قرأتُ ما دار من جدل حول مقطعين منتشرين لسؤال وجه بداية إلى الشّيخ وسيم يوسف لمتصل يظهر من صوته أنّه من المغرب، هل صيامه باطل، فأجابه وسيم يوسف أنّ صيامه صحيح، وبين أنّ ترك الصّلاة تكاسلا ذنب كبير، ومعصية من الكبائر، فهو مأجور بصيامه آثم بترك صلاته، وقاسه على الرّجل الّذي يصوم وهو لابس الذّهب، وكذا الحال مع صيام المرأة المتبرجة، فهو آثم بلبسه للذّهب والمرأة آثمة بتبرجها، والاثنان صيامهما صحيح.
ووجه ذات السّؤال إلى الشّيخ كهلان الخروصيّ من متصل اسمه حاتم الرّحبيّ من سلطنة عمان، في برنامج سؤال أهل الذّكر في القناة العمانيّة، فانطلق الشّيخ من بعض الرّوايات كرواية لا صوم إلا بالكف عن محارم الله، ورواية من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، فكيف بالصّلاة، ورواية الغيبة تنقض الوضوء وتفطر الصّائم، ورواية لا إيمان لمن لا صلاة له، وعليه من ضيّع صلاته فلا يقبل سائر عمله؛ بل صلاته تدعو عليه يوم القيامة.
وفهم من كلام الشّيخ كهلان أنّه رد على الشّيخ وسيم يوسف، لذا كان مقطع آخر انتشر للشّيخ وسيم يوسف في قناة أبو ظبي أنّه رد على الشّيخ كهلان وعلل وجهة نظره منطلقا: أننا مقرون أنّ الله تعالى يتقبل من التّقي ولكن علم التّقي عند الله تعالى وحده، ثمّ دخل في قضيّة التّكفير، وهو أنّ المتكاسل في ترك الصّلاة لا يكفر، وتكفير الآخر هو بداية إراقة الدّماء، وتهميش الآخر وإقصائه، ثمّ رد على الاستدلال بالرّوايات وأنّها ليست شاهدا في بطلان صحة الصّوم، فرواية مثلا من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، أي لا يعني أنّ الّذي عمل الزّور أو اغتاب يباح له الفطر في نهار رمضان، وهذه الرّوايات تقرأ في كمال الصّوم لا في صحته!!!
وعموما الّذي يهمني هنا اللّغط، والبحث حول الدّائرة غير المشتركة، وعدم تقعيد المسألة من أساسها لفهم الآخر، فالشّيخان متفقان في عظم مكانة الصّلاة، وجلالة قدرها عند الله تعالى، كما أنّهما متفقان على أنّ تارك الصّلاة تكاسلا ليس كافرا مليّا، والأول صرح، والثّاني بناء على مقتضى مذهبه أي المذهب الإباضي، فالإشكاليّة هنا ليس في الصّلاة وإنّما في صحة الصّيام، وهل ترك الصّلاة ينقضه أم لا؟
قبل الحديث عن هذا المحور لابدّ من التّفريق بين المصطلحات، ومنها القبول والصّحة؛ لأنّ نفي القبول لا يعني نفي الصّحة، ونفي القبول أحيانا يرادف الصّحة وأحيان يخص الثّواب، وعادة في الفقه يستخدم الثّاني من باب التّفريق خلافا لبعض النّصوص الّتي يأتي أحيانا فيها مرادفا وأحيانا مخصصا، كرواية لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يتوضأ بمعنى لا تصح صلاته بدون وضوء فيكون مرادفا، ورواية ومن أتى كاهنا فلن تقبل منه صلاة أربعين يوما بمعنى الثّواب، مع صحة صلاته.
ونعود هنا إلى السّؤال هل ترك الصّلاة ينقض الصّيام ويفسده؟ وهذا ينطبق على من يرى بفسق تارك الصّلاة تكاسلا وهم الجمهور خلافا لبعض أهل الحديث من يرون الكفر المليّ لتارك الصّلاة ولو تكاسلا، لظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التّوبة/ 5]، فاشترط توبتهم مع الصّلاة والزّكاة، ولظاهر الرّواية: العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة، فمن تركها فقد كفر، وهؤلاء لا ينطبق عندهم هذا التّأصيل؛ لأنّه بتركه الصّلاة ولو تكاسلا خرج من الدّين، وإن رجع جبّ ما قبل، ولا يؤمر بقضاء صلاته ولا صيامه، إلا إذا رجع وتاب في وقت العصر فيؤمر بقضاء الظّهر عند من يقول باشتراك الوقتين، أو رجع في منتصف رمضان فيؤمر أن يقضي ما قبله على اعتبار رمضان فريضة واحدة، وإن اعتبر كلّ يوم فريضة لا يؤمر، فهذا الفريق لا علاقة له بهذا المبحث رأسا.
وإنّما الّذي له علاقة من يفسق ولا يكفر من تركها تكاسلا، وهذا قول الجمهور، وهنا نتحدث عن المبحث الفقهيّ لا عن المبحث الكلاميّ في إبطال العمل، فعند الإباضيّة والمعتزلة والزّيديّة أنّ عمله باطل بمعنى الثّواب لا بمعنى الصّحة في الحكم العمليّ، فعندهم الكبائر محبطة للعمل ما لم يتب منها، ولكن فعله للكبيرة لا ينقض صحة العمل ما لم يعمل داخل الماهيّة، أو ليس متعلّقا بها، وهذا خلاف الأشاعرة والماتريدية والإماميّة فيرون الكبائر لا تحبط الأعمال، وإنّما الشّرك والكفر هو الوحيد المحبط للعمل، وعليه يظلّ تحت المشيئة الإلهيّة إن شاء تاب عليه أو عذبه لفترة محددة ثمّ يخرج من النّار، وهذا هو الخلاف الكلاميّ، وليس متعلّق البحث بين الطّرفين.
والخلاف في المسألة هل الكبائر تنقض الصّيام أم لا عمليّا، فذهب الجمهور أنّها لا تنقض الصّيام، وذهب البعض أنّها تنقض الصّيام لظاهر رواية الغيبة تنقض الوضوء وتفطر الصّائم، فقيس عليها باقي الكبائر، وقيل الكبائر لا تنقض إلا ما خص كالغيبة، وأمّا رواية خمس خصال يفطرن الصّائم وينقضن الوضوء: الكذب والغيبة والنّميمة والنّظر بشهوة واليمين الكاذبة فعندهم حديث موضوع، وقيل لا ينقض إلا داخل الماهيّة كترك الصّلاة أثناء الصّيام، فقد فعل كبيرة أثناء إشغال الذّمة.
هذه الأقوال من حيث الأهميّة والتّأصيل العام، واختلف في مصاديقها من حيث القضاء والكفارة، وهذا ليس مبحثنا حتى لا نطيل على القراء الكرام، وإنّما نعود إلى الشّيخين الجليلين، فكلام الشّيخ وسيم يوسف لا غبار عليه من حيث التّقعيد الفقهيّ، فهو لا يرى نقض الصّوم بفعل الكبيرة، وإنّما يترتب عليه الإثم، وكذا قول الشّيخ كهلان أخذ برأي – وإن لم يصرح – بالنّقض إمّا قياسا، أو لأنّ التّرك داخل الماهية!!!
هذا التّقعيد الّذي يضيق الخناق بين المختلفين للأسف ينحرف إلى جدل لا قيمة له وغير مؤصل، وتحاسب فيه النّيات، وأحيانا يصاحبه بذاءة لسان!!
ومع هذا يؤخذ على الشّيخ وسيم يوسف في مقطعه الأخير أنّ الحكم بفساد صومه لا يعني التّكفير والإقصاء والتّهميش، فلا علاقة بينهما رأسا، فالّذي يتحدث في صلاته يحكم ببطلانها، والحكم ببطلانها لا يعني تكفيره وإقصاؤه وتهميشه، ولكن هذه مسألة تأصيليّة، والكفر أو الإقصاء أو التّهميش ليس من المصاديق اللّازمة لها، خلاف النّقض والفساد، ووقوع هذا بناء على تأصيل القضيّة من حيث ما يفسدها وينقضها، فقد يكون الدّليل قطعيّا في الصّيام كالأكل والشّرب والجماع، وقد يكون ظنيا كالغيبة، وقد يكون قياسا كباقي الكبائر، والأدلّة الظّنيّة والقياسيّة ليست من مسائل الدّين وإنّما من مسائل الرّأي، ومسائل الرّأي لا يكفر من قال بخلافها أحد اتفاقا؛ بل حتى مسائل الدّين من تركها تكاسلا لا يلزم بها كفر مليّ كما أسلفنا!!
وأمّا كفر النّعمة فهو مصطلح يطلقه الإباضيّة بمعنى الفسوق، ويطلق عليه غيرهم كفر دون كفر، أو الكفر الأصغر، فلا مشاحة في الاصطلاح.
وأيضا يؤخذ على الشّيخ كهلان عدم تأصيل المسألة فقها؛ وإن قلنا هذا من باب المقاصد حتى لا يتهاون النّاس بترك الصّلاة إلا أنّ المقاصد في الجملة ليست دليلا، وإنّما غايات يسعى إلى تحقيقها، والحكم الشّرعيّ فقها مبني على الدّليل الإجماليّ، وإن أدخل بعضهم سدّ الذّرائع من الأدلة الإجماليّة وهذا مبحث آخر، ولي نظر حوله.
وعموما احترم رأي الشّيخين كليّا، إلا أنّ اللّغط غير العلميّ والمؤصل لا يخدم أحدا، وجميل للإنسان أن يبحث ويكتشف ويقعد القضايا علميّا ومنهجيّا، والحمد لله ربّ العالمين.
فيسبوك 1439هـ/ 2018م