اطّلعتُ على مقطع منتشر للأخ فيصل الحربيّ من المملكة العربيّة السّعوديّة، والّذي يهمني من المقطع قوله: [أعلن تركي للدّين الإسلاميّ، دين القمع والاستبداد، وسلب الإنسان حرياته، ويسهل للطّغاة والحكام استعباد الإنسان، وجعله أداة للحروب القمعيّة والعبثيّة].
وهذه ليست الصّورة الأولى الّتي تمر عليّ، ومنها نماذج قريبة، فقبل فترة بسيطة جدّا جلستُ مع رجل أربعينيّ عندنا تعرض لظلم كبير، جعله يترك الصّلاة والصّيام ولا يؤمن إلا بالله فقط، وأصبح ساخطا على مذهبه ودينه، مع أنّه من أسرة لها جذورها الفقهيّ والعلميّ، وممّا قاله لي: كنتُ لا تفارقني صلاة، أمّا الآن فأكره شيء عندي هو الصّلاة!!!
وفي الحقيقة من تأمل الأديان جميعا، بعيدا عن التّأريخ وإضافات الرّواة، وشروحات الفقهاء جاءت لمقارعة الظّلم ومحاربته؛ لأنّ الظّلم عكس العدل، ولا يجتمعان بحال أبدا، ولست هنا في إيراد النّصوص ففي سفر أشعياء من العهد القديم [1:17]: تعلّموا فعل الخير، اطلبوا الحقّ، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة.
وفي العهد الجديد في أنجيل لوقا [16: 11-12]: الأمين في القليل أمين أيضا في الكثير، والظّالم في القليل ظالم أيضا في الكثير، فإن لم تكونوا أمناء في مال الظّلم؛ فمن يأتمنكم على الحق؟!!
وفي القرآن الكريم في سورة النّحل: 90: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] والبغي هو الظّلم.
والإشكاليّة في نسبة الظّلم إلى الإسلام سببه إمّا سوء فهم بعض النّصوص القرآنيّة، أو قراءتها في غير سياقها الموضعيّ والظّرفيّ، أو توظيفيها في غير محلّها، ومثل هذا قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التّوبة/ 5]، فيقرأ سياق الآية الظّرفيّة بعيدا عن سياق الآيات المحكمات، كقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة/8]، وقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال/ 61].
والسّورة نفسها افتتحت بذكر أربع صور: الصّورة الأولى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. والصّورة الثّانية: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التّوبة/ 6]. والصّورة الثّالثة: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التّوبة/ 7]. والصّورة الرابعة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}. فالسّورة تصوّر لك الحال التي وصل إليها المشركون من حيث أكبر درجات الاعتداء والتّعاون مع الأمم الأخرى في إلحاق الضّرر بالمؤمنين، وعدم التزام المواثيق والعهود، ومع ذلك راعى القرآن الأشهر الحرم والّتي هي مقدّسة عند العرب مؤمنهم ومشركهم. فهناك أصل من خلال الصّورة: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، فإذا نقضت هذه الصّورة كانت الصورة الأخرى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي المحارب شريطة {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة/90]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال/ 61].
وإن أظهرت فئة أنّها تدخل في الدّين الجديد، فيشهدون أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهؤلاء يؤخذون على ظاهرهم دون تتبع وتجسس، وإن لم يؤمنوا به حقيقة، كما حدث عند فتح مكة، وهي صورة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وهناك فئة أخرى لا تدخل في الدّين ولكنها ترجع إلى السّلم وتطلب الأمان: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.
فنجد الآيات عالجت هذه الصّور المتكررة، إلا أنّ النّاس للأسف نزعوا هذا الصّور واكتفوا بصورة واحدة، وجعلوها حاكمة على غيرها.
وإمّا سببه الإضافة المسندة إلى الرّسول أو الصّحابة والتّابعين كرواية حذيفة بن اليمان [ت 36هـ] قلتُ: يا رسول الله، إنا كنّا بشرّ، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟ قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشّر خير؟ قال: نعم، قلت: فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشّياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع.
أو سببه بعض التّطبيقات السّلبيّة في التّأريخ كمقتل سعد بن عبادة [ت 15هـ] ودعوى قتلته الجنّ، وحروب الفتنة كالجمل وصفين والنّهروان، وما بعدها من أحداث، على أنّ التّأريخ لا علاقة له بالنّص الدّينيّ، وإنّما هو مرحلة بشريّة قد تنزل النّصوص وفق أهوائها، أو تخترع نصوصا تدعمها، أو تضع فقهاء يبررون ظلمها، على أنّ التّأريخ كتب وفق أهواء السّاسة والحروب، وغاب التّدوين الحضاري الكبير في الأمّة، وهو الصّورة المشرقة الأخرى.
أو سببه تبريرات رجال الدّين والفقهاء المعاصرين، إمّا لكونهم ضحيّة اجتهادات سابقة، أو لأجل مصالح دنيويّة آنية يجنونها كمنصب أو مال أو شهرة، أو نتيجة ضغوطات يضطهدون بها؟ وللأسف ليس حال الفقيه هذا فحسب؛ بل حال حتى المثقف ومن يكون في خانة اليسار!!
فكون الأخ الحربيّ اقتنع بمنهج أو دين آخر هو حرّ في ذلك، ولا أنازعه فيه، ولكن اختلف معه في كلامه: [أعلن تركي للدّين الإسلاميّ، دين القمع والاستبداد، وسلب الإنسان حرياته، ويسهل للطّغاة والحكام استعباد الإنسان، وجعله أداة للحروب القمعيّة والعبثيّة]، هذا كلام عام خلط بين النّص المقدّس والتّطبيق، وبين الدّين والتّدين، وبين الإلهيّ والتّأريخيّ، والحكم على الشّيء يبنى على أدلّة، وبما أنّه لم يأت بأدلّة فيكتفي بما أشرت إليه من أسباب، وهناك أسباب أخرى نتركها لعلّ مناسبة أخرى نتحدّث فيها حولها….
فيسبوك 1440هـ/ 2019م