ يسوع (عيسى) المسيح يستقبلهم، كما استقبل من قبلهم السّامريين ومن لحق به من الفريسيين والصّدوقيين والآسينيين ومن الأغيار، فجعلهم أمّة واحدة، معلنا: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السّلام، وبالنّاس المسرة” [لوقا: الإصحاح 2/ آية 14].
لقد عاشت شيرين لفلسطين، ولم تفرق بين رام الله وغزة، فرثتها فتح وحماس، وكأنّها روحا واحدة بين أخوين لجسد واحد، فأكرمتها رام الله بجنازة عسكريّة مهيبة، حضرها رئيس منظمة التّحرير الفلسطينيّة محمود عبّاس، كما أدانت حماس هذه الجريمة، واعتبرتها شهيدة الكلمة الحرّة، بجانب تضامنت وأدانت جميع الجبهات الفلسطينيّة، اليساريّة واليمينيّة معا، حيث وحدت شيرين جميع الفصائل والأحزاب الفلسطينيّة؛ لأنّ رسالتها كانت واحدة، هي التّراب الفلسطينيّ الّذي يسع الجميع.
هذه الرّسالة الواحدة تجسّدت في جيل فلسطين الحاليّ، وهم آلاف من الفتيان والفتيات، متحملين معاناة الحواجز الأمنيّة الإسرائيليّة، والّتي حاولت منعهم من المشاركة، هؤلاء الفتيان جمعتهم روح واحدة، ليشيعوا شيرين إلى عالمها الآخر في مقبرة جبل صهيون بالخليل في القدس، لتودعهم وهي في قبرها مرسلة لهم أنّ القوّة في الوحدة، والتّنوع حالة طبيعيّة وصحيّة لأنّه من مشكاة واحدة، وتراب واحد، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه/ 55].
عاشت شيرين أبو عقلة في بيوتنا عشرين عاما، فلم نلتفت إلى دينها ولم تلفتنا إليه؛ لأنّها عاشت بيننا بإنسانيتها وقضيّتها، فلم يهمنا يوما دينها ومسلكها؛ لأنّ الإنسانيّة تسع الجميع، والبشر جميعا أبناء بيت واحد، ما يضرّ بعضهم يضرّ الجميع، وما يسعد بعضهم يبهج الكل، ومن قتل نفسا بغير حق فكأنّما قتل البشر جميعا، ومن أحيا نفسا أمنا وتعليما وحريّة فكأنّما أحيا النّاس جميعا.
هذه الرّحمة وسعت النّاس جميعا، بفطرتهم وماهيّتهم الإنسانيّة الواسعة، فقتلت شيرين، فتعاطف لإنسانيّتها الجميع، فلم يعنيهم دينها ولا مذهبها ولا توجهها، بقدر ما كان يعنيهم إنسانيّتها، وما قدّمته من نضال، ولإدراكهم رحمة الله وعدله الّذي لا يظلم أحدا، فسبحان من خلق، وسبحان مطلق العدل والرّحمة، ولا يظلم ربّك أحدا.