جريدة عمان 1443هـ/ 2021م
يقرر القرآن الكريم أنّه {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران/ 67]، في حين درج العديد من علماء الأديان في جعل اليهوديّة والنصّرانيّة أديانا إبراهيميّة، وفي نظري لا تعارض بينهما، فالآية تشير إلى أنّ صفتين لإبراهيم: الحنيفيّة والاستسلام لله، وبينهما ترابط، فالتّوحيد يؤدي إلى الاستسلام، وعلماء الأديان يقصدون بذلك من خلال نسب التّقابس أكثر منه نسب الجنس، بمعنى الكلّ ينتسب إلى إبراهيم ويعظّمه، وفي الوقت نفسه نجد هذه الأديان متقابسة من بعضها، إمّا بمعنى التّأثر الطّبيعيّ في الأفكار، أو بمعنى تطور النّبوات حسب الزّمكانيّة.
ويسميها بعضهم بالأديان التّوحيديّة بمعنى انتقال الجنس البشري من تعدد الآلهة إلى الإله الواحد، وهذا محل نظر؛ لأنّه نبوات وأديان سبقت إبراهيم كانت تعتقد بالواحدية، ولكن عاش إبراهيم في بيئة ترى تعدد تصوّر الآلهة من الشّمس والنّجوم والكواكب، ومن تجسيد الإله إلى أصنام وثنيّة، ولهذا بقت دعوته مجسّدَة في التّوراة من خلال الوصايا العشر الّتي أنزلت على موسى، وأقرت بنودها الكبرى جميع الأديان الإبراهيميّة: “لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما ممّا في السّماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ، لأنّي أنا الرّب إلهك إله غيور” [سفر الخروج، الإصحاح: 20، آية: 4].
وتسمّى أيضا بالأديان السّماويّة نسبة إلى السّمو والارتفاع، أو لأنّ تعاليمها علويّة ليست أرضيّة، أو لأنّ الله مصدر هذه الأديان وهو الرّب السّماوي أي المتعالي، بغض النّظر عن جدليّة المكان، وليس محلّ بيانه الآن.
ومن حيث العدد يرى علماء الأديان في الجملة أنّ الأديان الإبراهيميّة ثلاثة: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وذكر هذا من حيث التّأثير والانتشار، واليهوديّة وإن كانت ليست منتشرة كالمسيحيّة والإسلام باعتبارها ديانة ليست تبشيريّة، إلا أنّ تأثيرها قوي في الدّيانتين، وجميع الدّيانات اللّاحقة تقابست منها في اللّاهوت والتّفاسير وسير الأنبياء والشّرائع.
ولكن المتأمل في الأديان الإبراهيميّة أنّها أربعة أديان رئيسة، وثلاثة أديان تفرعت منها أو تأثرت بها، أمّا الأديان الأربعة: السّامرية واليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وأمّا الثّلاثة: الصّابئة المندائيون والسّيخيّة والبهائيّة، هذا إذا اعتبرنا المومرمون مذهبا مسيحيّا، وليست ديانة منبثقة من المسيحيّة؛ لأنّ لهم كتابا مقدّسا وهو كتاب مورمون الشّهادة الثّانية ليسوع المسيح، وكنيستهم تسمّى بكنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة، وأسّسها جوزيف سميث [ت 1844م]، فقد أتى إليه الوحي، ودلّه على هذه ألواح كتاب المورمون، وهي ألواح قديمة قام بترجمتها إلى الإنجليزيّة.
والبعض يرى السّامريّة واليهوديّة ديانة واحدة، وجعل العقاد [ت 1964م] في كتابه “حياة المسيح” السّامريّة مذهبا يهوديّا، وهذا خطأ معرفي ينكره السّامريون واليهود معا، والمشترك بين السّامريين واليهود أربعة: جنس بني إسرائيل، وخاتميّة نبوة موسى، والإيمان بالأسفار الخمسة من التّوراة، والاهتمام بشريعة موسى الأولى، والسّامريون يرون أنّهم الوريث الحقيقي لبني إسرائيل، واليهود خليط من أجناس مختلفة بعد السّبي البابلي، ومصطلحي السّامريّة نسبة إلى السّامرة وهو متأخر، وكذلك اليهوديّة نسبة إلى مملكة يهوذا على الأشهر وهو متأخر، أي بعد انقسام مملكة إسرائيل الشّماليّة والجنوبيّة، ثمّ السّبي البابلي للجنوبيّة، وبعد مائتين سنة كان السّبيّ الأشوري للشّماليّة، فأدخل اليهود نصوصا وشرائع جديدة (التّلمود) ممّا جعلهم ديانة مستقلة.
وأمّا المسيحيّة فيسميها اليهود والمسلمون بالنّصرانيّة، نسبة على الأشهر إلى مدينة النّاصرة، وفيها بشّر الملاك مريم بالحمل وولادة المسيح عيسى (عليه السّلام)، إلا أنّ المسيحيين في الجملة يرفضون هذا المصطلح، ويرون أنّ فرقة النّصرانيّة كانت موجودة بعد المسيح، وتشترط للدّخول في المسيحيّة لابدّ من الدّخول في اليهوديّة أولا قبل التّعميد، ثمّ الدّخول في المسيحيّة، وناظرهم بولس وبرنابا في مجمع أورشليم سنة 50 و51م.
وأمّا الصّابئة المندائيون فيقتربون من المسيحيّة من جهة التّعميد، كما يقتربون من الشّريعة اليهوديّة، وينتسبون إلى يحيى ابن زكريا النّبيّ، إلا أنّهم يرون أنّ صحفهم قديمة ترجع إلى آدم وشيث ونحوهم، وهم موحدون، وحدث خلط بينهم وبين صابئة حران الّذين يعبدون الكواكب، ولعلّ في نظري صابئة حران سامريون، والسّامريون لا يعبدون الكواكب، ولكن يهتمون بعلم النّجوم والتّنجيم والأفلاك منذ فترة قديمة جدّا.
وأمّا السّيخيّة فليست ديانة إبراهيميّة، وأصلها ديانة هندوسيّة، وولدت من رحمها إلا أنّ الغورو ناناك [ت 1539م] وهو الغورو الأول تأثر بالصّوفيّة المسلمين الهنود وعلى رأسهم تراث بابا فريد الدّين مسعود [ت 1265م]، وهو من كبار المتصوّفة المسلمين الهنود في الطّريقة الحبشيّة، لهذا كانت السّيخيّة خليطا من الإسلام والمسيحيّة.
وأمّا البهائيّة كما أشرت في كتابي إضاءة قلم “ترجع في أصلها إلى الشّيخيّة عند الشّيعة الإماميّة، وتأسيسها يعود إلى حسين علي النّوريّ الملقب ببهاء الله [ت 1892م] في إيران، وهو الّذي آمن بدعوة الباب عليّ محمّد الشّيرازيّ [ت 1850م]، وأنّ حسين النّوري هو من بشره الباب بأنّه من يظهره الله، وموعود الظّهورات السّابقة، وأتى بكتاب الأقدس، وفيه نسخ للعديد من الأحكام القرآنيّة كالصّلاة والصّيام والميراث، وهذا الكتاب هو المقدّس عند البهائيّة، ولهم كتاب آخر له قيمته الدّينيّة وهو الإيقان والوديان السّبعة، وجاء من بعده وواصل مسيرته عبد البهاء عباس أفنديّ [ت 1921م]”، والبعض يعتبر البهائيّة مذهبا إسلاميّا عرفانيّا كالدّروز المنبثقة من الشّيعة الإسماعيليّة، إلا أنّ البهائيين يعتبرون أنفسهم ديانة مستقلة.
وعموما لمّا نأتي إلى عيد القربان نجده ملاصقا للدّيانات الإبراهيميّة الأربعة: السّامرية واليهوديّة والمسيحيّة والإسلام بصورة واضحة، خلاف الدّيانات الأخرى بقت معها بشكل رمزي بعيد لا أكثر.
والقربان كما جاء في المعجم الوسيط، مادّة قرب: “كلّ ما يتقرب به إلى الله عزّ وجلّ من ذبيحة وغيرها”، وفي السّامريّة مرتبط بعيد الفصح، وهو ذكرى نجاة موسى من فرعون، وفي التّوراة السّامريّة، سفر الخروج، الإصحاح: 12، آية 1- 6: “وقال الله لموسى وهارون في أرض مصر قولا: الشّهر هذا لكم أجل الشّهور، أول هو لكم لشهور السّنة، خاطبوا الآن كلّ جماعة بني إسرائيل قولا: في عاشر من الشّهر هذا أن يأخذوا لهم كل امرئ رأسا للبيت، فإن يكمل البيت عن قدر الرّأس فليأخذ هو وساكنه القريب إلى بيته بقسط بقسط النّفوس، كلّ امرئ بحسب أكله توزعون على الرّأس، رأسا كاملا ذكرا ابن سنة، يكون لكم من الحملان ومن الماعو تأخذون، ويكون لكم حفظا إلى أربعة عشر يوما من الشّهر هذا”، وعليه الذّبح حمل ابن سنة يكون خاليا من العيوب، ويصاحبه الحج إلى جبل جرزيم في شكيم، أي مدينة نابلس حاليا في فلسطين.
وأمّا عند اليهود فمثل الّذي عند السّامريين، ويكون حملا ابن سنة خاليا من العيوب، ويصاحبه الحج إلى جبل صهيون حيث الهيكل، أو على الأقل حائط المبكى الّذي بني في عهد هيردوس الرّوماني [ت 4 ق م]، وبقي حتّى الآن بعد تدمير الهيكل كما يروون.
وأمّا ما جاء في رواية ابن عباس “أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال الرّسول: نحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه”، فهذا يصادف يوم الفصح، ويوم الفصح يوم عيد لا يصومه السّامريون ولا اليهود، وفي الرّواية خطأ تأريخيّ بينت سببه في الرّحلة الظّفاريّة فليرجع إليه، وإنّما الرّواية تصادف يوم الغفران، “بعدما جسّدوا (يهوه) عجلا جسدا له خوار، حيث أضلّهم السّامريّ، لمّا كان موسى في الجبل، كما في سفر الخروج، الأصحاح: 32”.
وأمّا المسيحيون فصادف القبض على المسيح حسب الأناجيل عندهم أيام الفصح، وكان الوالي بيلاطس في عيد الفصح يطلق أسيرا واحدا كما جاء في إنجيل متّى، الإصحاح: 27: “وكان الوالي معتادا في العيد أن يطلق للجمع أسيرا واحدا من أرادوه، وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمّى باراباس، ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم باراباس أم يسوع الّذي يدعى المسيح، لأنّه علم أنّهم أسلموه حسدا …. فقالوا باراباس ….. فقال لهم بيلاطس: فماذا أفعل بيسوع الّذي يدعى المسيح؟ قال له الجميع: ليصلب، فقال الوالي: وأيّ شر عمل، قال له الجميع: ليصلب”، فكان المسيح قربانا ضحي به في يوم الفصح، ولهذا يرى المسيحيون أنّ بقربان المسيح يكون الخلاص، وبه تحوّل القربان من صورة حقيقيّة إلى صورة رمزيّة، فأصبح سرّا من أسرار الكنيسة السّبعة كما عند الأرثذوكس والكاثوليك، ومن سري التّعميد والقربان كما عند البروتستانت، والقربان هنا الخبز مع الخمر في قدّاس الأحد، ويحتفلون بعيد الفصح مع عيد القيامة، أي بعد قيام المسيح بعد ثلاثة أيام، وفيه تجسيد لقربان المسيح وخلاصه للبشريّة، ويسبقه كما عند الأرثذوكس الصّوم الكبير.
أمّا عند المسلمين فمع تشابه الشّريعة الإسلاميّة مع الشّريعة السّامريّة واليهوديّة إلا أنّهم ربطوا القربان بإبراهيم عليه السّلام، عندما أراد ذبح ابنه إسماعيل على المشهور، وفي هذه المسألة كما يفول ابن تيميّة [ت 728هـ/ 1328م] في الفتاوى [4/204] “مذهبان مشهوران للعلماء، وكل منهما مذكور عن طائفة من السّلف، وذكر أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد، ونصرَ أنّه إسحاق، اتّباعا لأبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر اتّبع محمّد بن جرير، ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي أنّ أصحاب أحمد ينصرون أنّه إسحاق، وإنّما ينصره هذان، ومن اتّبعهما، ويحكى ذلك عن مالك نفسه، لكن خالفه طائفة من أصحابه”، إلا أنّ المشهور كما أسلفنا عند المسلمين خلافا للسّامريين واليهود والمسيحيين هو إسماعيل.
ولهذا المسلمون يجسّدون فداء إبراهيم بالهدي للقارن لمن ساق ذبيحته، والمتمتع في الحج، وبالأضاحي استحبابا – كما تحدّثنا في المقال السّابق -، وإن لم يوجد ذكر للأضاحي في القرآن، ولا يوجد ربط بين فداء إبراهيم بكبش عظيم وبين الهدي، وإنّما فهومات من الخارج، ومع هذا يكون الهدي والأضاحي في اليوم العاشر من ذي الحجّة إلى اليوم الرّابع عشر، ويكون حمل سنة خال من العيوب، وكما أجازوا أن يكون ضأنا أكمل ستة أشهر، أو يشترك سبعة في بقرة أكملت سنتين، أو أبل أكمل خمس سنين، ويسمون يوم القربان بعيد الأضحى أي من التّضحية، أو العيد الكبير بعد عيد الفطر الصّغير، أو عيد الحج لأنّه يصادف حج العام، ويكون في الهدي بعد وقفة عرفة نسبة إلى جبل عرفة والإفاضة إلى مزدلفة ورمي الجمرة الكبرى في منطقة منى.
وخلاصة ما سبق أنّ الأعياد الثّلاثة: الفصح والقيامة والأضحى، هي عيد القربان في الأديان الإبراهيميّة الأربعة، بقت طقسا حسّيّا ممارسا عند السّامريين واليهود والمسلمين، ورمزا ممارسا عند المسيحيين.